الاثنين 23 نيسان (أبريل) 2012

السودان.. تلازم التفكك والحروب

الاثنين 23 نيسان (أبريل) 2012 par د. نهلة الشهال

يمكن الاسترسال في نقاش طبيعة الحرب المتوقعة بين دولتي السودان وجنوب السودان، وعما إذا كانت شاملة ومستمرة أو أنها ستكون منخفضة الإيقاع، تتمثل بتوتر دائم واشتباكات محدودة ومتقطعة في أكثر من نقطة على تلك الحدود غير المرسَّمة بعد بصورة رسمية ونهائية، والتي تحوي عدة مواقع متنازع عليها، بينما هي تمتد على أكثر من 1800 كيلو متر.

ويمكن كذلك الجدال في ما إذا كانت «حادثة» هجليج قد انتهت حقاً، وهل تم ذلك بفضل الضغط الدولي على جوبا، (لأن هناك توافقاً على هذا المستوى لاعتبار هذا الحقل النفطي المهم تابع لدولة السودان)، أو أنها انتهت بسبب هزيمة نكراء لحقت بجيش الجنوب، سيء الإعداد والتنظيم والتجهيز، والذي يقول الحكام في الخرطوم أنهم «أبادوا» وحداته التي احتلت هجليج، ولم يخرج منها «رجل واحد حي» (يا لفظاعة الصورة، حتى لو كان ذلك غير صحيح!)...

كل ذلك على أهميته، ليس هو لب الموضوع، بل لبه هو سؤال أو تفحص تلك الجدلية بين التفكك والحرب. فبعكس ما يُظن، لا تُحل الانقسامات والاستقلالات الأمور حين تُصان وتُحمى الأسباب التي أفضت الى النزاع، فتبقى كالجمر تحت الرماد. بل ان بعض تلك الأسباب، أو بعض مظاهرها، مستحضَر بشكل بشع في حالة السودان، ليس أقله الخطابة الشعبوية التي يمتهنها البشير، مستخدماً تعابير يندى لها الجبين، كالقول الايحائي بأنه «لا يمكن تأديب الحركة الشعبية إلا بالعصا» (أي أنه يتعامل مع «عبيد»، وفق المتنبي مخاطباً كافور الاخشيدي!)، أو كنعته مؤخراً، ومع إعلان «تطهير» هجيج، سلفا كير برئيس «الحشرات»، وهو تصريح جاب العالم، مثيراً الاستنكار الشديد.

وعلى أية حال، فسعادة البشير بالحرب نفسها، وتحشيده لها، مقيتان بقدر ما هي مقيتة تلك الخطابات. فهل ثمة من يتمنى لشعبه الدخول في آتون المحرقة، ويسعد لقتل شعب آخر كان حتى عام جزءا من دولة السودان الموحدة، وما زالت تربط أبناء القسمين أواصر ووشائج متعددة، وما زال هناك نصف مليون سوداني جنوبي يعيشون في الشمال، مقابل 80 الفاً من الشماليين في الجنوب. هل هناك ما يسر، وقد كلفت الحرب الخاطفة أو التحركات التي وقعت على قرع طبولها، الاقتصاد السوداني المتهالك في الدولتين، ثمناً باهظاً حتى بحدود «التمهيدات» التي حدثت، فانهار الجنيه في الشمال، وتوقف انتاج النفط في الجنوب الذي يمثل 98 بالمئة من موارده، بقرار ذاتي «عقابي» للشمال - يشبه من يطلق الرصاص على قدميه - اتخذته جوبا في كانون الثاني الفائت. فالشمال يحتكر النقل والتكرير والتصدير، وينال جراء ذلك حصة من أثمان البراميل، وهي حصة متنازع على قيمتها (بين 38 دولار للبرميل حسب الخرطوم و3 دولارات للبرميل تقترحها جوبا)، وكانت سبباً مباشراً في اشتعال هذا الملف.

هل يتخذ عاقل قراراً بالحرب في بلدان تتضور جوعاً، وتواجه خراباً كبيراً في كافة بناها التحتية نتيجة حروب متعددة سابقة امتدت على أكثر من عقدين، وكلفت السودان ما يقرب من المليونين من الضحايا، ونزاعات لم تحل (فعلاوة على دارفور التي كلفت حتى الآن 300 الف ضحية، هناك النزاعات في ولاية النيل الأزرق، وفي ولاية جنوب كردفان...وهناك أبيي التي يفترض ان تخضع لتحكيم دولي، الى آخر لائحة طويلة). ثم أن كلفة اصلاح ما خربته واقعة هجليج تفوق إمكانات الشمال، الذي يطالب الجنوب - المفلس - بتعويض عن احتلاله لها وعن نتائج ذلك الاحتلال وخساراته.

يقال ان واقعة هجليج قد منحت البشير بعض الاعتبار الدولي لأن جوبا كانت معتدية في تحركها، ولأن جميع المحافل الدولية والإقليمية والرئيس أوباما، قد توجهوا إليه والى سلفا كير بدعوات للتهدئة، بينما هو مطلوب لمحكمة الجزاء الدولية. كما منحته الواقعة تأييداً داخلياً «إجبارياً»، على اعتبار العدوان أولاً، ولأهمية نفط هجليج للشمال ثانياً، والذي يدر لحكام الخرطوم 150 مليون دولار شهريا. ولكن تلك ميزات من ضمن الواقع المأساوي وليس من أي منظور متفائل واستشرافي للتنمية والتقدم.

اللب في كل ذلك هو أن ما جعل استمرار وحدة السودان شاقاً وغير جذاب يعود هنا فيطل برأسه على شكل حروب أو تهديد بها: الاستعلاء واضطهاد المختلف (وقد قال البشير يوماً انه لا يوجد في السودان مكان للمختلف ولا اعتراف بالتمايز)، وخصوصاً فشل مشروع التنمية الوطنية، وهو الفشل الذي يدفع كل من يمكنه ذلك الى القفز من قارب غارق.

هناك بالتأكيد «إسرائيل» الجاهزة لتلقف هؤلاء (كلهم وليس فحسب في السودان)، لمصالح تخص منطق وجودها المباشر، ولمصالح اقتصادية وإستراتيجية تتعلق بالمنطقة. وارتماء جنوب السودان في أحضان «تل أبيب»، وتحوله لواحد من قواعدها، مصدر إضافي للقلق على السودان بمجمله وعلى إفريقيا بشكل أوسع. ولكن التفسير بـ «إسرائيل» هو من قبيل وضع الحصان قبل العربة. وهو لن يحل بالخطابة التعبوية الفجة التي تمارس في الخرطوم. تدعو أحزاب المعارضة على اختلافها الى مؤتمر تأسيسي لإعادة تقييم مجمل الموقف، ولتوفير منصة وطنية لمعالجته. لن يقبل البشير، فهو منتشٍ «بنصره». يا للبؤس!!.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2181207

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

77 من الزوار الآن

2181207 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 78


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40