الاثنين 23 نيسان (أبريل) 2012

مصر بين «شرعية الميدان» و«شرعية البرلمان»

الاثنين 23 نيسان (أبريل) 2012 par د. مصطفى اللبّاد

أعادت تظاهرات الجمعة الماضية البهاء إلى ميدان التحرير بعد طول نزاع بين «شرعية الميدان» و«شرعية البرلمان»، فامتلأ الميدان عن آخره بأكثر من مليون مصري من مختلف الاتجاهات والمشارب الفكرية، ما أعاد إلى الأذهان الثمانية عشر يوماً المجيدة الممتدة من 25 يناير/كانون الثاني، تاريخ اندلاع الانتفاضة الشعبية المجيدة، وحتى 11 فبراير/شباط 2011 تاريخ إطاحة المخلوع حسني مبارك. جرت مياه كثيرة في نهر النيل منذ ذلك التاريخ وحتى الآن. تغيرت توازنات وانعقدت تحالفات، فربح من ربح مرحلياً وخسر من خسر مرحلياً أيضاً. بعد أكثر من عام على إطاحة حسني مبارك ما زال الحصاد دون المأمول بكثير. أطاحت الانتفاضة الشعبية رأس النظام، إلا أن الأخير ما زال شاخصا، وإن بدون رأس. ربما يجب علينا، حتى نفهم أهمية جمعة «إنقاذ الثورة وتقرير المصير» الماضية، تحليل الركائز الأساسية للسلطة، أي سلطة، ومن ثم مقايستها على الواقع المصري بعد عام من الانتفاضة الشعبية لتقدير حجم ما أنجزته حتى الساعة؛ ومن ثم تشخيص الطبيعة الراهنة والمتغيرة للتناقضات الأساسية والثانوية على الساحة المصرية راهناً.

يمكن تشبيه البناء السلطوي في أي بلد ببناء ذي أعمدة أربعة: أولاً المؤسسات والهياكل السياسية والتشريعية والتنفيذية، ثانياً الاقتصاد، ثالثاً الهياكل الأمنية والعسكرية، ورابعاً الإعلام. شهدت المؤسسات السياسية والتشريعية في مصر بعض التغيير الشكلي، إذ مع انتخاب مجلس الشعب ومجلس الشورى، نشأت أغلبية واضحة للتيار الإسلامي (الإخوان المسلمون والسلفيون)، لكن من دون أي قدرة فعلية على التأثير في مجريات السياسة! ويعود السبب في ذلك إلى «الإعلان الدستوري» المستفتى عليه في مارس/آذار 2011، ذلك الذي رسم خريطة طريق ضبابية للمرحلة الانتقالية، خريطة وضعت انتخابات البرلمان أولاً ثم انتخابات رئاسة الجمهورية ثانياً، وأخيراً صياغة دستور جديد ثالثاً. يومها حشدت السلطة الحاكمة - مؤيدة بأنصار التيار الإسلامي - المصريين للتصويت بنعم على هذا الاستفتاء، السلطة أرادت ربح المزيد من الوقت وحماية أعمدة نفوذها الأربعة من التغيير. والتيار الإسلامي راهن على إحراز غالبية في البرلمان؛ ومن ثم العودة لمفاوضة السلطة من موقع أقوى على تقاسم النفوذ معها. ولكن غاب عن التيار الإسلامي، أن «الإعلان الدستوري» ذاته وضع السم في عسل مواده التي زادت عن ستين مادة، إذ تقضي مثلاً المادة 60 منه على أن البرلمان لا يستطيع إسقاط الحكومة الانتقالية الراهنة الموالية للسلطة، ولا يستطيع تشكيل حكومة جديدة، بما يعني تحويل الغالبية العددية في البرلمان إلى مزحة ثقيلة. كما نصت المادة 28 منه على أن اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة محصنة من الطعن على قراراتها ومنها استبعاد مرشح «الإخوان» خيرت الشاطر، أي بوضوح التحكم إلى حد كبير في انتخابات الرئاسة المقبلة. وبالتالي لم تؤدِّ انتخابات البرلمان والشورى التي استهلكت شهوراً طويلة في التحضير والإجراءات، إلى تعديل جوهري في موازين القوى السياسية بعد مرور عام على الانتفاضة الشعبية الباسلة.

