الجمعة 22 حزيران (يونيو) 2012

الأبعاد الدولية للأزمة الإقليمية

الجمعة 22 حزيران (يونيو) 2012 par د. سمير كرم

يتحول الوضع الإقليمي في منطقة «الشرق الأوسط» حثيثاً الى أزمة دولية تهدد بصراع عسكري عالمي.

الولايات المتحدة تتصرف إزاء الأزمة السورية الراهنة على نحو يترك انطباعاً قوياً بأنها تعتبر استمرار دورها الذي تنفرد فيه بالهيمنة العالمية استراتيجياً وسياسياً ـ من اجل ضمان الهيمنة الاقتصادية ـ متوقفاً على التدخل عسكرياً في سورياً من اجل مناصرة «المعارضة» ضد النظام. وهي في هذا التصور تتجاوز بمسافات بعيدة موقفها الذي برر لها التدخل في ليبيا بالمشاركة مع قوات حلف الأطلسي. فهي لم تصل في تشكيل استراتيجيتها تجاه ليبيا الى نقطة اعتبار مصير هيمنتها العالمية متوقفة على هذا التدخل. أما بالنسبة لسوريا فالأمر مختلف، بمعنى انه اشد خطورة حيث يبلغ تقدير الولايات المتحدة الى نقطة فاصلة. فإما الهيمنة على سوريا، وبالتالي استمرار الهيمنة على المنطقة والعالم، وإما فقدان الفرصة في سوريا، الأمر الذي يعني انهيار المعارضة السورية وعودة سوريا الى دورها في مواجهة النفوذ الأميركي والتوسع «الإسرائيلي» في المنطقة.

إذا استخدمنا تعبيراً معروفاً في علم المنطق الحديث فإن اميركا تعتبر انها اصبحت في موقف «إما .. أو». وهذا معناه انه لا ثالث بينهما او بعدهما. ولا غرابة ازاء هذا التقدير الخطير ان يصل الأمر بكاتب من مؤيدي سياسات إدارة الرئيس باراك أوباما إزاء هذه المشكلة الى حد وصف موقف أوباما بأنه في حالة «تخبط». ويعزو هذا الكاتب وهو جاكسون ديل (واشنطن بوست) هذا التخبط الى «عامل مهم متمثل في حملة الرئاسة الأميركية التي تتطلب تهدئة اندفاع تيار الحرب في «الشرق الأوسط»». لكن ديل يضيف الى هذا ما يعتبر انه سبب كامن في الأوضاع الإقليمية، هو ان أوباما يعرف انه يواجه التحدي الإيراني وليس التحدي السوري وحده. فإن «الحسابات بشأن سوريا وإيران أكثر تعقيداً مما تبدو للوهلة الأولى. إذ لا يقتصر الأمر على التحالف القائم بينهما، بل هو نتيجة لواقع كون اميركا وحلفاؤها لديهم أهداف مستقلة وملحة ... فهم بالنسبة لسوريا يهدفون الى الإطاحة بالرئيس الأسد ...وفي إيران يهدفون الى منع الأسلحة النووية». وليس واضحاً السبب الذي يجعل الكاتب الأميركي يستخدم صيغة الجمع متحدثاً عن حلفاء اميركا، في حين انه يقصد «إسرائيل»، «إسرائيل» وحدها. ولكنه لا يلبث ان يتوصل الى استنتاج صحيح حين يقول «لقد اصبح واضحاً ان الخطوات التي قد تنجح في احد الموقعين ستؤدي قطعاً الى تعقيد الأمور بشأن الاستراتيجية الغربية في الموقع الآخر». ويتساءل شارحاً ما يعنيه «إذا تورطت اميركا في عملية عسكرية في سوريا، هل سيمكنها بعد ذلك ان تشن هجوماً على المنشآت النووية الإيرانية؟ وماذا لو أقدمت «إسرائيل» على هجوم بينما العملية السورية لم تزل بعد؟ تتمثل الإجابة بوضوح في ان ذلك قد يسفر عن فوضى تخرج عن السيطرة. ولهذا السبب سألت أحد المسؤولين «الإسرائيليين» مؤخراً عن رأيه بشأن التدخل الغربي في سوريا وكانت إجابته: تركيزنا هو على إيران وأي شيء قد يسبب الشوشرة على ذلك لا نعده أفضل ما يمكن عمله ... لكن هذه الإستراتيجية «الإسرائيلية» تصطدم مع المفاوضات الديبلوماسية لوقف البرنامج النووي (الإيراني). وتضيّق مجال الاختيار في سوريا أمام أوباما، إذ تتطلب الصفقة مع إيران دعماً من روسيا». دعم من روسيا لصفقة اميركية مع إيران؟ هذا كلام من الكاتب المؤيد لسياسة الإدارة الأميركية في المنطقة ضد سوريا وضد إيران فقد صدقيته تماماً، لان تحركات روسيا التي تتحدث عنها مصادر اميركية لدعم الحكومة السورية عسكرياً بدأت في الظهور من الأسبوع الفائت. هذا ما أكده اندرو كرامر (16 / 6 / 2012 - في نشرة «بيونير بريس» من موسكو) حين أورد على لسان اكبر مصدّري السلاح في روسيا ان شركته «تشحن أنظمة صواريخ متقدمة دفاعية الى سوريا من شأنها ان تسقط الطائرات او تغرق السفن إذا حاولت الولايات المتحدة او غيرها من الدول الغربية («إسرائيل»؟) ان تتدخل في موجة العنف الذي يجتاح هذا البلد». وأضاف مصّدر الأسلحة الروسي اناتولي ايسايكين «إنني أحب ان أقول إن هذه الأنظمة جيدة بالفعل كوسائل دفاعية وإنها دفاعات يعتمد عليها ضد الهجمات من الجو ومن البحر. ليس هذا تهديداً إنما يتعين على أي كان إذا كان يخطط لشن هجوم ان يفكر في الأمر». ويجدر بالذكر هنا ان هذه التصريحات، بما حملته من معلومات على درجة عالية من الأهمية، جاءت قبل يومين اثنين من لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي أوباما على هامش اجتماع القمة للدول العشرين في المنتجع المكسيكي لوس كابوس.

