الأربعاء 25 كانون الثاني (يناير) 2012

حوّل علي أبو طوق ورفاقه بدمائهم أكواخ شاتيلا الى أمنع حصن في القرن العشرين

الأربعاء 25 كانون الثاني (يناير) 2012 par معين الطاهر

[/
هذه صفحات من كتاب خطه علي ابو طوق بدمائه. اجتزئها من الذاكرة كما هي ، وبدون خيال أو رتوش، وبلا تدخل أو اضافه من جانبي. بل قد يعتري هذه الصفحات الكثير من النقص، ويتملكنا الاحساس بالقصور تجاه ذكراه. اذ ان للذاكرة الانسانية عذرا في ضعفها ، وعذرنا نحن أن الفعل الانساني يتفوق دوما على محاولات تدوينه . خصوصا اذا كان الفعل ينبض بحيوية علي ، وفانيه عن ذاته ، ويلتحم بالشعب ويعمل من أجله ، فينزرع في تراب الوطن ، ويتحد مع دماء الشهداء وأعترف منذ البدء أن السير بمحاذاة علي لم يخلو من صعوبة على الكثيرين من رفاقه اذ ان عليا كان يؤمن بأننا لم نقدم كل ما نملك من أجل الارتقاء بالثورة ، وتصعيد كفاحها ،وتصليب بنائها . فالثورة في نظره فعل مستمر .. لايهدأ..ولا يتوقف .. لذا فان أي جهد يبذل هو خطوة من أجل بذل جهد أكبر منه . وأي انجاز يسجل لا يعدو كونه علامة مضيئةعلى طريق تسجيل انجاز أكثر اهمية . فعلي لم يكن قط مثاليا - بالمعنى الفلسفي - ولا سلطويا، بقدر ما كانت افكاره تندمج في الواقع . ويعبر عنها من خلال الممارسة العملية . ولعلي اسجل هنا : انه لم يحفر خندق لم يضرب فيه علي ضربة معول. ولم يبن موقع أو دشمة لم تدم فيها يداه. ولم يتألم مقاتل الا وكان علي بجانبه .. يمسح عنه جروحه ويخفف ألمه ومعاناته.

ولأن علي كان كذلك فان شعور اخوانه بالمسافة التي سبقهم فيها . سرعان ما يتحول من شعور يصعوبة اللحاق به ، الى الأمل بمواكيته والسير معه، وحيثما كان علي ، وفي اي موقع حل . سواء في برج الشمالي أو النبطية .. البقاع أو طرابلس.. البداوي أو شاتيلا . فان بصماته الخاصة سرعان ما تطبع المكان بطابعها المميز . ووجوده يطلق اشارة البدء لبناء نموذج ثوري متقدم ترى كم مرة جرح علي ؟؟ احاول ان أتذكر . فهو قد جرح الجرح فوق الجرح فوق الجرح . أذكر أن المرة الأولى كانت سنة 1976حيث كان يشغل موقع قيادة منطقة رأس النبع في بيروت . وتمكن مع اخوانه من حماية المنطقة بل ومن انقاذ حي البرجاوي المجاور والممتد على شكل شريط ضيق داخل حي الأشرفية . ومنع قوات الكتائب من احتلاله . وضمن بذلك سلامة المناطق الاسلامية في رأس النبع والبسطه .

على أن الانجاز الأهم الذي سجله تمثل في حماية أمن سكانها، من نهب وترويع عملاء الأجهزة ومروجي الفتنة الطائفية وتجار الحروب المتسترين ببعض اليافطات الوطنية. في رأس النبع أنقذ علي أرواح العشرات من سكانها. وأقام اللجان الشعبية من سكانها بحيث استحالت المنطقة بأسرها أسرة واحدة كبيره، ولم يرق هذا لجمع من المتضررين ، فكان أن دبروا محاولة لاغتياله..وهنا افتعل بعض المشبوهين مشكلة، اطلق خلالها أحدهم النار عليه من بندقية كلاشنكوف . فكان أن امسك علي بعد اصابته بالبندقية ويد القاتل قابضة على زنادها . وحولها من صدره الى صدر القاتل . وخرج علي يومها بجراح وكسور في الساق وحروق شديدة في اليدين.

