السبت 23 حزيران (يونيو) 2012

الأمة الحيّة ورموزها

السبت 23 حزيران (يونيو) 2012 par أمجد عرار

كم يثلج الصدر أن نرى شعوباً تحترم رموزها وتستحضر من ماضيها ما يرشد حاضرها ويحافظ على زخم المسير أماماً. عندما تستعد فنزويلا لنقل رفات سيمون بوليفار بطل الاستقلال في أمريكا اللاتينية إلى موقع جديد وتنشئ له تمثالاً على شكل موجة عملاقة من الإسمنت ترتفع خمسين متراً تحاذي المجمع الوطني لعظماء الأمة في كراكاس، فإنها تجسّد القيمة الرمزية لبطل تريده أن يظل ملهماً لأجيال قادمة، ما دام العالم يهرول على مدرج ملتهب من التحديات والأخطار أكثر مما يصعد على سلّم التعايش الحضاري بين الشعوب. ومن يلقي نظرة إلى خريطة العالم السياسية، لا يسعه سوى الشعور بالقلق على مصير الإنسانية من ذئاب بشرية تزداد شراسة وافتراساً كلما كانت أكثر قدرة على استخدام العلم والتكنولوجيا في حقولها المميتة ومساراتها الجشعة.

من هنا فإن التكريم المتجدد من الرئيس هوغو تشافيز المعجب قولاً وفعلاً بالجنرال بوليفار، إحياء يليق بمساهمة رجل مرحلة حاسمة في الثورة المناهضة للاستعمار، تلك المرحلة التي أفضت إلى ولادة فنزويلا وكولومبيا والاكوادور والبيرو وبوليفيا مطلع القرن التاسع عشر. ليس الضريح وحده ما عكس اهتمام الجمهورية التي ألحق بها شافيز لقب «البوليفارية»، هو المظهر الوحيد للاهتمام ببطل الاستقلال اللاتيني، فقد جرت قبل عامين عملية نبش لرفاته التي أخضعت لفحوص مخبرية لتحديد سبب وفاته. وقد تكون هناك بعض الوجاهة في رأي بعض الفنزويليين بأن حجم الضريح والمبالغ التي صرفت على إنشائه مبالغ فيهما، لكن المعنى الأساس لهذا الاهتمام برجل لم يعد موجوداً، يبقى بعيداً عن عبادة الشخصية التي عادة ما يُخشى منها.

الشعوب الحيّة لا تميت ما هو مشرق في ماضيها، بل تبقيه قنديلها الذي تزوده دائماً بزيت الديمومة فينير اللحظات الحالكة في مسيرتها. المشرق والجميل في الماضي ليسا لحظات رومانسية يتذكرها المرء ليغمض عينيه ويتحسّر فحسب، بل هما مكون أساسي في معادلة التراث بكل جمالياته وجوانبه الثورية والإيجابية، والمعاصرة بكل ما استفادت من ذلك التراث وبنت عليه. عندما يقول المثل الشعبي «من فات قديمه تاه»، فإنه يجسّد بعفويته حقيقة تاريخية وجدلية علمية لا يمكن أن تسير الحياة في منحنى صاعد من دونها، ذلك أن القطع مع التاريخ، بالتأكيد قطع مع المستقبل وتقوقع على حال يراوح في المكان والزمان، في حين أن العلم يقول إن المراوحة في المكان تراجع، لأن الحياة تسير إلى الأمام.

لست من أنصار استيراد النماذج إلى حالتنا العربية، أولاً لأن لكل شعب خصوصيته التاريخية ومسار تطوره وظروفه، وثانياً لأن أمتنا زاخرة بالرموز المشرقة إبداعاً ونضالاً ومقاومة. لكن من الأهمية بمكان استلهام التجارب الناجحة وتوظيفها في مسيرة إنهاض أمتنا من غيبوبتها المزمنة. وما يحز في النفس ويدفع لاستحضار مبادرات ثورية متصاعدة في قارة مثل أمريكا اللاتينية، أن لدى هؤلاء روحاً متوهّجة متحديّة صنعت استقلالاً حقيقياً في تلك القارة التي باتت عصيّة على التطويع الاستعماري رغم شح الموارد في بعض دولها، والفقر المدقع لدى شعوب تلك الدول. وفيما هم يحترمون رموزهم ومحطات تاريخهم المضيئة، ينبري بعضنا لجلد المشرق من تاريخنا، وكأن هذا البعض مصمم على قتل بذور النهوض وحماية عناصر الجهل والتخلّف والاستكانة والتعوّد على الحالة الاستعمارية بدلاً للسيادة والاستقلال الحقيقيين. وإلا ماذا نسمي الجهد الكبير الذي بذله البعض من العرب، كتابياً وإعلامياً، لتقزيم تاريخ الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذي كرر هوغو شافيز من آخر الدنيا مراراً أنه يفتخر بكونه ناصرياً؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2165776

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165776 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010