الأربعاء 11 تموز (يوليو) 2012

شهيداً شهيداً شهيداً!

الأربعاء 11 تموز (يوليو) 2012 par د. نهلة الشهال

لم يعد شكاً أو اعتقاداً، بل توفر البرهان أو يكاد: لقد قتل «الإسرائيليون» ياسر عرفات. والمأمول ألاّ يستمر التواطؤ الدولي الذي مكَّن هؤلاء من قتله، فيُعمل على طمس الأدلة وتزوير التحاليل، كما جرى حتى اليوم. والمأمول أن تخرج السلطة من جبنها أو تواطئها، فلها مصلحة بالمعنى المباشر في توضيح الموقف. ولكن هذه تفاصيل. فانكشاف هذا الفصل من الحدث يستدعي أسئلة سياسية بالأساس. ويستدعي مراجعة لدور الرجل في سياق المسار الطويل للقضية الفلسطينية، بالقياس الى ما قُطع من ذلك المسار، كما الى الجزء الذي ما زال متبقياً. كما أنه يكشف خصائص ثمينة عائدة لطبيعة الصراع مع «إسرائيل». فلِم يا ترى لم يشفع لعرفات ارتكابه «أوسلو»؟ والمقصود الاتفاق أولاً، ثم إدارته، التي وإن اصطدمت مراراً بالطمع «الإسرائيلي» بالحصول على كل شيء مجاناً، وتوقفت من دون التفريط بالأساسيات الرمزية، إلا انها بالمقابل سارت حتى النهاية الممكنة في منطق الإمعان بالكذب على النفس. لِمَ بقي «الإسرائيليون» يكنون لعرفات كل تلك الكراهية، ويشعرون من جهة ثانية أن عليهم، لأسباب سياسية أو حيوية، التخلص منه؟

تمكن أبو عمار، مع قيادته لانطلاق العمل الفدائي المحتضن من عبد الناصر وقتها، من تحقيق منجز سياسي/ رمزي، هو الإعلان عن أن الشعب الفلسطيني موجود ويقاوم. وعرفات في ذلك ينضم الى قادة فلسطينيين سبقوه، وتحولوا هم، بأشخاصهم وأسمائهم، الى علامات يتكئ عليها تاريخ هذا الشعب ليواجه عثرات التحقق: عز الدين القسام والشيخ أمين الحسيني، وكل واحد منهما يختصر مرحلة ويمثل محطة، تماماً كما بالنسبة لعرفات، بينما مرحلته والمحطة التي يمثل أطول زمنياً وأكثر تعقيداً بما لا يقاس من سابقتيها.