وقبل ان يمضي شهر على ذلك، عاد علي الى راس النبع ،التي كانت نيران القناصة تؤرق بعض شوارعها . وأراد مشاركة اخوانه في بناء متراس يحمي رؤوس الأطفال الأبرياء من الطلقات الغادرة . الا أن القناص المتربص ، الذي هاله منظر الشاب الذي يحمل كيس رمل بيد و يتكأ على عكازته باليد الأخرى ، عاجله بطلقة أصابت ذات الساق الملفوفة بالجبس . وليترك الجرح وساما دائما تجلى في عرجة خفيفة ظلت تميزعلي حين يطل علينا من بعيد.

في سنة 1980 حاز علي وساما آخر . بينما كان يقوم مع عدد من اخوانه بتنفيذ خطة تجهيز هندسي على الحد الأمامي في منطقة كفر تبنيت. اذ انفجر لغم نالته منه شظية أصابت ساقه الأخرى
ولم تمض أيام حتى كان على رأس عمله من جديد. يومها انتقد بعض اخوانه موقفه هذا ، عبر سالة وجهوها اليه ، واستهلوها بالقول “ان عليا قدوة لاخوانه المقاتلين ومثلا لهم وقد علمهم أن الفدائي ملك للثورة والشعب . لذا فانهم ينتقدون سلوكه الذي يتضمن استهتارا بالاصابة. وعدم الاهتمام الكافي باستمرار العلاج ..”.

يومها اشرق وجه علي خجلا .. وبعناده المعهود حاول المقاومة والدفاع .. استخدم كل المبررات الممكنة للرد على هذا النقد .. وفي نهاية المطاف استسلم لمنطق النقد الموجه اليه من أحبائه واخوانه . وجرى تعميم الرسالة بعد تذييلها بوعد من علي بأن يهتم أكثر بجراحه وصحته . لكن لعله الوعد الوحيد الذي لم ينفذه.

أما في مخيم البداوي فقد اصيب علي بجراح طفيفه ناجمة عن صاروخ ضل طريقه ، وجاء يسعى لاقتلاع الثورة عن جذورها ، ورميها الى البحر والمنافي .ولكن خلف هذه الجراح الطفيفة .. استقر جرح عميق في وجدانه منذ أن بدأت الطلقات التي ضلت الطريق تدوي في سناء البقاع . كان علي يدرك بحدس الثائر أن هدف هذا الاقتتال ابعاد المقاتلين عن ساحة الصراع ضد العدو الصهيوني. ولذا ووسط اتون الطلقات الضالة ظل علي يتحين الفرص لتنفيذ عملية أو ارسال دورية ضد العدو الصهيوني . لعل انفجار لغم تحت دبابة صهيونية يلفت أنظار هؤلاء ويجذب البنادق في اتجاهها الصحيح.

وفي طرابلس الواقعة تحت الحصار. أحال علي أيامه الأخيرة فيها الى ورشة عمل دائم. استدعى عشرات الأخوة من الجنوب وبيروت والجبل والبقاع . قابلهم ورتب معهم خطط عملهم ضد العدو الصهيوني. نقل الأسلحة والذخائر من شمال لبنان الى جنوبه عبر كل الوسائل المتاحة والمبتكرة وابلغنا قراره “لن اخرج سأتوجه الى الجنوب” كان يدرك أن الثورة تسترجع عافيتها عبر الصراع ضد العدو الصهيوني. ولذا رفض ركوب البحر ووافقه اخوانه على ما يريد . الا ان الرياح جرت بما لا يشتهي . فقد اصيب أحد اخوانه في الليلة الأخيرة مما اضطره لمرافقة الكتيبة الى الجزائر . يومها بكى علي .. كان يبكي كطفل صغير ضل الطريق ... ولم تمض بضعة أسابيع حتى كان واخوانه في طليعة العائدين الى ساحة الصراع.

عاد علي وفي ذهنه هاجس واحد .. كيف يمكن تصعيد الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني . كيف يمكن توحيد جهد كل القوى المؤمنة بالجهاد ضده . كان هدفه واضحا للعيان ورؤيته ثاقبه وسلاحه مسدد نحو العدو الصهيوني ، والبذور التي زرعتها الثورة قد انبتت وأينعت أزهارها التي استحالت حمما ضد المحتل . ولذا كان لابد ان توضع العراقيل في وجه الذاهبين للقاء العدو.

