السبت 5 أيار (مايو) 2012

أوغلو و«العثمانية الجديدة»

السبت 5 أيار (مايو) 2012 par د. محمد نور الدين

قبل أيام قليلة قدّم وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو مطالعة عن السياسة الخارجية لبلاده أمام نواب البرلمان التركي. وبقدر ما كانت مناسبة لشرح هذه السياسة، كانت منعطفاً في تفكير هذا الأكاديمي الذي تحول إلى السياسة فحاول أن يترجم ما كتبه سابقاً، على أرض الواقع.

داود أوغلو رجل يعيش في التاريخ وفي الماضي ليس لجهة أنه عاشق متيّم بالماضي العثماني تحديداً، إذ لا يفوّت الوزير التركي أي مناسبة لزيارة أي بلد، إلا وتكون المعالم الأثرية والتاريخية والثقافية العائدة للعهد العثماني من ضمن المناطق التي يزورها ليؤكد من خلالها البعدين الإسلامي والقومي في شخصيته.

وبقدر ما كانت الروابط الإسلامية مؤثرة في شخصيته، غير أن البُعد القومي التركي بدأ يتقدم في شخصيته وفي فكره، ما يمكن أن يؤثر في توجهات بلاده وحضورها على الساحتين الإقليمية والدولية.

على امتداد السنوات القليلة التي تلت وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة في نهاية 2002، كان لأوغلو الدور الأبرز في رسم ملامح السياسة الخارجية. برأيي كان رئيس الحكومة والحزب رجب طيب أردوغان رغم ما له من مواهب خطابية وديناميكة في الحركة، مترجماً لما يرسمه أوغلو الذي هو العقل المفكر والمخطط للسياسات الخارجية ولانتهاج تركيا أحياناً سياسات طموحة لم يعد يفصل بينها وبين الجموح سوى خيط رفيع.

بعد عقود من العزلة تقدمت تركيا لتكون جزءاً من خريطة «الشرق الأوسط» والمنطقة العربية. تسعون عاماً من العزلة (بالإذن من «مئة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز)، ومن الانعزال عن التفاعل الإيجابي مع قضايا المنطقة وشعوبها، وصولاً إلى معارضة استقلال الجزائر والتحالف مع الكيان الصهيوني، كانت عقبة أمام أن تمارس تركيا دوراً فاعلاً مستداماً.

لذلك كانت سياسة تصفير المشكلات التي طرحها أوغلو وسياسات العمق الاستراتيجي والروابط التاريخية مع العرب والمسلمين، وفتح الحدود وإقامة مجالس تعاون استراتيجي مع كل من سوريا والعراق وإيران ومجلس التعاون الخليجي، مجرد محطات لم تعمر مع بعضها سوى سنة أو أقل، رغم أنها حملت صفة «الاستراتيجي». انقلبت العلاقات مع الجوار الجغرافي لتركيا بسرعة قياسية من علاقات تحمل طابعاً استراتيجياً إلى علاقات عدائية معه وصلت إلى ممارسة ذلك على أرض الواقع، وصولاً إلى الاستنجاد بحلف شمال الأطلسي.

قصور حزب العدالة والتنمية، بمنظّريه ومفكرّيه ونخبه السياسية، عن إدراك حقائق المنطقة وخصوصياتها وحساسياتها، حال دون أن تنجح سياسة تصفير المشكلات التي تحوّلت إلى محاولة لفرض الهيمنة التركية على المنطقة ببعدها القومي وبعيداً من البعد الإسلامي.

خطاب أوغلو أمام البرلمان التركي الأخير يؤكد هذا الانطباع، قال أوغلو إن «شرق أوسط جديداً» يولد في «الشرق الأوسط». وهي التعابير نفسها التي استخدمها سابقاً الرئيس «الإسرائيلي» شمعون بيريز ومن ثم الرئيس الأمريكي جورج بوش. لم يتحدث أوغلو عن منطقة إسلامية أو مشرقية تحمل الخواص التاريخية للمنطقة العربية الإسلامية. وهذا مقصود،إذ إن أوغلو قال إن موجة تغيير تهدم الستاتيكو القائم، وإن تركيا هي التي ستكون قائدة هذا «الشرق الأوسط» الجديد وطليعته ورائدته والناطقة باسمه، وهي التي سترسم ملامحه وستريد له ما تريده لتركيا. وستكون تركيا منحازة إلى خيار الشعوب لا الأنظمة بعيداً عن أي اعتبار إثني أو مذهبي أو ديني.

كلام أوغلو، كما ذكر المثقف التركي البارز ممتازير توركونيه، غير البعيد عن تأييد حزب العدالة والتنمية، «لم يكن خطاباً لوزير دولة وطنية بل لوزير خارجية الدولة العلية العثمانية لابساً القفطان الزهري المرصع باللآلئ، واعداً بالاتحاد العثماني».

لا أعتقد أن أوغلو كان موفقاً بأن يحمل إلى هذا الحد الشعور بالعظمة العثمانية، وربما تجاوز العظمة العثمانية لخلق عظمة جديدة اسمها «عظمة أحمد أوغلو».

في تركيا يقولون «إذا أردت أن تفكر بطريقة كبيرة عليك أن تتصرف بطريقة كبيرة». وهذا يحتاج إلى قدرات وكفاءات وإمكانات. وأحد أكبر أخطاء تركيا وداود أوغلو، أنها تظن أنها وحدها في المنطقة وأنه لا توجد قوميات وخصوصيات ومكوّنات أخرى. وإلا ما معنى أن يدعو داود أوغلو إلى أن تقود تركيا دون غيرها هذا الشرق الأوسط الجديد (مع اعتراضنا الكامل على اعتماده التوصيف «الإسرائيلي» والأمريكي نفسه المثير للشبهات والمؤامرات)؟ ولماذا استفزاز العرب وغيرهم؟ ولماذا تركيا هي التي سترسم هذا الشرق الجديد؟ كأن أحداً سواها غير موجود في هذه المنطقة؟ ولماذا يعتقد الوزير «العثماني الجديد» أن شعوب المنطقة ستقبل بما تريده تركيا لنفسها؟ ومن قال إن النموذج التركي هو النموذج الصالح كما لتركيا كذلك للمنطقة؟

نعم آن الأوان للأخوة في تركيا ولا سيما نخبهم الثقافية، أن يتواضعوا بعض الشيء وأن يطلّعوا بموضوعية على تاريخ المنطقة فلا يتورطوا في مغامرات يريد البعض من عظماء العثمانيين الجدد أن يورّطهم فيها كما لو أنهم لا يزالون يعيشون في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

خطاب أوغلو أمام البرلمان التركي كان العنوان الأبرز لنهج «العثمانية الجديدة». ومن بعد هذا الخطاب لم يعد إطلاق هذا الوصف على سياسة تركيا الجديدة افتراء ولا تحريضاً. ومن لا يريد أن يصدّق فليعد إلى ما يكتبه الأتراك أنفسهم هذه الأيام.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2176720

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2176720 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40