الاثنين 30 نيسان (أبريل) 2012

فرنسا وفقدان البريق

الاثنين 30 نيسان (أبريل) 2012 par د. عبد الاله بلقزيز

لم تعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية تثير الاهتمام الشديد، أو تَشدّ الأنفاس، مثلما كانت قبل نحو عشرين عاماً. أصبحت خبراً عادياً يتابعه من يتابعه، على شاشة التلفاز، كما يمكن أن يتابع أي حدث عادي يجري على الكرة الأرضية، أو يقرأ عنه، من يقرأ عنه، في الصحف، كما يمكن أن يقرأ عن أي موضوع آخر. حتى في البلدان التي ترتبط اقتصاداتها بفرنسا، أو ترتبط نخبها السياسية والاقتصادية والثقافية بفرنسا، مثل بلدان المغرب العربي وبعض بلدان إفريقيا، فترت حماسة الناس لمتابعة ما يجري هناك، ما خلا قلّة قليلة تفرض عليها مصالحها ذلك . وليس هذا، قطعاً، موقف الجمهور والرأي العام، والنخب، والصحافة والإعلام، حينما يتعلق الأمر، مثلاً، بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية.

وليس يرد ضعف الاهتمام، بما يجري على ساحة فرنسا السياسية، إلى عزوف لدى الناس والنخب عن متابعة شؤون السياسة، وآي ذلك اهتمامهم بالرئاسيات الأمريكية حتى في البلدان المرتبطة - اقتصادياً وثقافياً - بفرنسا، ناهيك عن اهتمامهم بأحداث ما يسمى في الإعلام الغربي «الربيع العربي». إن المسؤولية في ضعف الاهتمام بفرنسا إنما تقع على فرنسا نفسها: على مكانتها المتراجعة، وتدهور مركزها السياسي، وفقدان حياتها السياسية الداخلية حيويتها التاريخية التي عرفت بها، على الأقل منذ بداية الجمهورية الخامسة في خمسينات القرن الماضي.

إذ لم يعد لفرنسا مركز اقتصادي مرموق في النظام الدولي. هي اليوم دولة ضعيفة اقتصادياً وتقنياً إلى حد مخيف، والمرتبطون بها اقتصادياً يحكمون على بلدانهم بالانتحار. دول كانت - إلى عهد قريب - من «العالم الثالث» تتفوق عليها الآن وتحتل مراتب أعلى منها في سلم التنمية. تخطتها الصين، مثلاً، بمسافات فلكية، وتوشك كوريا الجنوبية، والبرازيل، والهند، على أن تتخطاها كثيراً، أما في أوروبا فهي تعيش مما توفره ألمانيا للاتحاد الأوروبي من توازن، ولم تعد شريكاً في قيادة هذه المنظومة الإقليمية إلا بالاسم.

ولم يعد في ملك فرنسا سياسة خارجية مستقلة، مثلما كان عليه أمرها في عهود شارل ديغول، وجورج بومبيدو، وفاليري جيسكار ديستان، وفرانسوا ميتران، تصنع لها النفوذ والهيبة في الحقل الدولي. إن كل ما تتمتع به اليوم، هو حق الفيتو في مجلس الأمن، وقد ورثته عن حقبة كان لها فيها حيثية.

أما ما تبقى، فتبعية عمياء للقرار الأمريكي. بدأت محتشمة في عهد جاك شيراك، وهي اليوم واضحة إلى حدود الانفضاح. وهكذا لم يعد أحد يعير انتباهاً لدورها السياسي في زمن أصبحت فيه عواصم القرار هي نيويورك، وموسكو وبكين.

ثم إن الحياة السياسية الفرنسية فاترة، والنخب السياسية باهتة وضعيفة، والمناظرات بين السياسيين صعيفة المستوى وتشبه المناظرات في بلدان «العالم الثالث»، والاحزاب السياسية هرمة، والوعي السياسي العام في تدهور مخيف، لذلك ما كان مستغرباً أن يأتي بعد ميتران، أي رئيس إلى الإيليزيه، وأن يصبح لخطاب «الجبهة الوطنية» العنصري المتخلف جمهور من خمس شعب 1789 و1848. وأن لا يكون لدى اليمين مرشح حقيقي للرئاسة مثلما كان جاك شابان ديلماس، وريمون بار في الماضي، وأن يقصي «اليسار» الاشتراكي امرأة من سباق الرئاسة، وأن لا يصوت الفرنسيون - قبل ذلك - لسيغولين روايال مفضلين عليها ساركوزي (هل لأنها امرأة؟).

لا يمكن، أمام هذا المصاب الذي أصاب فرنسا في مكانتها الاقتصادية والسياسية والعلمية، وفي صورتها لدى العالم كدولة مستقلة عن السياسة الأمريكية، وكقطب في المجال الأوروبي، وفي صورتها الداخلية كمجتمع سياسي حي، إلا أن تمر انتخاباتها كما تمر الأحداث العادية. فهي، اليوم، دولة عادية في المحيط العالمي، بعد أن أوصلها اليمين، خلال الأعوام السبعة عشر الأخيرة وخاصة خلال عهد ساركوزي، إلى حال من السوء غير مسبوقة.

هل يمكن لـ «اليسار» الاشتراكي، في حال فوزه بالرئاسة، أن يعيد لفرنسا مكانتها التي خسرتها، وبريقها الذي فقدته، خاصة بعد التصويت العارم لمرشحه في الجولة الأولى للانتخابات؟

نشك في ذلك لسببين: أولهما أن «اليسار» يعاني أزمة حادة، منذ غياب فرانسوا ميتران، وانكفاء ميشيل روكار وجاك دولور، وفقدان المشروع السياسي - الاجتماعي المستقل عن خيارات اليمين في الاقتصاد والقطاعات الاجتماعية. و«صعوده» الانتخابي، اليوم، ليس أكثر من عقاب شعبي لعهد ساركوزي وسياساته المدمرة. وثانيهما أن قدرات فرنسا الاقتصادية والعلمية والتقنية على المنافسة، اليوم، باتت في غاية التواضع لأسباب سياسية، ولكن أيضاً تتعلق بتدهور نظام التعليم فيها، وتراجع مساهمتها في الإنتاج العلمي والتكنولوجي، وهي أوضاع سيأخذ التغلب عليها، في حال وجود مشروع سياسي تصحيحي، وقتاً طويلاً من الزمن يتجاوز ولايتين أو ثلاثاً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2165779

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165779 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010