وكعادته اختار علي الموقع الأصعب .. اختار الانحياز الى شاتيلا التي احالها الى شوكة في عين المعتدي. وحصنا صامدا لايقهر على ضآلة مساحتها . وبهت الذي ظن أن قتل علي يسقط شاتيلا . والتفت شاتيلا حول علي تحميه ويحميها . وتخرجه سالما من وسط كواتم الصوت والعبوات الناسفة . كان علي لا يهتم بالجراح التي يصاب بها قدر اهتمامه بتوفير جرعة ماء لطفل ظمآن . وعندما استشهد لم تسقط شاتيلا حضنته في رحمها لتبدأ به حياتها من جديد.

لا يستقيم الحديث عن علي دون أن نذكر أم أحمد ... أم الشهيدين .. كان علي ينتظر أم أحمد قبل كل عيد . اذ تأتي الى الجنوب تحمل ما صنعته يداها من الحلوى . وتصر رغم عمرها أن توزعها بنفسها على كل المواقع .وكانت ام احمد تنتظر علي صبيحة كل يوم عيد على مائدة الافطار في بيتها بعد زيارة مقبرة الشهداء.

وبين علي وأم أحمد ود خاص . كانت أم أحمد ترى في علي ابنها الأصغر ..جمال .. الذي استشهد في صنين . وكان هو يرى فيها والدته التي لم يرها منذ أكثر من خمس عشر عاما.

ذات يوم أطلقت أم أحمد على علي اسم عمر بن الخطاب . وعندما سألتها سبب التسمية قالت “كنت في الجنوب لتوزيع حلوى العيد على المواقع . وعلى طول الطريق لم يتناول علي شيئا منها رغم اصراري عليه . وفي الموقع الآخير بقيت قطعة كعك واحده .ناولتها له وقلت له جاء دورك الآن وبينما هو يهم بتناولها واذ بأحد الأخوة يصل الى الموقع ، فما كان من علي الا أن ناوله قطعته ، وعاد معنا وهو مسرور الخاطر ، و أنا ساهمة أفكر بتفانيه وزهده” .

ثمة عاده لم يتخل عنها علي.. مساء كل يوم يسأل عن جدول الحراسة .. يتعرف على أخر حرس .. يؤكد على الضابط المناوب وجوب ايقاظه في الصباح الباكر .. وذائما كان اخر حرس يقابل ذلك بابتسامة ماكرة ترتسم على شفتيه . . فالجميع يعرفون أن ثمة علاقة خاصه بين علي وشروق الشمس . كما أنهم يعرفون أن هناك ساعة داخليه لعلها مزروعة في قلبه ، توقظه في الوقت الذي يشاء . وما أن يلمح علي ابتسامة الحارس حتى يبادره القول بنبرة جاده : “معلش هذا واجبك انت .. مش تنسى تصحيني .. في شغل ضروري لازم نخلصه” وفي الصباح الباكر وقبل أن يدرك الحارس أن الوقت قد حان يقف علي أمامه وفي يده ابريق شاي ساخن.

في قاطع النبطية - الشقيف كان علي يعمب بلا كلل ولا ملل ولا توقف . اذ أنه منذ اليوم الأول لتموضع الكتيبة فيها أدرك جسامة المهة التي ألقيت كاهله. قيادة وتحصين الحد الأمامي للقوات الفلسطينية اللبنانية المشتركة في قلعة الشقيف ،أرنون ، كفر تبنيت وحرش النبي طاهر . لم تكن المهمة سهلة ، كم أن توقيتها كان استثنائيا . اذ تحركت وحدته نحو المنطقة فور تعرضها لهجوم شرس نفذه لواء جولاني الصهيوني معززا بلواء من سلاح المظليين . وفي الصباح الباكر وبينما كان ابطال كتيبة بيت المقدس يحتفلون بدحرهم لهذا الهجوم على أبواب القلعة ، أغارت عليها الطائرات الاسرائيلية ، وكأنها تريد الانتقام لخسائرهم الفادحة . فأحالت الطابق الوحيد المتبقي منها ، بعد المعارك الطاحنة التي شهدتها على مدى ثلاث سنوات الى ركام . يومها احتضنت القلعة شهدائها . ويومها أخذ علي واخوانه على أنفسهم عهدا أن لا يجرح فدائي في الحد الأمامي من جراء قصف العدو الذي أصبح يوميا وعتادا . وأن يدفع العدو ثمنا ياهظا لأي اعتداء يقوم به.

