الخميس 2 آب (أغسطس) 2012

لبنان بلا مقاومة... وهم ومُحال

الخميس 2 آب (أغسطس) 2012 par نصري الصايغ

هل لبنان بحاجة إلى سلاح المقاومة؟

لدينا جوابان في لبنان. الأول: لا مبرر له. المقاومة حجة. فليدخل السلاح «بيت الطاعة»، وليخرج من «أهل البيت»، وليتحرر من ولاية الفقيه، وليصبح تحت إمرة الجيش اللبناني... الثاني: لا بد من استبقاء السلاح وتنويعه وتطويره وتحضيره للمواجهة، فما بين المقاومة وإسرائيل، صراع على مراحل، تفوقت فيه المقاومة على العدو، والعدو يتربص وينتهز الفرصة، للانقضاض على المقاومة ولإخراجها من المعادلة.

هذا طبيعي في لبنان. قلنا مراراً، هذا بلد لم يتوحد على قضية. وليس في المنظور من التطورات الجارية، أي مسلك يتوحد فيه اللبنانيون... لبنان قام على القسمة والانقسام، ولن يشذ عن هذه القاعدة. وقد بلغ الانقسام درجة بات فيها كل فريق عدواً للآخر، وكل عدو يحضر لمعركته بما يلزم من تحالفات إقليمية ودولية، بانتظار لحظة الانقضاض.

لنخرج من هذه الساحة الرثة.. ما قيل ويقال عن سلاح المقاومة بات مكروراً ومستعاداً ومضجراً ولا جديد فيه... ابتعد الكلام عن جادة الجواب الذي يجيد لغة الحساب، والذي من المفترض ان يتضمن تفسيراً علمياً وسياسياً واستراتيجياً، عن حاجة لبنان، الكيان والدولة، إلى سلاح المقاومة أو عدم حاجته إليه.

نبدأ من حيث يجب... أي من تجارب الآخرين، لنقدِّم خلاصات تجارب، عاشتها أمم وشعوب، على مر التاريخ. ولأن المكان لا يتسع لعرض مستفيض، نكتفي بنماذج وإحصاءات وشواهد:

السلام نادر الوجود. الحروب رئة الدول والمجتمعات. محاولات البشرية لقتل الحرب، باءت بالفشل. الحرب لا عمر لها، إنها من عمر الإنسان وهي خالدة ولا تموت إلا بموت البشرية...

أرقام مذهلة تؤيد هذه المقدمات: ما بين العام 1496 ق.م. والعام 1861 ب.م. عرف العالم سلاماً لمدة 270 عاماً فقط، مقابل 3130 عاماً، شهدت فيها البشرية 14542 حرباً. أي كل 13 سنة حرب تقابلها سنة سلام واحدة. وما بين العام 1945 حتى الحرب العراقية ـ الإيرانية، وقع 127 نزاعاً مسلحاً (اندريه فونتين، «لوموند»، 11 تشرين أول 1980).

العالم إذاً، يعيش في حالة عداء، أو في حالات عدوان، ومتشوق إلى السلام، البلاد العربية، أحوج الدول إلى السلام. منذ قرن والعنف يقيم فيها، بكل أشكاله وكوارثه. منذ سايكس ـ بيكو ووعد بلفور، حتى اللحظة، وهو يعاني سكرات العنف، بلا أفق سلام.

الاختراع العجيب الذي خرج به العالم هو التالي: لا بد من العنف من أجل بلوغ السلام... تشرشل وايزنهاور اتفقا على أن «نتقدم إلى السلام الدائم عبر خفض التسلّح، ولبلوغ ذلك، علينا تطوير قوانا المسلحة». وقال اتشسون: «علينا بناء قوتنا المسلحة من أجل السلام... ولكي نحافظ على السلام نحن بحاجة إلى جيش قوي». أما كارتر الحائز جائزة نوبل للسلام، فقد كرر ما قيل قبله والتزم به: «الضمانة الأكثر دواماً للسلام، هي القوة المسلحة». (من كتاب حوار الحفاة والعقارب... لكاتب هذا المقال). إذاً، لكي تحصل على السلام، عليك أن تستعد للحرب. وعندما تحارب فإنك تتطلع إلى السلام، والطريقة الفضلى لنزع الأسلحة هي في زيادة التسلح، والطريقة الأسلم لبناء السلام، هي أن تمارس الحرب.

