الخميس 31 أيار (مايو) 2012

ساووا الصفوف

الخميس 31 أيار (مايو) 2012 par جميل مطر

تضغط جهات متعددة لإقناع الناس من غير المتحزبين إخوانياً أو مباركياً بأن عليهم أن يختاروا بين «الجماعة» و«المجلس»، ليتولى أحدهما منصب رئاسة الجمهورية للسنوات الأربع القادمة على أقل تقدير أو لأجل غير محدود. أنا غير مقتنع، ولن أقتنع.

أرفض محاولات الإقناع للأسباب التالية:

أولاً: لا يعقل أن شعباً، بعد ثورة أو في خلال عملية ثورية، وبعد سنوات من تجارب مؤلمة مع طبقة حاكمة مستبدة وفاسدة ومنغلقة، وبعد آمال عريضة بأن يوماً سيأتي ينتخب فيه هذا الشعب شخصاً في شكل امرأة أو رجل، وليس في شكل جماعة أو مجلس، رئيساً للجمهورية. لا يعقل أن يجد الشعب نفسه، بعد كل هذا، مجبراً بقوة الإعلام وأساليب الفزاعات والتهديد والبلطجة و«تجاوزات» العملية الانتخابية على التصويت لجماعة أو لمجلس الطاعة العمياء والانضباط الفكري هما ناموس العمل فيهما وضابط العلاقات بين الأعضاء وقياداتهما.

ثانياً: لا يصلح الطرفان المتسابقان لسباق ديموقراطي. لا أستطيع تصورهما بعد أربع سنوات، يسمحان لآخرين من خارج صفوفهما أن يتسابقوا لتداول السلطة بشكل سلمي، بل أكاد لا أتصور أن أحدهما، إن خسر الجولة الثانية، سوف يقنع بما حقق ويقتنع ويذهب إلى إدارة دوره في المعارضة بسلام وهدوء، أو أن أحدهما سيعود في أحسن الأحوال إلى وظيفة التبشير برسالته الدعوية والآخر يعود إلى مواقع الدفاع عن حدود مصر القومية.

ثالثاً: كانت الحملة الانتخابية مرحلة كاشفة عن التناقضات في فكر ونوايا الطرفين. خرج من صفوفها من يقول إنهم قادمون ليعيدوا الثورة إلى أصحابها، وآخر ليقول إن الثورة بالنتيجة التي أحرزها الضابط المرشح للرئاسة قد انتهت، فما بالكم أيها الناس بما سيحمله معه عند فوزه بالرئاسة. سمعنا مثلاً، بين الكثير الذي سمعناه، تصريحات عن الأوامر التي ستصدر فوراً إلى الشرطة للعودة إلى أداء وظيفتها في حفظ الأمن المدني، وتصريحات تتجاوز حدود اللياقة الدستورية فتعد بأحكام سياسية عاجلة للموقوفين ومن هم رهن التحقيق في ممارسات فساد.

شاهدنا بعيوننا وسمعنا بآذاننا كثيرين يقولون إنهم سيحرمون ويحللون ويمنعون، وأننا - معشر المصريين - أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من دولة الخلافة التي قد تقوم من كوالالامبور أو جاكرتا أو إسلام أباد أو القدس الشريف، وقائل «معارض من أهلها» يدعو لتأجيل قيامها باعتبار أن الأمة الإسلامية غير جاهزة لها بعد.

نعرف أن التصريحات المتناقضة سمة من سمات الحملات الانتخابية في كل مكان وزمان، هذه هي السياسة، أو هكذا يمارسها السياسيون. ننقل أيضا عن الغربيين والهنود الذين مارسوا بكثرة الانتخابات وصفهم لذاكرة المواطن المسيس بأنها متحيزة بطبيعتها، تتجاهل ما لا تحب وتحتفظ بما تتمنى وتريد. يسود أيضا في أوساط الساخرين من الديموقراطية الاعتقاد بأن السياسيين يخططون ليوم يتنكرون فيه لوعود لم يصدقوا فيها، معتمدين على أجهزة بيروقراطية ونساء ورجال قادرين على تزييف إرادة الناخبين والرأي العام وقمع الناس وقهرهم وتحقيق مصالح الطبقة الحاكمة وتأجيل تحقيق مصالح الجماهير وأغلبها صعب ومعقد.

رابعاً: ما زلت عند رأيي، في أن الأغلبية العظمى من المرشحين لمنصب رئاسة الجمهورية لم يعرضوا على الناخبين برامج تتناسب والمرحلة الثورية التي تعيش فيها مصر. زاد اقتناعي بهذا الأمر وأنا أتابع المرحلة الأخيرة من سباق الرئاسة وما انتهى إليه، فلا الجماعة أو القيادة التي ترشح باسمها المرشح، وإن أنكر أو أنكرت، قدمت برنامجاً يرضي آمال الثوار وتطلعاتهم في مستقبل مختلف. الجماعة في أحسن ما قدمت وخططت أعادت صياغة مجموعات من اجتهادات قديمة، بقيت في مجملها ونهايتها، صورة أخرى محدثة لما انتهجته حكومات مبارك من سياسات اقتصادية واجتماعية .. ويبدو أن تجربة التيارات الدينية مجتمعة في مجلس الشعب، أو ما انطبع منها في وعي الناس، لم تساعد على تحسين صورة الجماعة الساعية لاحتلال منصب رئيس الجمهورية بعد أن حصلت على النسبة اللازمة للهيمنة في السلطة التشريعية .. إذ لم يصدر بعد، عن مجلس الشعب بأغلبيته الدينية الساحقة، ما يلمح إلى وجود سياسة اقتصادية أو اجتماعية مختلفة عن السياسات التي كانت تجرى مناقشتها وأحياناً جلدها تحت قبة البرلمان، وهي السياسات التي سقط بسببها حسني مبارك وجماعته.