وبدأت ورشة عمل طويلة ، ادرك علي من خلالها أنه يحتاج الي عمل خلية نحل كامله . وكان هو محورها الذي لا يستكين . يرتب كل الجهود وينسقها .. يجعلها تتكامل في نظام فريد . قوات القسطل ، وحدة الهندسة ، الميليشيا ، التنظيم الطلابي ، مجموعات المتطوعين للحفر والتحصين ، المشغل المركزي . طلاب وطالبات الجامعات . فصائل عسكريه تساهم بدورها في تعزيز الجهد القتالي . مرافقو القائد العام يفرزون مجموعة منهم للمشاركة في هذا الجهد . طالب يدرس التاريخ في الجامعة الأمريكية يعثر في مكتبة الجامعة على مخطوط قديم للقلعة يكون له فائدة كبرى في التعرف عليها من تحت انقاضها . طلاب وخريجو الهندسة يشكلون فصيلا دائما لمتابعة أعمال الحفر والتحصين.

وتسأل عن علي خلال ذلك فتجده ذهب ليقنع سائق جرافة من صيدا بضرورة العمل نهارا وفي مواجهة العدو . .. على ساحل البحر مع طالبات الجامعة في تعبئة أكياس الرمل ونقلها للمواقع . في المشغل المركزي يعاين الدشم الحديدية الجاهزة ويشرف على نقلها ووضعها في أماكنها . يقص قضبان سكة الحديد القديمة لاستخدامها في التحصين . يشرح لفصيل جديد الحق بنا واجبه القتالي . يتابع حفر نفق في القلعه . أو خندق في كفر تبنيت ، او ينهي بناء دشمة رشاش في الحرش . يحضر اجتماعا للفصائل لبحث تعزيز مشاركتهم في تعزيز الجهد القتالي . يجتمع مع اللجنة الشعبية في بيت المختار .

جهد كبير مركزه علي أبو طوق ، ونتيجته التي تسجل بكل فخر ..... في حرب الاستنزاف سنة 1981 خسائرنا شهيد واحد . في القصف اليومي الذي شهدته المواقع خلال اكثر من سنتين . خسائرنا شهيد وجريح . أما في حرب 1982رغم عنف وضراوة القصف المدفعي والصاروخي والجوي والذي استمر أكثر من 48 ساعة متواصلة . فلم يجرح مقاتل واحد في الحد الأمامي للقوات من جراء هذا القصف . ،، وكان المقتلون في مواقعهم وتحصيناتهم عنما بدأ الاشتاباك مع قوات العدو وآلياته ومن مسافات قصيرة . وهو ما شكل مفاجأة كبيره للعدو دفع ثمنها غاليا.

على بقايا جدار في قلعة الشقيف . وفي مجلة حائط المدافعين عنها . اختصر أحد المقاتلين تاريخ القلعة بالقول “بناها بوفور... حررها صلاح الدين ... غير معالمها علي أبو طوق” وقبل أن يتعجل أحدنا في تقييم مدى المبالغة في هذا القول . لنستمع معا الى ما ذكرني به أحد رفاق علي ممن أمضى فترة من الوقت في القلعة . قال :“على بعد أمتار من القلعة يوجد مرتفع هام أطلقنا عليه اسم المطار لوجود مهبط للطائرات المروحية عليه . وكان العدو من نقاط مراقبته يشرف على هذا المطار .. لذا فقد اصبح التواجد فيه أو التحرك باتجاهه محفوف بالمخاطر . ونظرا لأهميته الدفاعية فقد قرر الأخ علي أن نحفر به شبكة من الخنادق ، تنتهي بدشمتين للرشاشات . على أن نقوم بسقف أجزاء من هذه الخنادق بالاسمنت المسلح وذلك لحماية المقاتلين من شظايا القذائف الانشطاريه . أخذنا نحفر ليلا لنتجنب ما أمكن مراقبة العدو. وكيف جلس معنا ، لييشرح لنا أهمية تواجدنا في هذا الموقع الذي استشهد أجدادنا من أجل الدفاع عنه . على ان الليلة الحاسمة كانت يوم أن تقرر سقف أجزاء من الخندق . اذبعد أن أنجزنا الجبلة” خلطة الاسمنت " بدأ العدو بقصفنا قصفا شديدا ومركزا . قفزنا الى الخنادق وانتظرنا لبعض الوقت . تعاملت خلاله مدفعيتنا مع مصادر نيران العدو . كان واضحا من طبيعة القصف أن العدو يريد أن يمنعنا من اكمال تحصيناتنا . فجأة لمع في ذهن علي بارق خاطف . أوقف رماية مدفعيتنا .. تحدث مع الشهيد راسم ببضع كلمات . ثم قفزا سويا الى خارج الخندق وما ان عادا اليه حتى دوى انفجار القذائف من جديد . شرح لنا علي المطلوب عمله . يقفز اثنان يحملان تنكه ومجرفه الى حيث جبلة الاسمنت . تعبأ التنكة بسرعة وتلقى على السطح ثم يقفزان بسرعة الى الخندق . في حين ينصت شخص ثالث لصوت اطلاق المدفعية النعادية . اذ أن هنالك بضع ثواني تفصل صوت الاطلاق عن وصول القذائف وانفجارها . وخلال ذلك تقفزان الى الخندق مجددا، لتنطلق مجموعة أخرى فور انفجار القذائف . وأخذنا نعمل على هذا الحال وعلي معنا حتى انجزنا العمل المطلوب كاملا . ذهبنا بعد ذلك الى النوم ونحن جميعا في حالة تعب شديد . في حين ذهب الأخ علي الي قيادة الكتيبة في النبطية لتصريف بعض الأعمال . في الساعة الخامسة صباحا استيقظنا على أصوات في الخارج . كان الأخ علي هناك يعمل منذ بعض الوقت وعرفنا أنه ادرك بعد ذهابه ان الموقع لم يتم تمويهه في الليل . وبقيت بعض البراميل والأخشاب والمعدات . لذا عاد باكرا لينهي ما بدأناه قبل أن يستيقظ طيران العدو أو تصحو نقاط مراقبته . ورفض أن يوقظنا لعلمه بما أصابنا من ارهاق وتعب .

