الأربعاء 23 أيار (مايو) 2012

طرابلس.. لبنان

الأربعاء 23 أيار (مايو) 2012 par د. نهلة الشهال

مرعبٌ هو مشهد العمامة الملطخة بالدم. فإن لم تكن تلك هي الفتنة فما هي؟ صحيح أن سياق الأمور لم يبدأ من عند هذه الحادثة، إلا أنها ستكون من الآن وصاعداً، وبالتأكيد، إحدى محطاته الأساسية. وهي طرحت الجيش اللبناني على بساط البحث والتناول والتجاذب، و«الاجتهاد» (وبعضه كفر!)، بينما المؤسسة العسكرية هي الركيزة الوحيدة، ربما، التي ما زالت متبقية للبنان الدولة (علاوة على المصرف المركزي). وبين الرعونة الصافية واحتمال الغرَض والشبهة، سيقول التحقيق الجاري كلمته، ومن المصلحة العليا للبلاد أن يتم ذلك بسرعة وشفافية.

لبنان ولا شك بلد مجنون، يحتضن كماً هائلاً من التناقضات الحادة المتعايشة، تديرها كافة أطرافه، كلٌ من موقعه، بمزيج غريب من التطرف القاتل ـ بالمعنى الحرفي للكلمة وبمعناه المجازي العام ـ والنزوع التسووي الذي يقبع في تلافيف دماغ كل لبناني، ويجعله يعرف حدود ما سينتهي إليه فعله مهما كان، ومهما بدا منفلتاً. ولكن، ورغم الجنون، فما كان ينبغي أن يجاز مهرجانان في ساحة بلدة حلبا في عكار، في مثل الظروف المتوترة التي شهدتها البلاد ومنطقة الشمال على امتداد الأسبوع السابق عليهما. بل وحتى من دون ذلك التوتر. فعلى فرض أن ما جرى في 7 أيار 2008 كان شراً لا بد منه دفاعاً عن مسائل عظمى ومشروعة تماماً، كحصانة أدوات المقاومة، أو كان استدراجاً أميركيا / «إسرائيلياً» لـ «حزب الله»، بواسطة قوى محلية، وأنه انساق إليه من دون أن يمتلك الخيار ـ وهذا تعريف الفخ ـ فإن استعادة فصوله اليوم خصوصاً، كما في أي وقت بعد انقضائه، حماقة وانتحار سياسي. التباهي به خطأ سياسي. فهو ينبغي له أن يبقى في خانة الدفاع الاضطراري عن النفس، مع إرفاقه دوماً بـ«مع الأسف» متواضعة بصدق، وهي وحدها يمكن أن تُعلي من شأن أصحابها. وأما التلميح إليه كلما «دق الكوز بالجرة»، إيحاءً بالقدرة على تكراره لو لزم ذلك، بغاية تخويف الخصوم، فلا يفعل غير ابتذال ما جرى في ذلك اليوم، ووضعه في خانة ممارسة الغلَبة، وهي ما ينتمي ليس الى الصراع مع «إسرائيل» بل الى ذلك الصراع الآخر، «الضيعجي»، العائد الى طقوس الحارات اللبنانية. وهما ليسا واحداً. بل ليس بينهما حتى أوانٍ مستطرقة!

ما كان ينبغي إذاً للحزب السوري القومي الاجتماعي إقامة مهرجان تأبيني في حلبا للشبان الذين سقطوا ضحايا في ذلك اليوم المشؤوم، ولا كان ينبغي لحزب «المستقبل» الحريري إطلاق العنان لتلك الخلطة العجيبة التي تتدثر بعباءته لإقامة مهرجان مقابل. ليس فحسب في الساحة نفسها وفي اليوم نفسه، بل بشكل عام. فمن غرائب هذا البلد ان تقول كل أطرافه التي تمتلك وجوداً رسمياً على الساحة، أي نواباً ووزراء وأحزاباً مرخصة ومرجعيات دينية، إنها ضد التوتير والتصعيد ثم لا تمارس سواهما، أو تنجر الى ذلك بحكم المزايدات، وإرضاءً لـ«قاعدة شعبية» تمَّ في أوقات سابقة شحنها وإحماؤها كما الحديد المعد للطَرْق. وإن كانت الجهتان متعنتتين، فكان ينبغي للسلطات العليا في البلاد ألا تخشى المبادرة الى ضبط رعونتهما، فتمنع بقرار رسمي الاحتفالين. لكان ذلك «القمع» افضل بكثير مما جرى، ويصعب احتواء دوائر تفجره، كما بدا من وصول تلك الدوائر الى سائر لبنان، وسقوط ضحايا جديدة لا تفعل غير تعميق الجراح وتقييحها.

