الاثنين 14 أيار (مايو) 2012

الطريق إلى نكبة «إسرائيل»

الاثنين 14 أيار (مايو) 2012 par د. عبد الحليم قنديل

ربما تكون ذكرى نكبة احتلال فلسطين ونشأة كيان الاغتصاب «الإسرائيلي» مناسبة لاجترار أحزان حقيقية، لكنها أيضاً ـ في سنتها الرابعة والستين ـ مناسبة لتجديد الأمل في تحرير فلسطين وهدم كيان الاغتصاب.

ليست هذه دعوة لتفاؤل مجاني، ولا مراوغة للنفس الأمارة بالأماني، بل قراءة لمشهد قد تختلط فيه الصور، وقد تتلاطم التوقعات، لكن خط سير حركة التاريخ يبدو في تقديرنا ظاهراً، وخلاصته أن «إسرائيل» كفت عن إمكانية النصر، وحل عليها زمان الهزيمة، برغم أنها تملك كل ما في الدنيا من متاع الحروب.

تأملوا ـ فقط ـ خط سير معركة الأمعاء الخاوية، وما فعله إضراب عشرات الأسرى الفلسطينيين عن الطعام، وصحوة الروح الفلسطينية التي أحدثها الإضراب، وتكون حركة شعبية واسعة بإلهام إضراب الأسرى، بدا فيها القلب الفلسطيني نابضاً موحداً في الضفة وغزة وعرب 1948 من وراء الجدار العازل، بينما بدت «إسرائيل» في حال الانكشاف والهلع، وليس بيدها غير تفريق الأسرى، ومحاولة إطفاء النار التي أشعلها قرار الإضراب، وبإجراءات تزيد النار اشتعالاً، فقد بدت حركة نصرة الأسرى كأنها توحد الفلسطينيين على صوت واحد، وتكتسح حواجز الانقسام السياسي بين سلطة عبّاس وحركة «حماس».

بدا إضراب الأسرى كأنه تجديد لوعد المقاومة بطريقة جديدة، بدا كعمل سلمي يفتتح ثورة سلمية، أقرب في صورتها وحوافزها إلى طراز الثورات العربية المعاصرة، فمنذ بدء 2011 عام اندلاع الثورات، تكررت حالات استنهاض ثورة شعبية مماثلة في فلسطين، وكلنا يذكر تحرك جماعات من الشباب الفلسطيني تحت شعار (الشعب يريد إنهاء الانقسام)، ثم تحرك جماعات من الفلسطينيين في الشتات العربي إلى خطوط الحدود، وقد بدت نمطاً متكرراً فعالاً، وتداعت ظواهره عبر العام الأخير، ثم زيادة وتيرة المظاهرات والاحتجاجات الشعبية المتحدية لجدار الفصل العنصري، ثم حوادث الصمود الأسطوري للفلسطينيين في القدس، وكلها ـ أي هذه التحركات المتفرقة ـ بدت كمدد مضاف لحلم صناعة ثورة شعبية سلمية، تتجاوز عقبات الاحتراب الفصائلي المهلك، وتؤسس لقوة الشعب التي لا يغلبها غلاب، وبذات الإلهام الغريزي الذي أسقط نظماً موالية لـ «إسرائيل»، برغم أن هذه النظم بدت طويلاً كأنها من الجبال الرواسي، وبدت كأنها تعيش في خلاء صحراوي، تحولت فيه الشوارع والميادين العربية إلى ما يشبه الربع الخالي، وحيث لا خبر ولا حس ولا صوت ولا حركة، ومع نداء الثورات تحول الموقف بكامله، واكتشف الناس المهانون قوتهم الكامنة في اتحادهم، وفي خروجهم مجتمعين إلى الشوارع والميادين، وفي الاحتشاد السلمي المتفوق أخلاقياً، وفي الصبر على الابتلاء والاستعداد الهائل للتضحية، وفي البقاء الثابت المتصل على حالة الغضب الهادر، وإلى أن يتحقق الهدف مهما طال الزمن، وإلى أن تسقط النظم بضربة شعب، وتملما كما يمكن أن يسقط احتلال «إسرائيل» بضربة احتشاد الشعب الفلسطيني لشهور متصلة، وبصياغة أهداف متدرجة قد يكون ملائماً أن تبدأ بشعار (الشعب يريد إنهاء الاحتلال) في القدس والضفة وغزة كمرحلة أولى.