ترى هل نستغرب بعد ذلك اذ أطلق مقاتل آخر على قلعة الشقيف اسم «قلعة أبو طوق» على أن هم علي الأوحد لم يكن منصّبا على انجاز خطة التحصين فحسب . بقدر ما كان موجها الى الانسان ... المقاتل .. الفدائي .. الذي سيشغل هذه المواقع ويدافع عنها.

كان علي مؤمنا بأنه لا يوجد مقاتل سيء .. بقدر ما توجد تربية خاطئة ، وظروف اجتماعية قاهرة ناجمة عن فقدان شعبنا لوطنه ، وحياته في الشتات . لذلك كانت موضوعات مثل بناء الذات ، واعادة صياغتها ، والتربية الثورية تحتل لديه المقام الأول . وعندما كنا نواجه بعض الاحباطات في هذا السياق . فان تفسير علي لها يتلخص في كوننا لم نبذل الجهد الكافي والمطلوب . فالمقاتل عندما قرر الالتحاق بالثورة المسلحه. كان مستعدا في الوقت ذاته أن يبذل الغالي والرخيص ، وهو قد حزم رأيه على ذلك بعد طول تردد . وبعد أن وصل الى موقف تغلبت فيه النوازع الايجابية على النوازع السلبية التي بقيت كامنة في داخله .

ومن هنا كان علي يرى أن الكادر هو المسؤول الأول عن عدم ثبات مقاتل ما في صفوف الثورة . اذ أنه سمح للعوامل السلبية بالظهور ثانية . ولم يستطع تطوير العوامل الايجابية . ولعل تلك كانت مشكلة الكادر الدائمة معه . فعلي الذي كان مقتنعا بسلامة هذا المنطق ، لم يكن يتخيل أن ثمة حدودا للقدرة البشرية . واذا حدث ووافق على وجود تفاوت في القدرات ، فانما لينطلق من هذا الضرورة السعي الدائم في تطوير الذات واعادة صياغتها.

كان علي جادا . وكان حازما. كما أن لكنة صوته المميزه تبئك بتصميم شديد . وقد يتبادر أن خلف هذه الجدية ، وذاك الحزم والتصميم قسوة بالغة ، وكثيرا ما آلمه أن يساء فهمه على هذا النحو . اذ ما هي الا سويعات حتى يدرك المرء أي طفل يخاطب فيه.

