يحق لأي طفل فلسطيني أن ي سخر من قرارات «إسرائيل» وإجراءاتها الرامية إلى شطب كل ما هو فلسطيني الهوية والرائحة في الأراضي التي احتلتها عام 48، وفي القدس بشطريها. كل فلسطيني، طفلاً كان أم مسنّاً، يعرف أن كل مَعْلَم في بلاده يتنفس بالفلسطيني ويغني بالعربي، مهما بلغت حَمْيَة التهويد والعبرنة. هكذا أخبر عمي العجوز حين عاد من رحلة في ربوع مناطق النكبة متحسّراً ومغرورق العينين. اقترب ومرافقيه من البحر بسيارتهم وتسبّبت الأمواج التي لطمت الشاطئ غاضبة، بحجب الرؤية عبر زجاج السيارة. طلبوا من أقرب وأول فتاة صادفتهم على الشاطئ بعضاً من الماء. تحدّث أحدهم إليها بالإنجليزية باعتبار أنها قد تكون سائحة أجنبية، لكنّها ردّت بالعربية. استدار العجوز جانباً قائلاً لشاب من مرافقيه: إنها تتكلّم العربية بشكل صحيح، قبل أن يعيد النظر إليها ويسأل: هل أنت فلسطينية؟ فترد بحماسة: فلسطينية أباً عن جد، أمس واليوم وغداً، وحتى بعد موتي سأورّث فلسطينيتي لأبنائي. لم تكن ابنة عكا آنئذ بلغت الثانية عشرة من عمرها. عاش العجوز ما تبقى من عمره وهو يعيد سرد تلك الواقعة، وعندما كان يحتضر ذكّر أحد الذين رافقوه إلى عكا بالواقعة، حيث كان يلازم سريره، وكانت القيادة الفلسطينية في تلك اللحظة توقّع اتفاق أوسلو . كان يتحسّر غير راضٍ. حاول مرافقه أن يهدئ من روعه، لكنّه كان يقول: لست أتحسّر على قلّة ما تضمنه الاتفاق، إنما على كثرة ما بقي خارجه.
عكا التي أوقفت أسوارها زحف نابليون، لم تكن لتسكن جنب البحر لكي تخاف نابليون، وهي قادرة على السخرية من محاولات تهويدها. عكا بقيت عكا والبحر ظل على هدير موجه ومعانقته أسوارها وصمود أحجار جامع الجزّار. هكذا وجدتها ابنة المرافق من الجيل الثالث للنكبة حين ذهبت إلى حيث وقف أبوها قبل ثلاثين عاماً على شاطئ البحر. لم تكن الفتاة مولودة حين وقف أبوها هناك، لكنّها رسمت المكان في ذاكرتها من حرارة سرد الواقعة. ها هي تقف في المكان الذي حفظته قبل أن تراه، لتجد حنجرتها تغني على نحو عفوي «صرخة أطلقها غسّان .. دقّوا جدران الخزان .. والإنسان قضية .. والثورة لأجل الإنسان».
أجل، الإنسان قضية وليس لحماً ودماً، فإن خسر قضيته خسر إنسانيته. لهذا شعرت بنشوة الانتماء حين رأت العلم الفلسطيني يرفرف في حيفا يداعب الريح ويسخر من رياح التهويد. ويسافر ذهن الفتاة إلى محمود درويش «وحيفا من هنا بدأت وأحمد سلم الكرمل».
كانت في عمر ابنة عكا عندما اعتقل جنود الاحتلال عمّها من مخبئه بعد ملاحقة قاربت خمس سنوات. حينها أحضره المحتلون إلى المنزل لا لتراه أسرته، بل لانتزاع بطاقة هويته. لم يسمحوا لأي كبير بالاقتراب منهم ليعطيهم البطاقة، فكان الخيار الوحيد تلك الفتاة التي ظنّوها صغيرة. أحضرت مع البطاقة معطفاً لعلّه يقي عمّها المعتقل لسع البرد في ذلك الشباط البارد.
كم تذكّرها وهو يهذي تحت وطأة التحقيق القاسي. لم تغب عن ذهنه في ظلام الزنزانة عيناها وهما تحدّقان فيه مع الكلام الخافت: سنسمع أخباراً جيدة عنك. تذكرها مراراً وهو يتمتم أغنية سميح شقير «ستعلمين يا فتاتي أنني ضربت حتى الموت حتى ازرقت عظامي حتى بكت جدران زنزانتي من ألمي وما فتحت فمي». إذن ليعتقدوا أنهم يهوّدون ويعبرنون، فستنشد حيفا وما بعد حيفا وما بعد يافا: وعكا من هنا بدأت.