وفي هذا الصدد، ومن دون إنكار صعوبة الموقف، فعلى «حزب الله» التمعن في خياراته وتفحصها ببعد نظر. فهو انزلق رويداً الى الغرق في المستنقع اللبناني، عالقاً في طحالبه، يموّل ويسلح جماعات يظن بذا أنه يضمن ولاءها له، أو يشوش بها على خصومه، كما يفعل في أمثلة نافرة تجسدها طرابلس وحي «الطريق الجديدة» من بيروت. وحجته أنه لا يمكنه تحصين قدرته على ممارسة دوره الأساس وخياراته الكبرى ـ أي مجابهة «إسرائيل» ـ من دون الالتفات الى الأرض التي يقف عليها. ولكن، هل حقاً ذلك فحسب ما يفعله؟ هل تعطيل وردع التآمر عليه بوصفه مجابهاً لـ «إسرائيل» «يمرّ» من طرابلس والطريق الجديدة؟ ومع ذلك وبعده، فهل يبقى على ما هو عليه وهج تحرير الجنوب وإجبار العدو على الانكفاء عنه يوم 25 أيار 2000 التي تحل ذكراها هذه الأيام؟ وإن كان «حزب الله» واقعياً، يدرك ضرورات التعامل مع ساحته المباشرة، أي لبنان، فهل خطته المعتمدة والمطبقة مفتكرة حقاً، بالمعنى الاستراتيجي. وهل هي حقاً الخيار الوحيد أمامه؟ ثم وبعد ذلك، فهل كل تفاصيلها مشروعة وضرورية؟ أم أن قدر العبْث والعبَث فيها كبيران. وإذا كان «حزب الله» واقعياً، فهل يمكنه تجاهل انتشار الاستقطاب المذهبي السني / الشيعي في المنطقة، كالنار في الهشيم، وهو ما يرتِّب مستلزمات كبرى على كيفية أدائه لدوره الأساس صوناً لمعانيه؟ هل ما زال يسعى للالتفات الى ذلك أم طغى عليه استسلام للواقع كما يقدم نفسه، واندراج فيه، مما يحوِّر كل ما عداه. تلك أسئلة مشروعة لمن يرى في الصراع السني / الشيعي المستعر علامة على انحطاط مريع وخطير، لن يُبقي ولن يَذر، بما في ذلك ـ بل وعلى رأسه ـ كل ما يتعلق بشأن «إسرائيل». فذلك الصراع لا يحمل سوى احتمالات تفكك المنطقة وخرابها فوق ما هي مفككة وخربة الآن.

أما الجهة المقابلة، فحالها بائس. لقد أتاح السياق السوري لها أن تحلم بدور. وبتنا نرى المشهد وقد طغت عليه ظواهر لعلها كانت تعتمل تحت السطح، أو هي تتشكل بسرعة صاروخية...أو الاثنان معاً. وبفضل الشحن الغرائزي العنيف للخطاب المذهبي ولذاك الشعبوي البدائي، تصبح ظواهر قابلة للترسخ، وقابلة للتحول الى معطى لا يمكن تجاهله. وعلى الرغم من أن تضخم الظاهرة وتفلتها يقلق رعاتها، إلا أنهم هم أيضاً يتصرفون كمن أسقط بيده. هذا حين لا يكون ثمة «مصادفات» خير من ألف ميعاد: تدعو الدول الخليجية الثلاث رعاياها الى مغادرة لبنان... قبل ساعات قليلة من وقوع حادثة مقتل الشيخين العكاريين على يد حاجز للجيش اللبناني، ما أدى الى اتساع دائرة الاشتعال الطرابلسي الى سائر البلاد.

مرة قيل لستالين عن أحدهم إنه مجنون. وكان القائل المقرب من ستالين يقصد إنقاذ الرجل الموصوف هكذا بالجنون من بطش الرجل الرهيب. فأجابه ستالين: «مجنون لمصلحة من؟». لا مزيد!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165367

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165367 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010