من ناحية أخرى، وبعد أن هدأ الغبار الذي أثارته حشود أنصار المتسابقين على منصب الرئاسة، عادت فخيمت أجواء الشكوك والخوف إذ لم يصدر واضحاً وصريحاً عن المرشح العسكري ما يكشف عن هوية «اللاعب الخفي» الذي دوّخ المصريين وأصاب الثورة والثوار إصابات حقا موجعة، وارتكب خيانات وطنية ليس أقلها شأناً وقوفه ضد ثورة شعب اعترف لها العالم بهذه الصفة وتعاملت معها الشعوب الأخرى على هذا الأساس .. كانت خيانته الأعظم، هذا اللاعب الخفي، حين أسهم في إثارة الفوضى في شوارع مصر وميادينها وتسبب في اختناقات في توزيع الغذاء والطاقة، وحين أثار الشائعات عن حال الاقتصاد المصري وأساء إلى السمعة السياحية لمصر وسحب قوات الشرطة من مواقعها وفتح السجون ليخرج منها الأشقياء. أسأل وأتساءل، مع ملايين من الناخبين الذين يخضعون اليوم لضغوط للتصويت لصالح طرف دون آخر، أين اللاعب الخفي، ومن هو، ومن سيقدمه للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى للوطن؟

خامساً: إن أحداً من الطرفين المتسابقين لضم كرسي رئيس الجمهورية إلى بقية الكراسي التي «يكوشان عليها» لم يقدم للناخبين حتى الآن نماذج تجارب ناجحة يريد أن يتماهى معها أو يستنسخها أو يستعير منها. لم يطلعنا أحد على تجربة نجاح لنظام حكم قام في مصر في أي عهد على أكتاف جماعة دعوية. نريد أن نسمع تفاصيل تجربة ناجحة و«مستدامة» في تاريخ هذه المنطقة، أو أي منطقة أخرى في العالم، قامت على أساس حركة دينية، واستطاعت أن تفرز حركة سياسية تعتنق الديموقراطية وتؤمن بالحق في الاختلاف والانشقاق، ومستعدة للتخلي عن السلطة في أول بادرة من جانب الرعية يطلبون فيها الإصلاح أو مجرد تغيير الوجوه وهو حق لهم.

من ناحية أخرى لم يقدم لنا الضابط المرشح للرئاسة ما يقنعنا بأنه سيكون مختلفاً عن عديد الضباط الذين حكموا مصر والعالم الإسلامي، مستندين إلى مؤسساتهم العسكرية ومنهم أيوب خان وسوهارتو وحافظ الأسد وزين العابدين بن علي وحسني مبارك وعبد الكريم قاسم ومعمر القذافي وجعفر النميري، وعن ضباط آخرين حكموا في أوروبا وأمريكا اللاتينية ومنهم فرانكو في إسبانيا وأوجستو بينوشيه في شيلي وأونجانيا في الأرجنتين.

سادساً: مرة أخرى نعود إلى أجواء عشناها عقوداً عديدة قبل نشوب الثورة، عدنا إلى حديث الفزاعة ليتصدر تكتيك ترويع المواطنين من ناحية والمسؤولين الأمريكيين من ناحية أخرى. هناك، ومن دون شك، قصور دائم في فهم بعض المسؤولين عن صياغة الخطاب الإعلامي لعهد «ما بعد الثورة» المأمول فيه، فالفزاعة فقدت رهبتها لدى المواطنين العاديين بعد أن لمسوا قوتها الحقيقية وعرفوا حدود خبرتها وكفاءة أجهزتها، وبعد أن سمعوا عن ضآلة إنجازات الأشقاء في تونس والصعوبات التي تواجههم كسلطة حاكمة. كذلك فقدت الفزاعة مكانتها في السياسة الخارجية الأمريكية، وسياسات أوروبا، عندما أقدم الأمريكيون على التعامل بأنفسهم مع قياداتها وسمعوا ما طمأنهم على مصالحهم ومصالح حلفائهم في المنطقة، وسمعوه من قيادات فزاعتي تونس وليبيا ويسمعونه الآن من فزاعة سوريا.

عدنا كذلك إلى حديث الطائفية، وعادوا ليستخدموها سلاحاً يفرق بين أبناء الأمة ويشغلهم عن استمرار المطالبة بتنفيذ مطالب الثورة في العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان وتثبيت قواعد التداول الديموقراطي. وهم الآن، وأقصد عناصر اللعب الخفي، ينشرون قصصاً عن عودة «البلطجية» وعن الميليشيات المسلحة التي جرى ويجري تدريبها لنشر الفوضى في الأحياء والأسواق والأماكن السياحية.

تفاصيل مسمومة تحاول أن تنبئ بمشهد مستقبل مصر بعد الانتخابات الرئاسية، وتدفع الناس لتتنافر وتتعارك لضمانات التحكم في هذا المستقبل. هذه التفاصيل كافية في حد ذاتها لإقناع أهل مصر بأن حاجتهم الحقيقية والعاجلة هي في عودة الالتفاف على الأسباب التي دفعتهم إلى الخروج إلى الشارع يوم 25 يناير، بعد أن يضيفوا لها سبباً أدعى وأهم، وهو الخيانة العظمى التي ارتكبها في حق الثورة والوطن لاعب لا يجب أن يبقى خفياً مهماً كلفنا الأمر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2165855

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165855 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010