بالإضافة الى هذا فإن مسؤولين أميركيين أكدوا في اليوم نفسه «ان الولايات المتحدة تتعقب سفن شحن روسية تشق طريقها الى سوريا حاملة أسلحة وذخيرة وعدداً صغيراً من القوات الروسية».

الموقف الإقليمي يتحول إذن الى مواجهة دولية. وما كان يعتبر أزمة في سوريا بين الحكومة والمعارضة يتحول تدريجياً الى مواجهة بين القوتين العسكريتين الأعظم في العالم. فهذه حقيقة لم تسقط بسقوط الاتحاد السوفياتي. والسؤال إزاء هذا التحول هو ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة من اجل مساندة «إسرائيل» بالنسبة لمواجهة التحالف السوري الإيراني لأن تواجه القوة العسكرية الروسية، التي يبدو انها لا تنظر الى الشأن السوري على انه شان يهم سوريا وحدها، او الى الشأن السوري الإيراني على انه يهمهما وحدهما؟

إنه سؤال مشروع، وهو في الوقت نفسه يؤكد تحولاً خطيراً لهذه الأزمة «الشرق أوسطية» من المجال الدبلوماسي الى المجال العسكري. ولعلنا لا نبتعد عن حدود الموضوعية إذا قلنا ان هذه اخطر أزمة بين القوتين العسكريتين الأعظم في العالم منذ انهيار الدولة السوفياتية في أوائل تسعينيات القرن العشرين. ولهذا فإن من المتوقع ان تتخذ إزاءها كل القوى الكبرى مواقف حدية تؤكد بطبيعتها ان العالم لم يتغير كثيرا من الناحية الإستراتيجية ومن ناحية المصالح العسكرية منذ ذلك الوقت. وهذا على الرغم من كل مظاهر التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا التي تتمثل ـ على سبيل المثال ـ بحضور روسيا مؤتمر القمة للدول الغربية العشرين.

هل تشكل التطورات في الموقف الروسي إزاء الأزمة السورية ـ وبالتالي إزاء الصراع الإيراني ـ «الإسرائيلي» ـ مفاجأة إستراتيجية او سياسية للولايات المتحدة؟ لا توجد إجابة جاهزة لهذا السؤال إنما يتوقف نوع الإجابة على مدى معرفة الولايات المتحدة بأن لروسيا في «الشرق الأوسط» مصالح مختلفة عن المصالح الأميركية اختلافاً تاماً، ولكنها لا تختلف ربما بأي درجة عما كانت «المصالح السوفياتية». وقد تميل الولايات المتحدة الى تفسير المواقف الروسية بمعايير اميركية في تقدير ما يعنيه تعبير «المصالح». وغالباً فإن الولايات المتحدة ستعتبر ان روسيا تبدي اهتماماً بأن يكون لها منفذ على البحر الأبيض المتوسط، ومن خلال اهتمامها بالشأن السوري تبقي على هذه الإطلالة الخارجية. ولكن الحقيقة ان مصالح روسيا في المنطقة أوسع من ذلك بكثير وربما لا تقل في اتساعها عن المصالح الأميركية الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية. إنما يبدو في كل الأحوال ان اهتمام الولايات المتحدة بالسير على الطريق الإستراتيجي «الإسرائيلي» في «الشرق الأوسط» قابل لأن يربك الولايات المتحدة في المنطقة على النحو الذي شرحه الكاتب الأميركي جاكسون ديل. وحتى الآن فإنه لا يوجد تفسير مقبول او منطقي لاستمرار تردد الولايات المتحدة في تلبية رغبة «إسرائيل» في مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية سوى الخشية من النتائج المباشرة من رد إيران على مثل هذا الهجوم وما يمكن ان يلحقه من أضرار بالوجود العسكري الأميركي في المنطقة.

