الأحد 8 تموز (يوليو) 2012

لا هي خلافة أو علمانية

الأحد 8 تموز (يوليو) 2012 par فهمي هويدي

البعض في مصر يتصورون أننا بصدد تأسيس دولة الخلافة الإسلامية، وبيننا آخرون يصرون على أن تكون دولة علمانية نافرة من الدين ومخاصمة له. والأولون غير قادرين على استيعاب حقيقة أن الخلافة تجربة تاريخية ليست واردة في زماننا، والآخرون غير مستعدين للاقتناع باستحالة تطبيق مشروعهم في بلد يغلب عليه التدين كمصر. بالتالي فلا معنى للتجاذب الحاصل بين الطرفين سوى أنه عراك يمثل عبثاً يستهدف إهدار الوقت واستهلاك الطاقات وتبديدها، ومن ثم تعطيل التقدم باتجاه إقامة الدولة الوطنية الديمقراطية.

لا أتحدث في الشريحة الأولى عن جماعة التحرير الذين يزايدون على الجميع بالدعوة إلى إحياء الخلافة الإسلامية، ومن ثم يعفون أنفسهم من أي نضال على الأرض يتحرى مصالح الناس أو يدافع عن حقوقهم، في طرح ساذج يتصور أن تغيير مسمى النظام كفيل تلقائياً بحل كل مشاكله. وإنما أتحدث عن تمسك بعض السلفيين بإعادة صياغة المادة الثانية من الدستور بحيث تنص على مرجعية أحكام الشريعة وليس مبادئها فقط كما هو حاصل الآن.

هذا الموقف من مسألة المرجعية برز في مصر بعد أسابيع قليلة من تناول الموضوع في تونس، وجاء كاشفاً عن منهجين مختلفين من الإدراك والتفكير. ذلك أنهم في تونس قرروا الاكتفاء بالنص في الدستور على أن الإسلام دين الدولة، واستبعدوا مسألة الشريعة من الصياغة. وفي تفسير ذلك قال الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة إن النص على أن الإسلام دين الدولة يكفي في تحديد هويتها وانتمائها الديني. وأضاف أن الحركة حين وجدت أن النخب حساسة إزاء مسألة الشريعة، فإنها قررت استبعاد الإشارة إليها تجنباً للشقاق وحفاظاً على وحدة الجماعة الوطنية.

الغنوشي حين اختار هذا الموقف فإنه فكر بعقل السياسي المسئول الذي يحسن قراءة الواقع ويضع وحدة الوطن نصب عينيه. أما إخواننا الذين يصرون على استبعاد مصطلح المبادئ وإحلال كلمة الأحكام محلها، فإنهم فكروا بعقلية الدعاة الذين يعيشون في التاريخ ولا علاقة لهم بالواقع ولا بالوطن. والفرق بين المنهجين يعكس الفرق بين عقل مفتوح وبصيرة نافذة وبين عقل ضيق ومغلق وعينين مغمضتين.

من الناحية الموضوعية فإن المبادئ بمعنى المقاصد العليا أهم من الأحكام التي تتجلى في التفاصيل. ذلك أنه يفترض في التفاصيل أنها وسائل تؤدي إلى تحقيق الأهداف. أدري أن الالتزام بالاثنين هو المطلب الأمثل والحد الأقصى. أما إذا طرح الاختيار بينهما فإن الانحياز إلى الأهداف أولى. ذلك أن الاكتفاء بالوسائل أو الأحكام يمكن أن يهدر المبادئ ويفرغها من مضمونها. وفي العالم العربي حالياً أقطار يعرفها الجميع التزمت بالأحكام وتشددت في تطبيقها في حين لم تلتزم بشيء من الأهداف. ومنها من طبق الحدود الشرعية مثلاً، ثم ضرب عرض الحائط بمبادئ الحرية والمساواة والعدالة وحرمة وكرامة الإنسان. وفي هذه الحالة فإن تطبيق الأحكام يبدو وكأنه صيغة مراوغة لإخفاء انتهاك المبادئ، خصوصاً أن تطبيق الأحكام يجرى تنزيله على الناس العاديين. أما الالتزام بالمبادئ فهو مسئولية أهل القرار والسلطان. بكلام آخر فإن الدعوة إلى تطبيق الأحكام في الظروف الراهنة تفتح الباب لإعفاء أهل القرار من مسئولية الدفاع عن القيم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، وإطلاق أيديهم في العبث بها وانتهاكها.

العقل العلماني المغلق لا يختلف كثيراً عن نظيره في الساحة الإسلامية. والطرفان يشتركان في الإصرار على فرض أجندتيهما على المجتمع. وفي فشلهما في قراءة الواقع. والاثنان ينشغلان بالهويات لا بالسياسيات. ولا فرق في هذه الحالة بين الذي يصر على فرض أحكام الشريعة على المجتمع. وبين ذلك الذي يصر على شطب الهوية الإسلامية من المجتمع.

قرأت مقالة لأستاذ جامعي محترم امتدح خطبة الرئيس محمد مرسي لسبب واحد أنه لم يأت على ذكر الشريعة الإسلامية فيها. وانتقد مؤرخ معتبر قرار الرئيس تشكيل «ديوان المظالم» بدعوى أن التسمية تراثية ومحملة بإيحاءات إسلامية تتعارض مع التزامه بالدولة المدنية (في موسوعة ويكيبيديا أن ديوان المظالم هو أقرب الترجمات لمصطلح «امبودزمان» أو المفوض الشعبي والبرلماني المعمول به في السويد وطبقته دول أخرى). وهي ملاحظة غريبة للغاية. لأن الأكاديمي المحترم لم ينشغل بمظالم الناس، ولكنه استنكر فقط الإيحاءات الإسلامية في المصطلح. وربما غفر له ذلك «الذنب» لو أن الرئيس استخدم المصطلح المتداول في اللغة السويدية.

تحفل الصحف بالكثير من هذه النماذج كل يوم، التي يضيق المجال عن ذكرها، إلا أن أسوأ ما في هذا التجاذب أنه بمثابة صراع بين نخب المتعصبين وضيقي العقول المهجوسين بحساباتهم وأجنداتهم الخاصة، والذين لا تشغلهم هموم الناس من قريب أو بعيد. وللأسف فإن قوة التأثير الإعلامي تنقل ذلك الصراع إلى الرأي العام فتقسمه وتشوهه وتصرفه عما هو نافع في مرحلة يحتاج الوطن فيها إلى عزائم المخلصين الجادين وليس إلى نزق المتعصبين وهرج العابثين.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165792

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165792 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010