الثلاثاء 24 نيسان (أبريل) 2012

اعترافٌ بالسّجّان أم تضامنٌ معَ السّجين؟

الثلاثاء 24 نيسان (أبريل) 2012 par هاني المصري

بعد سلسلة من الزيارات الأردنيّة التي رافق إحداها الشيخ اليمني علي الجفري، وزيارة عشرات من الأقباط المصريين بالرغم من معارضة الكنيسة القبطيّة، وبعد زيارة مفتي مصر علي جمعة إلى الأقصى في القدس المحتلّة، التي جاءت بعد رفض نظرائه السابقين القيام بمثل هذه الزيارة، وما أثارته من ردودِ فعلٍ واسعةٍ دانت في معظمها الزيارة وطالبت بإقالته، وبعد إعلان وزير الأوقاف محمود الهبّاش أنّ شخصيّاتٍ عربيّةً أخرى ستزور القدس، وما يثيره هذا الموضوع من خلافٍ حاد على امتداد السّاحة الفلسطينيّة والعربيّة والإسلاميّة والمسيحيّة؛ بات من المُلح جدًا، وقف هذا التدهور، الذي ينذر بانقسام جديد بين من يعتبر زيارة القدس تحت الاحتلال اعترافًا به وتعايشًا وتطبيعًا معه يظهر الاحتلال وكأنه منفتح وحضاري ومتسامح يؤمن بالتعدديّة، وبين من يعتبرها تضامنًا مع السجين، وليس اعترافًا بالسّجّان، ومن شأنها دعم صمود القدس وتأكيد عروبتها وإسلاميّتها ومسيحيّتها وإفشال المخططات «الإسرائيليّة» الراميّة إلى تكريسها كعاصمة أبديّة موحّدة لـ «إسرائيل».

من أجل المساعدة على اتخاذ موقف صحيح من هذه المسألة المعقّدة لا بد من ملاحظة ما يأتي :

أولاً: إن زيارة القدس أو الأراضي المحتلّة كانت مرفوضة كليًّا، منذ وقوع الاحتلال، وحتى توقيع معاهدة «كامب ديفيد»، لأن سلاح المقاطعة ومقاومة التطبيع ونزع الشرعيّة عن «إسرائيل» واحتلالها، كان من أهم الأسلحة العربيّة في المعركة ضدها، على أساس أن تطبيع العلاقات العربيّة والإسلاميّة والدوليّة مع «إسرائيل»، وهي لا تزال استعماريّة إجلائيّة عنصريّة محتلة، يجعلها ليست بوارد إنهاء احتلالها، لأنها تعتقد بحق - إذا حصلت على التطبيع الذي يعني نفوذًا وتوسعًا وأسواقًا ومجالاً هائلاً للاستثمار- يمكن أن تجمع ما بين الاحتلال وأحسن العلاقات مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين والعالم كله. فلماذا تنسحب في هذه الحالة التي يمكن أن تتقدم فيها على طريق تحقيق هدفها المركزي بالتحول إلى دولة مركزيّة إقليميّة تهيمن على المنطقة العربيّة بكاملها؟

ثانيًا: لقد شاع بعد معاهدة السلام المصريّة «الإسرائيليّة» و«اتفاق أوسلو» ومعاهدة «وادي عربة» وهم أن السلام قد حل أو على وشك الحلول، وبالتالي من أجل تعزيز السلام وإنجاحه لا بد من التطبيع مع «إسرائيل» بأشكال مختلفة، من بينها زيارة القدس حتى نشجّع «الإسرائيليّين» على إنجاح السلام من خلال إظهار أن العرب والمسلمين يعترفون بها ومستعدون للتعايش وتطبيع العلاقات معها، ولم يعودوا يريدون إزالتها و«رمي اليهود في البحر»، لكن هذا الوهم سقط سقوطًا مدوّيًا بعد فشل المفاوضات، وفي ظل تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وبناء الجدار وفرض الحصار ومواصلة كل أشكال العدوان.

ثالثًا: إن ما تسمى «عمليّة السلام» فشلت فشلًا ذريعًا، خصوصًا على المسار الفلسطينيّ، حيث انتهت إلى كارثة، وتبين أنّ التطبيع مع «إسرائيل»، واستعداد سبع وخمسين دولةً إسلاميّةً للاعتراف بها، وحتى إقامة العلاقات معها، إذا انسحبت من الأراضي الفلسطينيّة والعربيّة المحتلّة، وفقًا لمبادرة السلام العربيّة؛ لم يشجع «إسرائيل» نحو التقدم على طريق السلام، بل اعتبرتها علامة ضعف فتحت شهيتها نحو المزيد من التنازلات العربيّة والإسلاميّة، فلا يمكن تحقيق السلام بتقديم التنازلات، وإنما بإيجاد ميزان قوى قادر على فرض السلام.

لقد استغلّت شخصياتٌ، سياسيّة وغير سياسيّة، رسميّة وغير رسميّة، عربيّة وإسلاميّة ودوليّة زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلّة بحجة دعم الصمود الفلسطينيّ والسلطة الفلسطينيّة للتغطية على أهداف أخرى للزيارة، وهي عقد الاجتماعات مع المسؤولين «الإسرائيليين»، ونسج العلاقات مع «إسرائيل»، وفتح الأبواب لأشكال متنوعة من التعاون معها، وبالتالي هناك زيارات مشبوهة وأخرى تنم عن الجهل أو عدم تقدير دقيق للموقف.

