السبت 7 تموز (يوليو) 2012

أبو عمار «شهيداً» من جديد

السبت 7 تموز (يوليو) 2012 par أيمن اللبدي

ثمة شهداء تنتهي قصة الشهادة مرة واحدة في حالتهم، وثمة شهداء لا تنتهي قصة استشهادهم أبداً وتبقى مفتوحة على المزيد من الإضافات، وهناك آخرون يعاد استشهادهم من جديد لأنهم ببساطة إما أنهم يغتالون المرة تلو المرة، وإما أنهم يستعادون المرة تلو المرة، ومن أبرز الأمثلة في هذه الحال الأخيرة الشهيد ياسر عرفات «أبو عمار»، القائد الذي مضى بكل اليقين شهيداً برغبته وطلبه وإعلانه ويقينه التام بأنه يختار لقاء ربه على هذا النحو ووفق هذه الدرجة الرفيعة.

أبو عمار كان واضحاً في مقولته الشهيرة «شهيداً ...شهيداً....شهيداً»، وكان أيضاً واضحاً في إشارته بل وفي إبلاغه من وثق بأنه البعيد عن خيوط التآمر عليه بأن المصير قد اقترب، من المؤكد أنه كان في وسط معركته الشهيرة والتي كانت عملية الحصار المطبق عليه، مجرّد الغطاء الخارجي لملامحها، وهي ذاتها التي أعطت لبعض المنخرطين في الهجوم ضده، فرصة الادعاء بأنهم كانوا يسعون في فك هذه القشرة، والحقائق الدامغة تثبت أن عملية اغتيال القائد السياسية قد سبقت بالقطع عملية الاغتيال المادية، وهذه الأولى أدواتها معلومة ولا مجال لنكرانها.

عملية اغتيال الشهيد ياسر عرفات تشكّلت من ثلاث مراحل متتابعة، الأولى كانت عملية اغتيال سياسية ظهرت في مسلسل متتابع ونفذها الذين هددوه بالمظاهرات المستأجرة بدعوى «طلب الديموقراطية»، لتتلوها استقالة مسببة بواقع عدم القدرة على «تحقيق البرامج»، ولتنتهي بشعار عرفات «العقبة الكأداء»، هذا السيناريو يحتاج بالقطع للمحاكمة الحقيقية للوصول إلى يقينية وجود الترابط عن قصد، واستكمالاً حقيقية أن هذا الترابط كان مقصوداً مبرمجاً جزءاً من مسار كامل عملية الاغتيال، أم أنه كان في غير هذه الدلالة وبالتالي تصبح أدوار هؤلاء في هذه المرحلة مشاركة بالقتل عن «غير قصد»!

هذه المرحلة السياسية في الاغتيال لم تتم عملية مراجعة لها إطلاقاً، بل صادف أن عقد لحركة «فتح» مؤتمر مبتسر على الطريقة التي أخرج بها، وكأنه عقد لقبر هذه المراجعة أساساً لهذه المرحلة وليس لتدقيقها، بل أكثر من ذلك أن هذا المؤتمر جاء بالطاقم الذي كان أساساً اللاعب الرئيس في أحداث مسلسل الاغتيال السياسي للشهيد عرفات، ليفرض نفسه كافلاً لتغطية هذه المرحلة من حيث هو يعلن أنه سيشكل لجنة تقصي حقائق ويفتتح مؤسسة للشهيد «عرفات»، استغرقت حتى الساعة عدة سنوات دون أن تفيد الرأي العام الفلسطيني بشق نقير في هذه المسألة فضلاً عن الإفادة بنتيجة حول عملية الاغتيال الفعلية!

المرحلة الثانية في اغتيال الشهيد أبو عمار بدأت بتتابع تخلي الحكومات والمسئولين العرب والدوليين، عن مسئولياتهم تجاه الشهيد المحاصر، يطيب للبعض توصيف هذا التخلي بمصطلح «رفع الغطاء» وهي في الواقع عملية انحطاط أخلاقي وقومي وديني بالنظر إلى أن الشهيد المحاصر كان يساوم كل لحظة في حصاره على حقوق شعبه، وبدلاً من أن يجد عوناً في ذلك على مواجهة هذا الحصار الظالم العدواني، وجد عوناً للمحتل المعتدي من هذه الحكومات وهؤلاء المسئولين عليه، وهؤلاء أضيف لهم في هذه المرحلة طابور من مرافقيه ومن حوله في الحلقات الصغيرة من حوله، هذه المرحلة شهدت واقعة ما عرف بوثيقة القدومي، وفي رده على هذه المساومات جاء خطابه الشهير : يريدونني أسيراً أو طريداً وأنا أقول لهم بل شهيداً ..شهيداً...شهيداً.

المرحلة المادية هي المرحلة التي بدأت فيها عملية الاغتيال المادي، واليوم أصبح واضحاً أنها تمت باستخدام الإشعاع النووي وسمه، وسواء ما أظهرته أجهزة تتبع أشعة ألفا السويسرية في مقتنيات الشهيد عرفات التي كانت معه أيام محاولة علاجه في مستشفى «بيرسي» العسكري الفرنسي، أو ما يقولوه بسام أبو شريف عن وجود مادة سم آخر قد تظهره أجهزة الكشف الروتينية لتتبع أشعة جاما، فإن المؤكد أن عملية الاغتيال قد تمت باستخدام السم الإشعاعي النووي.