هل العالم راهناً، يسير وفق هذه الثنائية؟ هل ما بين «إسرائيل» والمنطقة، هو ضمن هذا السياق؟

÷ ÷ ÷

انه عالم مزدوج. قايين الأول قتل أخاه، وقايين العصر حوّل الأرض إلى مذبحة.

يبدو أن العالم ليس مبتسماً. هو عالم ملبد بالعداء. والعدو كامن أو معلن. وقيل في أسباب عدوانية الإنسان أقوال فلسفية كثيرة. فلاسفة كبار فلسفوا هذه المعضلة القاتلة. لعل أبرزهم، كان قد توصل إلى خلاصة: «الإنسان، ذئب لأخيه الإنسان». (من كتاب ليفياتان، لتوماس هوبز).

رواية الفيلسوف بوليب مع القائد الروماني سيبيون، تفسر حاجة الدول إلى أعداء. من دون أعداء، تضعف الدول، تتبدّد عناصرها، تصير هزيلة ومهددة، وتصاب بالكسل. فالعنف محرّض لقوى الشعوب، ومستنفر لفعالية الدولة.

تقول الرواية إن سيبيون، بعد تدميره قرطاجة وإحراقها، آخر المدن المعادية لروما، انتحى جانبا وراح يبكي وهو يردد شعار هوميروس:

«سيأتي اليوم الذي تهلك فيه ايليون المقدسة وبريام... سيهلك معها، كما يهلك الشعب كله»

دهش بوليب، كيف لقائد منتصر أن يتصرف كمهزوم؟ سأله وأجاب: «لم يعد لروما أعداء». فهم بوليب المغزى، وتولى مهمة البحث عن أعداء لروما. ولقد وجدهم في «البرابرة». وهؤلاء هم أعداء روما القدماء الذين دمّرتهم وحوّلتهم إلى برابرة. (إرهاب).

قد لا تكون هذه الرواية القديمة كافية، لنعرف في أي عالم نعيش، وفي أي نظام دولي وإقليمي ومحلي نتحرك، ولندرك أننا من هذا الكوكب، وان في هذا الكوكب دولا وجيوشاً ووزراء دفاع وعسكر وحروب، وان في هذا الكوكب دولة واحدة ليس فيها جيش ولا وزير دفاع، بل وزير سلام، هي دولة الفاتيكان.

الكاتب الأميركي روبرت كاغان يقدم صورة رمزية للعالم اليوم. تصوره معاصر جداً، كتبه إبان نشوء خلاف عميق بين أميركا وبعض أوروبا، عندما قررت واشنطن غزو العراق بحجة انه عدو خطير، مع أنه بعيد من واشنطن. كل واحد منهما في طرف في هذا الكوكب.

يقول كاغان: العالم يشبه غابة، وفي هذه الغابة عدو علينا أن نبحث عنه ونجده، قبل أن يعلن عن نفسه ويهاجمنا. الأوروبيون كدول، يتصرفون في هذه الغابة بطريقة مختلفة. إنهم ينتظرون العدو كي يظهر ويعلن عن نفسه ويهاجمهم. إن أوروبا تعرف ان الغابة مليئة بالأعداء. وعجزها يمنعها من البحث عنه واكتشافه. أميركا أكثر قوة، فأينما ضربت تجد عدواً. فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، العدو الأكبر، وجدت أميركا أعداداً لا تحصى من الأعداء...

أميركا تقرر من هو عدوّها... ولو لم يؤذها، أو من لا طاقة وقدرة له على إيذائها... والبشرية تعرفت على نمط التمييز هذا، فليس من حق الضعفاء أن يكونوا أعداء وليس في قدرتهم ذلك... الأقوياء يختارون أعداءهم، وفق مصالحهم وثقافتهم وطريقة رؤيتهم للعالم.

