الخميس 12 تموز (يوليو) 2012

أحْفاد «سايكس - بيكو»

الخميس 12 تموز (يوليو) 2012 par خيري منصور

إذا كانَ للتّاريخ حقّاً وَجْهان، فإن لِـ «سايْكس» و«بيكو» أحْفادهما كما أنّ للعرب الذين عاصروهما واكْتَوَوْا بنار خرائطهما أحْفادهم أيضاً، لهذا يستمر التاريخ في جَدَليّته ما دام لكل سجّان سجين. في تلك الاتفاقية الكولونيالية رُسِمَت تضاريس العرب السياسية باستراتيجية حاذِقة في استثمار فُرْقَتهم، وهي الاستراتيجية التي اخْتُزِلت بكلمتين فقط هما: فرقْ تُسدْ. لهذا فإن كلّ من أفلح في التفْريق ساد ولو إلى زمن. إن «سايكس - بيكو» التي طالما لَعَنّاها، وَهَجاها شعراء واعتبرها مُفكرون قَوْميون أُمْثولة في التشْظِية تبدو الآن على يَسار ما يجري من تَمْزيق البلد العربي الواحد إلى اثْنَيْن ثم إلى أربعة وقد تستمر متوالية الانْشطار الأَميبيّ ليصبح عدد الأقطار بعدد القرى والحارات والأزقة، لقد وَرِث أحفاد «سايكس - بيكو» عن جديهما الاستراتيجية ذاتها بعد أن أُضيف إليها جُرْعات جديدة استفادت من تقدم التكنولوجيا ووسائل الاتصال، تماماً كما ورث ضحايا هؤلاء عن أجدادهم ثقافة الرفْض والعِصْيان وبالتالي التشبث بحلم الوحدة حتى لو كان عَصيّاً على الترْجمةِ الفَوْريّة إلى واقعٍ جديد. فالبرغماتيون والذرائعيون وحدهم الذين يَقيسون الأفكار بما تحقق منها فقط، لهذا فهم لا يعرفون معنى التراجيديا، أو المصائر النبيلة التي تُحول الخسارة إلى ظَفَر، مثلما تحول الظفَرَ لدى من حَقّقوه بالقوة العَمْياء وَحْدها إلى خسارة أما المُفارقة، فهي أن العالم العربي الذي سعى إلى تحقيق حد، أدنى من التكامل والوحدة انتهى في أقلّ من قرن منذ تلك المعاهدة إلى التآكل والتشظي، وإن كان هناك مصطلح آخر نَتَمنّى أن لا نضطر إلى استخدامه لوصف المشهد وهو التذَرر.

في ما مضى كان الحلم برِياضيّات قومية جامِعة لا تعرف الطرح أو القِسمة، وكان البلد العربي الواحد لا يَقْبَل القسمة على اثنين، لكن مَكْرَ التّاريخ ورخاوة الجغرافيا حوّلا تلك الريّاضيات إلى ما هو عكس ذلك، فثمة الآن كُسورٌ عَشْريّة لأوطان، ومشاريع تجزئة قد تنتهي إلى تلك النبوءة السوداء لخليل حادي الذي أطْلَق النار على قلبه ببندقية صَيْد ذات اجتياح .. فقد خشي خليل من أن يُصَب البحر في جِرار وَتُوَزع الأنهار من دجلة والفرات إلى النيل وبردى في زجاجات.

ما كنا نُعلم أطفالنا عَنْه وهو العَوامِل الخارجية والدّولية والإمبريالية لتقسيم أوطاننا يحتاج الآن إلى إعادة نظر أو على الأقل إلى هوامش إضافية، فما صَنَعْناهُ، بأنْفسِنا ليس أقل مما صنعه الآخرون بنا، عندما تناسلت مُصْطلحات المُحاصصة والخَصْخصة لتشمل حتى الوجدان الوطني والذاكرة القومية.

إنها ثقافة مضادة تَم تصنيعها في مختبرات العولمة المُبّكرة عندما كانت تسمى كوزموبوليتية والآن ترعاها وتتعهدها استراتيجيات تَرْتدي أَلْفَ قِناع وَقِناع، فقد يُسْجن الإنسان باسم الحرية ويعاني الاستبداد باسم الديمقراطية، ويفقد انتماءه القومي باسم الإنسانوية الجديدة الملفّقة من شعارات فوسفورية تعمي العيون لكنها تخبئ وراءَها أَنْياباً يقطر منها دَمُ الأطفال. الثقافة الجديدة المضادة تَنْزَعُ الدسمَ من كل المفاهيم وَتُبشر بمرحلة ما بعد الوطنية انسجاماً مع كل المابَعْدِيّات .. سواء تعلقت بالحداثة أو الحروب الاستباقيّة أو الدولة.

إن ما فعله «سايكس - بيكو» وهما رمزان لتوأمين استعماريين بأجدادنا نعرفه جيداً وَدَفَعنا ثمنه بعد إضافة نسبة من الربا السياسي .. أما ما يفعله الأحفاد فبحاجة إلى حاسوب آخر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2166078

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2166078 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010