تمكن عرفات من تحويل الكتلة البشرية الفلسطينية التي كانت بين يديه من لاجئين الى «شعب»، لديه مؤسسات وقيادة وهيكليات سياسية ومصالح، والأهم من كل ذلك، أنه يمتلك تصوراً عن نفسه، وعياً لذاته بصفته شعباً، ورواية متماسكة لتاريخه. وهذا بعد النكبة، ذلك الاقتلاع العنيف والسريع، وما صاحبه من تشكيك بالنفس وتخوين للمحيط، ليس بالأمر الهين. وتمكن أبو عمار، بعد الغياب المبكر لعبد الناصر، الذي تصادف مع خسارته العنيفة لركيزة الأردن، الأقرب جغرافياً واجتماعياً وبشرياً لفلسطين، من قيادة العمل الفلسطيني بالسير بين نقاط التناقضات العربية والدولية، يساير هذا ويتجنب ذاك ويلتف على ثالث، فاشتهر عنه الكذب، الذي كان التعبير الواقعي عن تلك الحاجة للاستمرار في ظل شروط مستحيلة موضوعياً. وهكذا، وبالوسائل التي كانت في حوزته، بنى عرفات رويداً دولة بلا أرض، تقوم على تجسيد «فكرة» فلسطين. وهو غرف من معين التركيب الاجتماعي الفلسطيني كما كان يقدم نفسه، أي في ظل التشويه اللاحق به، نتيجة الاقتلاع والتشتت والظروف القاسية والمذلة للعيش. وغالباً ما جرى نقد إدارة عرفات للبنية السياسية التي أنشأها بوصفها كانت ترسخ تلك التشوهات، بل وتعظِّمها، بدلاً من العمل على محاربتها. ولعل في ذلك الكثير من الصحة. فهو عمل على تسييد منطق الأبوية، والاستثمار في التناقضات بين المجموعات لتسهل إدارتها والحال تلك، والإفساد المنظم، والتغافل عن الانحرافات المسلكية، بما فيها الخطيرة، تساهلاً أو تعزيزاً لدونية الآخرين لتسهُل أيضاً قيادتهم... وغيرها سلسلة طويلة من العناوين والأمثلة المصاحبة لها. وهو لم يهتم ابدأً بغياب النقد والتقييم، وقبلهما، وبما لا ينفصل عنهما، بغياب التخطيط الاستراتيجي، فكانت القضية الفلسطينية تمر في ظله من مرحلة الى أخرى بعفوية قاتلة، وكأن الخيارات المتخذة أو الحوادث المسببة للتداعيات قدرٌ عليه أن يُعاش بوصفه كذلك. وتماماً مثل هزيمة 1967، لم يجر التحوط ضد الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان عام 1982، ولم يكن الفلسطينيون مهيئين لممارسة مقاومة صادة أو مكلفة للقوات «الإسرائيلية». ولا يلغي ذلك بطولات الكثيرين منهم في تلك الواقعة، ولا التاريخ الطويل من الاستعداد للتضحية بالنفس، وآلاف الشهداء الذين سقطوا وهم يناضلون. لقد ركَّب عرفات بناءً كان وحده قادراً على التعامل معه بهذا القدر أو ذاك من عدم الافتضاح، بل وبفضل ذكائه المفرط، فلنقل على احتوائه وجعله يشتغل، ولو مليئاً بالنواقص الخطرة، فلم يترك لورثته ما يرثون، بينما كان يعرف تماماً طينتهم ومقدار النخران الذي هم عليه. وهو في كل هذا ابن بيئته ووعيها، فهل يلام على ما لا يفترض به أن يمتلكه، بينما لم يتجاوزه في ذلك المجال سائر القادة الفلسطينيين، بمن فيهم أولئك الذين يجيدون التحليل الايديولوجي.
ولكن لماذا قتلته «إسرائيل»؟ للمفارقة، بسبب أوسلو تلك نفسها! فالاتفاقية يفترض أنها إطار لتسوية تاريخية بين «إسرائيل» والفلسطينيين، يتوفر بموجبها لـ «إسرائيل» إقرار من ضحاياها بحقها الأبدي في الوجود على معظم أرضهم مقابل ترتيبات لهم تمنحهم كياناً منقوصاً وحقوقاً منقوصة. سمي ذلك من الجانب الفلسطيني «الحل المرحلي»، ورافقته كمية من الترهات حول التمثل بالتدرج الذي مارسه الصهاينة، و«خذ وطالب» الخ، كانت تجعل الموضوع «لا تاريخياً» بامتياز. وقد دخل ياسر عرفات بعد التوقيع عليها وبدء تطبيقها في خيار اعتصار أقصى ما يتيحه له المجال الدولي للإبقاء على القضية الفلسطينية قائمة، فخاض صراعات كانت بالضرورة تراجعية. وكان ذلك متوقعاً، بل إن عرفات برر ارتكاب «أوسلو» بانهيار المعسكر الاشتراكي، وإطباق الموقف العربي والدولي عليه، في ظل انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة وإعلانها «نهاية التاريخ» وفي ظل هيمنة الصقور العدوانيين من المحافظين الجدد على واشنطن. وفي سعيه لتغليب ما يمكن أن يعزز «فكرة» فلسطين، قاوم ابو عمار عند تخوم رسمها بعناية. فعجز «الإسرائيليون» عن انتزاع استسلامه الكامل وتحوله لمجرد دمية في يدهم. وقف عند موضوع القدس، وعند موضوع اللاجئين بوصفهما مقدسات. ولما لم يتمكن «الإسرائيليون» من تدمير «فكرة» فلسطين، كان لزاماً عليهم أن يزيلوا تلك العقبة / الرمز.

وفي حقيقة الأمر، حمل عرفات «إسرائيل» على الاصطدام بنفسها. وفر لها شروطاً ملائمة لها تماماً للقبول بتسوية تاريخية، فعجزت عن ذلك، وافتضح بهذا مقدار لا واقعية المشروع «الإسرائيلي» الذي يقاتل ضد التاريخ والجغرافيا والاجتماع، فيحلم بأن يصحو ذات صباح، هو والعالم، فلا يكون هناك اثر أصلاً لشيء اسمه فلسطين. هذا ما يفسر الاستيلاء حتى على صحن الحمص وقطعة الفلافل، وعلى الموسيقى وعلى التراث الثقافي والآثار، علاوة على الأرض. هذا ما يفسر أنهم ناهضوا تسجيل كنيسة المهد في سجل اليونسكو لتراث الإنسانية، ولم يطيقوا ذلك حتى بعد أن حدث، بل عاشوه كاعتداء عليهم. وهو جنون خالص.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 67 / 2165426

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165426 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010