في ملف استشهاد أبو عمار وإعادة اغتياله المرة تلو المرة، ثمة مسائل هامة لا بد من الإضاءة عليها بنوع من التركيز، فالمسألة الأولى للوقوف على المستفيد الثانوي الذي لا بد أن يكون إما أداة في التنفيذ المادي أو أداة في التغطية المستمرة أو أداة لكليهما معاً، وهنا تنشأ مسألة تحديد أركان الجريمة والأهم في ظروفها مسألة التوقيت، فأسئلة من نمط : متى بدأت عملية الاغتيال المادية؟ هل كانت هذه المراحل على التواصل؟ هل كانت متداخلة محكمة في سيناريو عملياتي واحد أم تصادف تقاطعها؟ أسئلة تغدو فائقة الخطورة في نتائج التحقيق وحظوظ نجاحه، وهذا الركن في هذا الملف في نظري الجوهر المهمل - لا ندري قصداً أم سهواً - في عملية التحقيق في ملف استشهاد الرئيس أبو عمار، سواء لتلكم اللجان التي أنشئت أم لتلكم النداءات المرفوعة بتشكيلها وإنشائها، وهذه نقطة أولى في مسار ملف التعامل مع عملية اغتيال الشهيد ياسر عرفات.

المسألة الثانية في هذا المجال أن الاغتيال كله من أوله إلى آخره كان اغتيالاً لنهج الرئيس «أبو عمار» ولم يكن اغتيالاً شخصياً، فالمرحلة الثانية من قصة أوسلو التي بدأت منذ عودة الشهيد من «كامب ديفيد» عام 2000 وقراره المؤكد بضرورة الاستفادة من واقع الوجود في الأرض المحتلة لاستئناف المقاومة، ودعمه لإنشاء كتائب شهداء الأقصى وتوفيره الدعم المادي واللوجستي لبقية فصائل العمل العسكري، في ذات الوقت الذي يجري فيه عملية استعصاء على شروط العدو وحليفه الغربي محاولاً كسر هذه الحلقة للحصول على انسحاب صهيوني تحت ضغط المقاومة هذه المرة، ومبقياً اللحمة الوطنية متقدة منسجمة حتى في أعتى ظروف التناقضات الفصائلية في الوقت الذي يبقى لحركة «فتح» مهمة المسئولية في مسألة برامج وأجهزة السلطة الفلسطينية، هذا النهج هو الذي جرى اغتياله أيضاً مع الشهيد «أبو عمار»، فإعادة تشكيل أجهزة أبو عمار الأمنية التي حملت ثقل تنفيذ برامجه في المقاومة إبان الانتفاضة الثانية هي التي جرت عملية كسرها وإعادة تشكيلها وإخضاع ما تبقى منها بعد التسريح وما عرف ببرامج التقاعد وذلك لورشة الجنرال الأمريكي دايتون في محاولة خلق الفلسطيني الجيد أو الفلسطيني الجديد، واستحداث عقيدة جديدة لهذه الأجهزة تتوجه لحفظ أمن «الشريك الإسرائيلي»، ولجنة أبو عمار المركزية في حركة «فتح» التي أراد لها أن تكون في موقع متوازن بين الانخراط في الداخل ومتابعة الخارج أعيد تشكيلها لتصبح كلها منخرطة في تنفيذ برنامج واحد وحيد لا أفق له ولا براثن مقلمة الأظفار ومدجنة بالكامل، بينما تم إقصاء حركة «فتح» وتجويفها على يد سلام فيّاض والطارئين على هذه الحركة في مواقع رئاسة السلطة.

المسألة الثالثة أنه لم يعد مقبولاً بعد اليوم وقد ظهرت أداة الجريمة والمستفيد الأول من وقوعها سيما وثمة عدة ملابسات تؤكد حقيقة «سبق الإصرار» وحقيقة «التربص» من خلال الحصار وما صاحبه من أقوال مثبتة بالتحريض على الاغتيال والدعوة له والتأكيد على مباشرته من حكومة الاحتلال «الإسرائيلي» على لسان رئيسها شارون وجنرال حربها موفاز وغيرهم من مسئولي حكومة الكيان، يعني أنه لا مندوحة عن تأكيد جريمة المجرم وتقديمه للعدالة أيما كان، وأيضاً كشف بقية العناصر وأهمها الأداة الثانوية لأنه سيكون أكثر المجرمين جرماً في التاريخ بحجم عظم هذه القضية الوطنية والتضحيات التي بذلت في سبيلها، ذلك أنه ما كان ممكناً حتى ما قبل الإعلان عن الماديات الأخيرة في هذا الملف، لن يكون ممكناً اليوم وبالأساس في التهرّب أو التغطية أو المماطلة أو التسويف، وإن أياً من برامج أو أجندات أو استحقاقات تخص الوضع الفلسطيني اليوم بحاضره ومستقبله أصبح بالكامل أسيراً للحقيقة في هذا الملف، هذا يعني أنه ستتقدم دوماً ظلال كثيفة حول أية خطوات من أي نوع في مسألة ما يعرف «بالمصالحة الوطنية» في تلاقي جناحا السلطة أو إعادة ترميم منظمة التحرير ومؤسساتها، وإن أياً من الذرائع الهروبية لن تفلح في ترحيل هذه المادة اليوم لا بالأسئلة السخيفة المثارة حول توقيت أو مصلحة جهة التحقيق الصحفي المستقل، ولا بتلكم المتعلقة بذرائع توفر الإمكانات المادية محلياً وهي التي لم تتوفر لجهة التحقيق في بلدها أيضاً، وكل ما ومن يناور اليوم في طريق التعامل مع انفجار هذا الملف، سيكون تحت طائلة الشك والاتهام بمصلحة في تغطية خائبة على كشف الحقيقة، وهذه جريمة معززة جديدة لا يفلح القول معها أننا لم نوفق.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 38 / 2165437

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع مستشار التحرير   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165437 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010