÷ ÷ ÷

لنعد إلى المقاومة الإسلامية في لبنان.

هل تفي الروايتان، كقاعدة يؤسس عليها فهمنا للعالم؟ هل ترشدنا لنؤكد فهمنا للمحيط الذي يعيش فيه لبنان، حيث الحروب لم تتوقف، والعنف لم يهدأ، وأنه ذاق طعم الحروب الصغرى والكبرى مراراً، وان أي تخيل لشرق أوسط مسالم وهادئ هو أضغاث آمال تتحوّل إلى كوارث.

لنعد إلى السؤال الأول الآن: هل لبنان بحاجة إلى استمرار المقاومة؟ أو، هل حذفها يأخذه إلى السلامة، ولو أعمى بصره عن قضايا المنطقة المتصلة اتصال الجنين بالرحم، بالداخل اللبناني برمّته؟ هل نعي أن لبنان، وحيد بين دول المنطقة، الذي عاش سابقاً ويعيش راهناً وسيعيش مستقبلاً، على إيقاع الخارج، حروباً وصراعات ومعارك وهدنات؟

للإجابة لا بد من المزيد:

أولاً: ضعف لبنان لم يشكل حماية له، لا من الإخوة الطامحين ولا من الأعداء الطامعين... لو كان قوياً لتمكن من منع الفلسطينيين مثلا، من تكوين قواعد عسكرية في الجنوب وتحويل المخيمات كلها إلى معاقل مقاومة، ما فتح الباب على صدامات دامية، واجتياحات حاسمة، قصمت وحدته الهشة وعاثت في نسيجه تمزقاً.

ثانياً: الجيش اللبناني، كما كان وكما هو عليه وكما سيكون، ليس بمقدوره أن يتصدى بفعالية لأي خطر خارجي، وتحديداً الخطر «الإسرائيلي»... ما بين الجيشين ما لم يردم من الهوة المتسعة باستمرار.

ثالثاً: «إسرائيل» ثكنة سياسية/ عسكرية، لم نعتدِ عليها. هي فعل عدوان في المنطقة، يصيب لبنان في صميم مجتمعه، حتى إذا كانت قواته العسكرية تعتدي على شعب أو دولة أخرى. إذا اعتدت على إيران أصيب لبنان. إذا اعتدت على سوريا انتفض نصف لبنان الخ.

لبنان، جغرافياً، لا مفر من جيرة عدو. لبنان تاريخياً، لا مفر من الاستفادة من تجارب المواجهة: تخاذلاً وانتصاراً. التخاذل سمح بالاحتلال، والمقاومة ألغته.

رابعاً: لا يذكر التاريخ أبداً، أن دولة أو ثورة أو مقاومة سلّمت أوراق قوتها، وتحديداً سلاحها، بعد انتصارها. الدولة إذا انتصرت في حروبها، زادت من حجم تسلحها. والثورة (المقاومة) عندما تنتصر، تستحوذ على السلطة، وتصير المقاومة عمودها الفقري... وحده المهزوم يسلّم سلاحه، أو يُنتزع منه، ويُقضى على عقيدته وتُسلب منه حقوقه.

ان بناء القوة العسكرية هاجس الدول كلها. يذكر الكاتب جان بيكون في كتابه Les Saigneurs de la Gerre ان حجم الإنفاق العسكري في كل الدول، بما فيها الفقيرة، يفوق الإنفاق على الصحة والتعليم و... ومعظم الديون متأتية من «التنمية المستدامة» للقوات المسلحة. ويذكر جان كريستوف روفان في كتابه L’Empire et les nouveaux barbares، انه كان متوقعاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي واختفاء حلف وارسو ان ينخفض حجم الإنفاق العسكري لدى حلف الأطلسي. غريب، أميركا بمفردها تفوقت في إنفاقها على خمس دول صناعية كبرى بما فيها الصين. أما «إسرائيل»، فلا حاجة إلى قول في ما تملكه من أسلحة وما تتزود به من عتاد حديث وسوبر حديث، وما تعده من خطط وتدريبات من أجل الحفاظ على منسوب قوتها الفائق. ومع ذلك فإن رئيس المحكمة العليا السابق في «إسرائيل» قلق جداً من انخفاض الإرادة الوطنية في القتال، «انه يمنعني من النوم ويضر بصحتي كثيراً».

