الجمعة 4 أيار (مايو) 2012

مصر ودرس الدماء

الجمعة 4 أيار (مايو) 2012 par أمجد عرار

وللتاريخ في كل حاضر نصيب وحضور. ميدان العباسية القاهري يستحضر تاريخه في لحظة دامية، ويعبّد بلحم عشرين شهيداً ودمائهم ومعهم عشرات الجرحى طريقاً إلى الخلف. الميدان الذي حمل اسم مؤسسه عباس باشا الأول الذي حكم مصر ست سنوات في القرن التاسع عشر، استعار من تلك الحقبة ملامح الرجعية وتوقف حركة التقدم والنهضة التي تميّز بها عهد جده محمد علي باشا. الحي الذي سكنه جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر ونجيب محفوظ، ولد فيه عبدالمنعم رياض وعشرات الضباط والاعلام والفنانين والمثقفين، يشهد اليوم شلال دم يسقط بالمجان على مذبح الفوضى والفتنة.

في خميس أسود، نتمنى ألا يتكرر، سالت دماء عشرات المصريين في مرحلة يحرّم فيها سقوط الضحايا، فهم لا يسقطون على جبهة واضحة، فلا هم سقطوا على الجبهة مع العدو ولا في ذروة مواجهة الدكتاتورية التي انهار معظم أركانها. عشرون مصرياً يموتون في زمن الحياة، يفتقدهم شعبهم وأهلهم في وقت ينبغي أن يكون عنوانه قيمة الحياة.

الاشتباكات التي شهدها الميدان استنساخ لأحداث شهدتها ميادين أخرى في مصر وأشدها دموية مجزرة ستاد بورسعيد. كلها تنسب لـ «البلطجية» وهي كلمة رديفة ل «قيّد ضد مجهول». كل طرف يقول إنه غير مسؤول عن الكارثة، وأولو الأمر يتنصّلون من التورّط، لكنهم لا يستطيعون التنصّل من المسؤولية ما دام أمن البلاد والعباد في أيديهم، حتى لو كانت أدوات الجريمة مخلوقات فضائية. لا نعرف ما وظيفة رجل الأمن إن لم يترجمها في ظروف كهذه، أم أننا نشهد جولة جديدة من «معركة الجمل» رغم رحيل الجمّال؟.

ليست مناسبة للنحيب وندب الحظ، فلا النحيب يعيد الحياة لشهداء الوقت الضائع، ولا الحظ يسكن قاموس السياسة، لكن على من يصرون على قطف الزهور من «ربيع براغ» ذي النكهة الإمبريالية، أن يعجنوا المفردات جيداً قبل أن يدخلوها في فرن الإعلام ويخرجوها للناس علكة بدل الخبز. لكنه درس جديد مكتوب بالدماء يتيح الحاجة للعودة إلى الثورة الكلاسيكية القائمة على الرباعية الثورية المتمثّلة بالأداة والنظرية والقيادة وشعب يقنع ويلتف، ودليل جديد على أن إسقاط الدكتاتورية الذي هو ضرورة وحتمية يبدو، من دون توفر هذه الثلاثية، عملية محفوفة بالمخاطر، وتنذر بإحلال الفوضى، وليست الديمقراطية، بديلاً للدكتاتورية.

التغيير الثوري ضرورة إنسانية وحتمية تاريخية، لكن حتى لا يكون عملية انتقائية وتصفية حساب أو مطية للانتهازيين ومتصيدي الفرص، يجب أن تنضج شروطه ويأخذ زمنه ومعياره الكمي حتى يقود التغيير إلى عملية ارتقائية تتوج بالتغيّر النوعي المنشود. هذا التشخيص النظري لا يصلح الآن لمعالجة الحالة المصرية لأن الزمن لا يعود إلى الوراء، ولأننا أصبحنا أمام ظروف مختلفة أعقبت انتفاضاً شعبياً لم تحرّكه قيادة ولم يرافقه برنامج سياسي اقتصادي يتيح إضاءة مسافات كافية من الطريق قبل سلوكها.

ما يجري في مصر يفرض على جميع القوى الحزبية والشبابية رفع مستوى اليقظة إلى أعلى درجاتها، فالمرحلة لا تحمل صراعاً على السلطة والصلاحيات والامتيازات، كما أن دماء الناس ليست كعكة يتسابق الانتهازيون على اقتسامها . الديمقراطية ليست شعاراً أجوف أو مجرد صندوق اقتراع يفتح بالتوازي مع شلال دم. إنها اختيار للمسؤولية قبل المسؤول، للوظيفة قبل الموظف، للأغنية قبل المغني، وللنص قبل الكاتب.

ليس في هذا مدعاة للتشاؤم، ذلك بأن مصر بوعي قواها وحيوية شعبها ووعي أبنائها، قادرة على تجاوز هذه المرحلة الصعبة من تاريخها. شعب مصر لن ييأس ولن ينكفئ أمام هذه الأيادي العابثة بمصيره، وهو قادر على جسر الهوة بين الثورة وشروطها، وبعد معاناة بطعم التجربة المرة لن يصح إلا الصحيح.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2165883

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165883 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010