نجح علي في اقامة علاقة من نمط خاص مع اخوانه . فهو مهاب الجانب بلا شك . الا أن تفوقه الرئيسي تمثل دوما في صعوبة منافسته . كان مثلا أعلى في العمل والمثابرة والفناء عن الذات . وكان بحق زاهدا في كل شيء الا أنه وبقدر ما يتحفز اثناء العمل . فهو واسع الصدر خلال النقاش . واذا أحس أنه قد أخطأ مع أحد اخوانه أو اسيء فهمه. فلا يهدأ حتى يوضح موقفه ، ولو استغرقه ذلك ساعات طويلة . وهو على استعداد لأن يقضي ساعات أطول لسماع مشكلة مقاتل . أو في البحث الصامت والخجول عن مصدر معاناة فدائي، لذا وبالرغم من كل جديته المعهودة. وسواء اتفقت معه أم اختلفت . أردت ذلك أم رغما عنك . كان علي دائما قريبا من القلب.

آمن علي بالعمل ، ورآى فيه الضمانة الأكيدة للوحدة والرأي السديد والمساهمة الجماعية في الارتقاء بالعمل وتطويره . ولذا تراه حريصا على عقد الاجتماعات الدورية لقادة مجموعاته وفصائله ، ولكل مجموعة أو فصيل على حده . ولعل النقطة الأولى التي كانت تحظى باهتمامه بعد شرح الوضع العسكري وتقدير الموقف السياسي ، هي وضع المقاتلين . كان يحفظ اسماء الجميع . يسأل عنهم فردا فردا . قدراتهم ، تطورهم ، مشاكلهم الخاصة أوضاعهم الأسرية ، الانسجام الداخلي في المجموعة. تحس انه يرعاهم كما يرعى نبتة صغيرة يتفقدها كل صباح . وفي كل هذه الاجتماعات تراه كالحمل الوديع يقبل النقد برحابة صدر . يستمع الى الآخرين بلا ملل . ويعالج قضاياهم برفق وحكمة ودرايه.

وبالقدر الذي كان حريصا به على استمرار عمله بهذه الوتيرة ، فقد كان دائم الشكوى من تأجيل بعض اللقاءات الدورية على مستوى الكتيبة . وللحق فان لذلك قصة لا تخلو من طرافه . ذلك أن علي لا يقتنع بسهولة أن ثمة أعباء قد تحول أحيانا دون سير الأمور على وتيرتها المعهوده . وكثيرا ما نكون هذه الأعباء أعباؤه هو . نتفق على لقاء ليلا .. يحضر علي .. يجلس على فراش ملقى على الأرض وقد انهكه تعب النهار المضني . وما أن نبدأ الحوار حتى يغالبه النوم ثم ما يلبث أن يستسلم له . ننزع عنه حذاءه العسكري . ونرتب له فراشه. ونحن نعلم ان نصيبنا منه في اليوم التالي سيكون اللوم لأننا لم نوقظه وأضعنا فرصة ذهبية للقاء . ونرضى بذلك ما دام قد نال قسطا اجباريا من الراحه . واذ يتكرر ذلك نتفق على لقاء ظهرا ... وعندما يحين الموعد المرتقب ... نجد برقية اعتذار منه فثمة عمل ما ... وما أن نلتقي حتى يبتسم ويمضي نحو مهمة جديده .

ويبقى الحديث عن علي وشاتيلا ملك لأولئك الذين صنعو شاتيلا من جديد . لا أود ولا استطيع أن أتطفل عليهم في الحديث عن صمودهم . فهم الأقدر على ذلك ، والأجدر أن يقوموا به.

حسبي هنا أن أذكر انني التقيت مع الدكتور يانو .. الطبيب اليوناني الأصل ، الكندي الجنسية . الفلسطيني القلب والانتماء . وكان الدكتور يانو يعرف علي ابان عمله في المستشفى الميداني في النبطيه . واقترب منه أكثر في طرابلس أبلغني الدكتور يانو بعزمه على الذهاب الى شاتيلا . قلت له لا يوجد مستشفى في شاتيلا وأنت جراح وسيكون صعبا أن تجهز به مستشفى ميداني في ظل الحصار المفروض عليه . قال لي الآن لا يوجد مستشفى في شاتيلا . لكن يوجد فيه علي أبو طوق . ولذا سأتمكن من تجهيز المستشفى . وسيكون بحاجة لي هناك . بالفعل أصاب الدكتور يانو فقد حول علي أبو طوق ورفاقه بدمائهم أكواخ شاتيلا الى أمنع حصن في القرن العشرين...

/]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 122 / 2165754

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع معين الطاهر   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2165754 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010