رابعًا: إن من اللافت للنظر أن هذه الموجة من الزيارات غير المسبوقة، حتى في «العهد الذهبي» لما يسمى «عملية السلام»، تحدث في مرحلة اندلاع الثورات والتغييرات في العالم العربي، التي من المفترض أن تنقل الواقع العربيّ من حالة التبعيّة والخضوع للهيمنة إلى حالة من الاستقلال والسيادة الوطنيّة، ما يطرح التساؤل: لماذا الآن؟ قد يكون الجواب هو أن هناك سباقًا قد بدأ بين الأنظمة القديمة التي شهدت ثورات، أو لم تشهد، وبين جماعات الإسلام السياسيّ، فالأولى تحاول إرسال رسائل من خلال الدعوة إلى مثل هذه الزيارات والقيام بها فعلاً في ظل وقف المفاوضات، بأنها الأجدر باعتمادها، والأقدر على تلبية المطلوب أميركيًّا و«إسرائيليًّا» من جماعات الإسلام السياسيّ التي أبدت مرونة لافتة من أجل اعتمادها كحكام جدد للمنطقة.

خامسًا: إن كل زيارة للأراضي المحتلّة، خصوصًا إذا شملت القدس التي ضمتها «إسرائيل» إليها، لا يمكن أن تتم بإشراف أردني بوصفه راعي الأقصى وفقًا لمعاهدة وادي عربة، وإنما هي بحاجة خلافًا لادعاءات مستشار مفتي مصر، إلى تنسيق وموافقة وحماية «إسرائيليّة»، وهذا ما أوضحه الناطق «الإسرائيلي» بصورة لا تقبل الشك، حيث أكد أن الزيارة، وأي زيارة قادمة، لا يمكن أن تتم دون موافقة «إسرائيلية».

سادسًا: إن «إسرائيل» التي ترحب بزيارة الشخصيات العربيّة والإسلاميّة والمسيحيّة، خصوصًا الرسميّة للقدس، في حين رفضت دخول خطيب الأقصى الشيخ عكرمة صبري وشيخ الأقصى رائد صلاح، كما رفضت في الأيام الأخيرة، وبشكل عنيف، زيارة المتضامين الأجانب، حتى التابعين لدول أوروبيّة وأميركيّة ترتبط بأحسن العلاقات مع «إسرائيل». ولعل ما حصل مع أعضاء حملة التضامن «أهلاً بكم في فلسطين» يوضح الفرق الجوهريّ بين زيارة التضامن مع السّجين وزيارة الاعتراف بالسّجّان.

سابعًا: قبل الاستمرار في الانشغال بإثارة انقسام جديد حول زيارة القدس، علينا ألا ننسى أن المطلوب تحريرها وليس زيارتها، وهذا يتطلب أولاً وقبل كل شيء إعطاء الأولويّة لبلورة إستراتيجيّة وطنيّة جديدة قادرة على تحرير الأرض المحتلّة، بما فيها القدس، ووضع أي خطوة من نوع زيارة القدس وهي تحت الاحتلال وغيرها ضمن معايير مدى خدمتها أو عدم خدمتها لهذا الهدف، وهو إنهاء الاحتلال، وإلا ستقع في دائرة تكريس الاحتلال والتعامل معه والسعي في أحسن الأحوال إلى تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال، وشتان ما بين الكفاح لإنهاء الاحتلال وبين تحسين نوعيّة الاحتلال.

تبقى نقطة أخيرة يجدر الانتباه إليها، وهي أنّ الغالبيّة العظمى من الفلسطينيين أصحاب البلد، داخل الأراضي المحتلّة وخارجها، ممنوعون من زيارة القدس، بمن فيهم الرئيس محمود عبّاس.

فلماذا لا تطرح هذه القضيّة على بساط البحث، وتتم إثارتها بدلاً من تشجيع العرب والمسلمين على زيارة القدس تحت الاحتلال، لتكون جزءًا من المعركة الكبرى التي من ضمن أهدافها تمكين الفلسطينيين من ممارسة حقهم بزيارة القدس، وجعلها في صدارة الاهتمامات الفلسطينية والعربية والدولية؛ عبر تنظيم المظاهرات الزاحفة نحوها وحملات التضامن، الكفيلة بجعل القدس وما حولها «ميدان تحرير» الفلسطينيين.

إن من يريد التضامن مع القدس والسجين، ومن يرغب بتقديس حجته أو زيارة كنيسة القيامة؛ عليه أن يرصد مصاريف الزيارة لدعم صمود وعروبة ومقاومة أهل القدس وفلسطين، حتى يثبتوا في وطنهم، ويفشلوا المشاريع «الإسرائيليّة» الراميّة إلى تأبيد الاحتلال واستكمال أسرلة وتهويد القدس.

نحن الآن بعد سقوط أوهام السلام عبر المفاوضات في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى دخلنا في مرحلة اللاسلم واللاحرب، وبتنا أحوج ما نكون فيه لمقاطعة إسرائيل ورفض التطبيع معها، والسعي لفرض العزلة عليها وممارسة العقوبات ضدها، حتى نصل إلى وضع يصبح فيه الاحتلال مكلفًا لها، وليس أن يستمر احتلالاً مربحًا ومريحًا وهادئًا «احتلال خمس نجوم».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165295

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

28 من الزوار الآن

2165295 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 28


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010