على انه لا بد من التنبه الى ان الولايات المتحدة تؤدي خدمة جليلة لـ «إسرائيل» في انتهاجها سياسة في «الشرق الأوسط» ترمي الى إبقاء التباعد بين اكبر قوتين إقليميتين في المنطقة، وهما مصر وإيران. والمفهوم انه ليس للولايات المتحدة أي نفوذ على إيران من أي نوع. هذا أمر أكدته حقيقة صمود الأخيرة في وجه الضغوط الاقتصادية الأميركية (والأوروبية). وتضع الولايات المتحدة موضع التنفيذ سياسة التفريق بين مصر وإيران من خلال ضغوط غير علنية، ولكن من الممكن استنتاجها من استمرار الاتصالات مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر. ان زيارات القادة العسكريين الأميركيين لمصر لا تنقطع منذ انطلاق ثورة 25 يناير 2011 حتى الآن. ومع ذلك فإن التصريحات المقتضبة التي تصدر عن الجانبين بشأنها لا تشرح شيئاً ولا تكشف حتى عن طبيعة القضايا والمسائل التي تطرح في هذه اللقاءات. غير ان معرفة المراقبين اليقينية باهتمام واشنطن بما ستكون عليه سياسة مصر الخارجية تجعلهم يؤكدون ان الولايات المتحدة ومن بين قضايا أخرى عديدة تهتم بشكل خاص بإبقاء مصر بعيدة عن إيران. ان أي تنسيق او تعاون من أي نوع بين هذين البلدين، وخاصة في الشؤون الإقليمية أمر لا تطيقه «إسرائيل» وبالتالي الولايات المتحدة. وقد لجأت واشنطن الى حيل عديدة لإبقاء مصر بعيدة عن إيران بشتى السبل. وتبين هذا بشكل خاص عندما لمست واشنطن ان المناخ العام الديموقراطي الذي ساد في مصر اثر الثورة حبّذ التقارب مع إيران باعتبارها قد أصبحت قوة إقليمية مهمة تقف ضد خطط «إسرائيل» التوسعية في المنطقة. ولا بد ان الولايات المتحدة لاحظت صعود الشأن الإيراني في مصر إبان الحملات الانتخابية لمجلس الشعب وبعد ذلك خلال الحملات الانتخابية للرئاسة المصرية. وعلى اثر ذلك بدأت تظهر الحكايات المختلقة عن دور لإيران ودور لـ «حماس» وربما دور لـ «حزب الله» في أحداث مصر، وخاصة تلك التي تخلق اضطرابات في شبه جزيرة سيناء.

ويبدو المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحده مقتنعاً بصحة هذه الادّعاءات ضد إيران، كما يبدو انه وحده الذي يتجاهل الدعوات الشعبية لتوثيق العلاقات بين مصر وإيران لما فيه المصلحة الأمنية للبلدين ولما فيه المصلحة الإقليمية للعرب وقضاياهم في مواجهة «إسرائيل». وبطبيعة الحال فان الولايات المتحدة لا تبدو مطمئنة بالكامل الى استمرار السياسة المصرية على ما هي عليه بعد ان يسلم المجلس الأعلى للقوات المسلحة زمام الأمور في البلاد الى الرئيس المنتخب. ولكن من المؤكد ان تستمر واشنطن في ممارسة ضغوطها السياسية والاقتصادية على مصر لتأمين بقاء المسافة الفاصلة بين مصر وإيران لمصلحة «إسرائيل» ولمصلحة النخب الحاكمة في الخليج، وخاصة السعودية وقطر والبحرين والإمارات. فإن هذا جزء أساسي من إستراتيجية أميركية - «إسرائيلية».

كيف تكون المحصلة النهائية لهذه العوامل التي تتفاعل مع الأزمة السورية وفي الوقت نفسه مع الوضع الإقليمي الإيراني؟

الإجابة تتوقف على مدى التباعد بين المصالح الأميركية والروسية وفي الوقت نفسه مدى التقارب الممكن بين القوتين الإقليميتين في المنطقة مصر وإيران.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 61 / 2180911

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2180911 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40