وقد نحب أن نجازف بتوقع ثورة شعبية فلسطينية من الطراز العربي الجديد، وتبدو لنا المعارك الشعبية المبعثرة على السطح، ومن حول شعارات إنهاء حصار غزة، أو شعارات تفكيك الاستيطان وهدم الجدار العازل، أو شعارات وقف تهويد القدس، أو شعارات دعم صمود الأسرى المضربين عن الطعام، والقابلة للتصاعد مع انضمام أسرى جدد إلى معركة (الأمعاء الخاوية)، أو خوض المعركة بالتناوب بين ما يصل إلى خمسة آلاف أسير فلسطيني، وهنا تبدو رمزية الأسرى بالذات ملهمة، فهم العنوان الأشد وضوحاً على محنة أسر فلسطين بكاملها، وهم بحكم النوعية البشرية خلاصة ممتازة من التكوينات القيادية الطليعية، وهم ينتمون بالطبع إلى فصائل فلسطينية متعددة، لكن فلسطين تجمعهم بأكثر مما تفرقهم سياسات الفصائل، وهم الفئة الأكثر تألقاً في الوجدان الفلسطيني المقاوم، والمؤهلة أكثر من غيرها لإلهام الشعب الفلسطيني، وهو ما يفسر الحيوية المضافة للتحرك الشعبي من حول قضية إضراب الأسرى، وبهدف أبعد من تحرير الأسرى وردهم إلى أهاليهم، فالشعب الفلسطيني الآن في أمس الاحتياج إلى حركة عفوية توحد وتحشد وتلهم، وتنهي ركود الاستقطاب الفصائلي المسيطر على كتلة غالبة من السكان، وتخلق النواة الصلبة لثورة الفلسطينيين على الطراز العربي الجديد.

وقد يرى البعض أننا نحلم، ونحن كذلك بالفعل، لكن الفارق كبير بين الحلم والوهم، الوهم معلق في فراغ وجداني وتاريخي، بينما الحلم وثيق الارتباط بوجدان اللحظة وحقائق التاريخ الجاري، فالباعث الحافز على الثورة التي نريدها قائم ومتصل، وهو ـ في المجمل ـ تحدي وجود الاحتلال «الإسرائيلي» وكيان الاغتصاب، وطبيعته العدوانية المتأصلة مما يخلق سبباً مباشراً للثورة كل يوم وكل ساعة، وحيوية الشعب الفلسطيني تتجدد بعد سنوات ركود طالت منذ توقف الانتفاضة الثانية، واختيارات الفصائل المتسيدة تصطدم بحائط الخسران الأكيد، وكلها ـ باستثناءات قليلة ـ سقطت في خطيئة ترك المقاومة إلى المساومة، وهو ما يفسح المجال لخيال مقاوم من نوع مختلف ، لا يبدد بل يجدد، يجمع ولا يفرق، ولا يتنكر لميراث المقاومة المسلحة، بل يضيف إليها زاداً جديداً، ومقاومة مفتوحة لشراكة كل الناس لا الفدائيين وحدهم، يملك كل فلسطيني أن ينضم إليها، وبقراره الذاتي التلقائي، ولا يحتاج إلى تدريب خاص، فهو يخرج إلى ثورة الصدور العارية المسلحة بالصبر والإيمان، ويتحد مع إخوته في مواكب مقدسة تليق بقداسة فلسطين، يحتملون الأذى معاً، وتحفزهم قوة الجموع على الثبات في الميادين، وفضح العنصرية النازية «الإسرائيلية» على مرأى من البشر جميعاً، فالثورات السلمية الآن تنتقل توا بالصوت والصورة، ومشاهد الجموع الفلسطينية في الثورة الجديدة تغري بالانضمام إليها، وتخلق روحاً موحدة في الشتات الفلسطيني، وتحول الملايين من جماهير الثورات العربية المعاصرة إلى قوة دعم يومي مرئي للحق الفلسطيني، فالكل ينتظر شرارة الثورة الجديدة على أبواب القدس، وإحياء هدف التحرير الفلسطيني بزحف الناس العاديين الذين يصنعون التاريخ، ويغيرون خرائط الدنيا.

ولا أحد يمكنه المزايدة على كفاحية الشعب الفلسطيني، فقد خلقته محنة النكبة خلقاً جديداً، وهو أكثر الشعوب العربية تعليماً وأفضلها وعياً، وظل لعقود مصدر إلهام حي متجدد للثوريين العرب على اختلاف أقطارهم، وكان شرفاً عظيماً لأجيال من الثوريين العرب أن التحقت بحركات المقاومة الفلسطينية، وأن حمل بعضها سلاح الفدائيين، وأن ذهبوا في قوافل الشهداء والأسرى، ومع أجواء الثورات العربية المعاصرة، ومع ثورة مماثلة تتداعى بشائرها في قلب فلسطين، تنضج ظروف لمشاركة الجميع في عمل واحد، ومن كل في موقعه وقطره وساحاته، وفي سياق معركة مؤكدة الكسب، تستمد وقودها من نكبة فلسطين، وتفتح الطريق إلى نكبة «إسرائيل».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 29 / 2165475

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165475 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010