الأربعاء 25 نيسان (أبريل) 2012

نهاية المطاف الديغولي

الأربعاء 25 نيسان (أبريل) 2012 par فيصل جلول

لم تبدُ الديغولية في فرنسا يوماً ضئيلة ومثيرة للشفقة كما تبدو بُعيد الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية. فقد نقلها ورثة ديغول وآخرهم نيكولا ساركوزي إلى مطارح لا تليق بها، وتكاد خطوة واحدة تفصلها عن الهاوية والسقوط الكبير أمام غزو اليمين المتطرف.

في أواخر ولاية جاك شيراك الثانية، بادر ساركوزي الناظر أبداً نحو قصر الإليزيه، إلى السيطرة على الحزب الديغولي بصيغته الشيراكية، ومن ثم أعاد تنظيمه على قاعدة العداء لشيراك، فأقصى كوادر أساسية فيه، لعبت أدواراً مهمة في أواخر القرن الماضي ومطالع الألفية الثالثة. والحق أن ساركوزي سار على رسم سلفه الذي جعل الحزب الديغولي وسيلة شخصية للوصول إلى القصر الفرنسي الأهم.

معروف أن شيراك أطاح وجوهاً تاريخية في هذا التيار لم يتمكن من تطويعها، وأبرزها رئيس الوزراء الراحل جاك شابان دالماس، وهمّش شخصيات أخرى أو أحالها إلى التقاعد السياسي المبكر شأن بيار مسمير وإيف غينا، فضلاً عن عدد من رفاق ديغول الكبار، حتى صار الحزب الديغولي بحق حزبه الشخصي وأداته الانتخابية طوال حياته السياسية منذ أوائل السبعينات وحتى العام 2007 تاريخ نهاية ولايته الثانية والأخيرة.

وعلى الرغم من تكييف الديغولية مع أغراضه السياسية الشخصية، حافظ جاك شيراك على عدد من مكوناتها الأساسية، فلم تستأنف بلاده عضويتها الكاملة في الأطلسي، وظل أميناً للتقليد الديغولي الذي يقضي بالتعاطف مع الولايات المتحدة عندما تخوض مجابهة عادلة، ومعارضتها عندما تخوض مجابهة عدوانية، الأمر الذي تعكسه زيارة شيراك السريعة إلى واشنطن غداة تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وكان أول رئيس يصل إلى العاصمة الأمريكية للتضامن وتقديم العون، ومن بعد الانخراط في الحرب الأمريكية على طالبان واحتلال أفغانستان، حيث مازالت فرنسا تحتفظ بقوات عسكرية.

بالمقابل رفض شيراك الحرب الأمريكية على العراق، وهدد باستخدام الفيتو في مجلس الأمن إذا ما أصرت الولايات المتحدة على استخدم المنظمة الدولية كغطاء لحربها المتذرعة بأسلحة الدمار الشامل، وقد ذهب بعيداً في هذا الاتجاه، إذ شكّل تحالفاً ثلاثياً رافضاً للحرب مع ألمانيا وروسيا.

من جهته درج ساركوزي على ترديد عبارات وخطب تذكّر بعظمة الديغولية، لكنه تجاوز للمرة الأولى خطوطها الحمر، وهو ما ظهر جلياً في قراره الشهير بالعودة التامة إلى الحلف الأطلسي، ومن دون الحصول على مزايا خاصة أو التمتع بحق الفيتو، أو أي حق آخر، ما يعني أن باريس الأطلسية تلتزم كغيرها من الأعضاء سياسة الحلف، وتخضع تماماً لهرميته التي تقف الولايات المتحدة على رأسها. وفي السياق جعل ساركوزي سياسة بلاده الخارجية تحت السقف الأمريكي المباشر، وحرمها من هامش المناورة في الشرق الأوسط، أما في المجال الأوروبي فقد فشل في كل المواجهات الاعتراضية مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ما أدى إلى أن يسير المشروع الأوروبي وفق الإرادة الألمانية، وذلك لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.

الواضح أن ساركوزي قد أجهز على ما تبقى من آثار الديغولية في ثقافة حزبه وفي سياسة بلاده الخارجية، وجرّده من علّة وجوده، أي النزعة الوطنية الفرنسية المميزة، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام الجبهة الوطنية المتطرفة التي حرثت الحقل الوطني وجعلته أرضها المفضلة في فرنسا، وكان من الطبيعي أن تستقبل في هذا الحقل المتضررين الكثر من الساركوزية والشيراكية والميتراندية، فضلاً عن الفئات الملكية وبعض الفئات الكاثوليكية، وبقايا الذين يحنون إلى عظمة بلادهم الكولونيالية .

يسمح ما سبق بالقول إن التيار الديغولي الفرنسي وصل مع ساركوزي إلى نهاية المطاف، وهو اليوم يقف على حافة الهاوية، ذلك أن فشل الرئيس المتوقع في الدورة الثانية من الرئاسيات في السادس من مايو/ أيار المقبل، من شأنه أن يطلق رصاصة الرحمة على هذا الحزب الذي يتوقع أن يتعرض في الانتخابات لهجوم مركز على محورين، الأول من جهة اليمين المتطرف الصاعد الذي يعدّ نفسه النواة الصلبة للمعارضة اليمينية القومية في فرنسا، ولم تتردد زعيمة هذا التيار مارين لوبن في الإعلان صراحة عن نيتها وراثة الحزب الديغولي. والمحور الثاني من جهة الوسط، حيث يرى زعيمه فرانسوا بايرو أن الوقت قد حان فعلاً لبناء قوة سياسية مركزية في الوسط تتيح تحقيق التوازن في الخريطة السياسية الفرنسية، وتحول دون انحراف فرنسا يميناً أو يساراً على حد سواء.

في واحدة من مكاشفاته المحدودة مع وسائل الإعلام، كشف مؤسس الجبهة اليمينية المتطرفة عن إحساسه بالمرارة، من جراء التصلب الديغولي بعد الحرب العالمية الثانية إزاء أنصار الماريشال بيتان وحكومة فيشي، فهو كان يأمل أن يوحد ديغول فرنسا لا أن يجعل فريقاً منها ينتقم من فريق آخر، لذا رسم لوبن نفسه عدواً للديغولية، ورأى أن التصدي لها أهم من التصدي لليسار، وها هو اليوم، وقد تجاوز الثمانين من عمره يكاد يحقق أمنيته، مستفيداً من أخطاء ساركوزي الذي لم يقتصر ضرره على ضرب الخطوط الديغولية الحُمر، بل وضع استراتيجية انتخابية غبية، تقضي بالذهاب إلى أرض اليمين المتطرف بحثاً عن أصواته، فكان أن أعطى المتطرفين شرعية غير مسبوقة، وأضفى عليهم الاحترام حتى وصل حجمهم الانتخابي إلى نحو 20 في المئة، أي بفارق 6 نقاط عن رئيس الجمهورية!

في ضوء ذلك يبدو من غير المستبعد أن يقول جان ماري لوبن في هذه اللحظات بصوت خافت: شارل ديغول وداعاً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2177548

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

26 من الزوار الآن

2177548 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40