خامساً: ابتدعت المقاومة الإسلامية في لبنان، مدرسة في القتال والصمود والدفاع والإنجاز، جعلت من لبنان الدولة الأقوى التي تخشاها «إسرائيل»، ولا تتجرأ على أن تعتدي عليه. حصّنت المقاومة لبنان من الابتزاز السياسي الدولي... دولة ضعيفة البنية، بمقاومة قوية. تقول لا لأميركا وتهدد «إسرائيل» إذا غامرت بعدوان بما بعد بعد حيفا وسواها من المدن والمستوطنات... إن مطلب نزع سلاح المقاومة، هو استسلام كامل لإسرائيل. وهذا جنون لا تعيره المقاومة إلا الصواب في الالتزام.

سادساً: إشكالية الدولة والمقاومة قابلة للحل. الدول الضعيفة غير قادرة على تحمل أعباء بناء قوة عسكرية باهظة الكلفة، وعلى إعداد جيش للمواجهة. في ميدان المعركة مع القوى الكبرى، المقاومة أولاً، والجيش أخيراً. تسقط الجيوش وتزدهر المقاومة، عندما تكون نسبة التوازن بين القوى العسكرية كبيرة... لا طائل من جيش جرار، في مواجهة قوة عظمى... المقاومة أخرجت أميركا من العراق، صفر اليدين، ولو لم تنسحب بتدبير إقليمي، لكانت أصيبت بما أصابها عندما هربت من فيتنام... إمكانية الحل تقوم على جعل الجيش مقاومة، وليس العكس، أي ضم المقاومة إلى الجيش.

سابعاً: حجة السيادة ساقطة. ليس للبنانيين مفهوم واحد للسيادة. فالسيادة لدى السياديين منتهكة من طوائفياتهم. الطوائفية أكلت سيادة الدولة، وسيادة مؤسسات الدولة، قضاء وأمنا وجيشا وإدارة وسياسة. ومع ذلك، فلنفرض ان للدولة مفهومها العمومي المتعارف عليه للسيادة، فإن المقاومة، في ظروف المواجهة الخارجية، هي عامل من عوامل تدعيم السيادة، لا انتقاصها... غضب العالم على المقاومة، ليس بسبب انتقامها للسيادة، بل لأنها ضد «إسرائيل»... وحلف المقاومة مع من يدعمها، ليس جديداً، فلا دولة بلا أحلاف، ومعاهدات وصداقات، ولا مقاومة أيضاً من دون ذلك. المشكلة ليست في من يحالف المقاومة، بل المشكلة ان من يحالفها هو ضد «إسرائيل».

÷ ÷ ÷

أخيراً لم تعد المقاومة طارئة على الكيان. انها اليوم، أحد أعمدة الكيان. هي كالطوائف، جزء مختلف، في أساس هذا الكيان. لا يمكن تصوّر لبنان الحاضر والمستقبل، من دون ان تكون المقاومة مكوناً من مكوناته الفضلى.

شيعيتها، مشكلة طائفية، تحل بالتوافق الطائفي المعهود. والشيعية السياسية، كالمارونية السياسية، كالسنية السياسية، إلى انحسار. لا طائفة تستطيع التحكم بلبنان. غير أن المقاومة، برغم من شيعيتها المفرطة، ثقيلة الوطء على «إسرائيل»، وليس على لبنان. ما يريده أهل النظام الطائفي، ان تحتل الشيعية السياسية موقعها السيئ، من دون فضيلة سلاحها المقاوم.

أما استعمال السلاح في الداخل فله كلام آخر، عنوانه: «طول عمرو لبنان، يلجأ إلى السلاح لحل مشكلات طوائفياته، ويفشل».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2165586

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165586 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010