ما زالت التشكيلة الاجتماعية - الاقتصادية الحاكمة في مصر (العمود الثاني للسلطة) في مكانها، بل لا تتعرض حتى إلى تحد ومنازلة نظرية من غالبية القوى السياسية الممثلة في البرلمان. ما برحت الديناميات وأنماط الانتاج والاستهلاك ذاتها قائمة، وما انفكت طريقة توزيع الدخول في بر مصر واحدة. ما زال كبار رجال الأعمال في مواقعهم الاحتكارية في السوق المصرية، ولم يتأثر منهم إلا حفنة قليلة، ظاهرت وأيدت توريث السلطة وعدت الذراع الاقتصادية للوريث المخلوع جمال مبارك. الجسم الأساسي من هذه النخبة ما انفك حاضراً ونافذاً في الحياة الاقتصادية المصرية، في المواقع الاحتكارية السابقة ذاتها. بالأنشطة الطفيلية ذاتها التي حولت مصر إلى مجتمع يعيش على الخدمات والاستهلاك والقروض وبيع أصول الدولة دون إنتاج حقيقي، في ظل تفاوت صارخ في توزيع الدخول بين قلة لا يزيد عددها عن عشرين عائلة تتحكم في شطر كبير من الاقتصاد المصري، وغالبية عددية كاسحة مطحونة بسعيها إلى لقمة العيش. ومنذ اندلاع الانتفاضة الشعبية العام الماضي وحتى اليوم استمرت - بوتيرة أعلى - ميكانيزمات نزح الفائض الاقتصادي ذاتها المميزة لعصر مبارك: هروب رؤوس الأموال الاحتكارية من مصر إلى الخارج، ثم اقتراض الدولة من الخارج أيضاً لتغطية الاحتياجات الأساسية، ثم فوائد وأقساط دين ترهق الميزانية، يتلوها انخفاض الاحتياطي النقدي ومعه قيمة العملة الوطنية، ونهاية بهروب جديد لرؤوس الأموال إلى الخارج. وهكذا تنغلق دائرة جهنمية من الفساد والتبعية للخارج ما زالت مستمرة حتى كتابة هذه السطور.

عند تقليب النظر في العمود الثالث للسلطة أي الهياكل الأمنية والعسكرية، نجد أنها ظلت على حالها مع تغيير محدود للغاية لقيادات وزارة الداخلية، التي يبلغ عديد منتسبيها الرسميين أكثر من ثلاثة أرباع مليون شخص، وهؤلاء يقبضون رواتب ثابتة من الدولة، ناهيك عن المنتسبين غير الرسميين. بكثير من الاطمئنان، يمكن القول إن هذه الهياكل الأمنية - العسكرية تمارس المهمات ذاتها وتفرض السياسات ذاتها، من دون أي تغيير جدي يذكر. أما العمود الرابع للسلطة أي الإعلام فشهد توزيعاً للأدوار للقيام بالمهمات ذاتها دون تغيير في العمق. لا يزال الإعلام الرسمي مملوكاً مباشرة للسلطة، في حين يمتلك «الإعلام الخاص» مجموعة صغيرة من رجال الأعمال الكبار، المتحالفين موضوعياً وفعلياً وكلياً بحكم المصالح مع السلطة، مهما تراوحت «جرعة المعارضة» المضبوطة على قياس الاستعراض الإعلامي. ومع فقدان الإعلام الرسمي مصداقيته نهائياً أثناء الانتفاضة الشعبية وبعدها، فقد لعب «الإعلام الخاص» ببراعة أكبر، فأعاد تعليب وتسويق وجوه «معقولة» من النخبة المرتبطة بالنظام السابق، كي تتحدث باسم الثورة. تعتلي هذه الوجوه المنصات وتملأ الشاشات والصفحات للحديث عن الموضوعات الثانوية، ولكن بالطبع من دون أن تصطدم بالخط الأحمر الواضح: السلطة الحاكمة وتحالفاتها الإقليمية والدولية؛ وبالطبع مصالح مالكي هذه الوسائل الإعلامية المرتبطين عضوياً بها. وتتمثل الوظيفة الأساسية لهذا «الإعلام الخاص» في تحويل القضايا المصيرية للوطن إلى مسائل خلافية، مع تكبير التناقضات الثانوية بين الأطراف المختلفة لتتوه المعاني والقضايا في صخب الإعلانات الاستهلاكية المتلفزة.

نزل «الإخوان المسلمون» مرة أخرى إلى الميدان في محاولة للحصول على «شرعية الميدان» الشعبية والجماهيرية، في مقابل «شرعية البرلمان» التي ظهر لهم عجزها وعدم جدواها. وهنا نتذكر التشديد المتكرر لممثلي التيار الديني الحائزين الغالبية البرلمانية قبل شهور، أنه لا يجوز تجاوز «الشرعية البرلمانية» معتبرين أن «شرعية الميدان» انتهت مع انتخابات البرلمان. احتشد يوم الجمعة الماضية أكثر من مليون مصري في الميدان، لكن من دون رابط أساسي يجمعهم، فكل ذهب إلى «التحرير» ليغني على ليلاه. ذهب السلفيون من أنصار المرشح المستبعد حازم صلاح أبو إسماعيل للتضامن مع مرشحهم المستبعد، كذلك فعل «الإخوان المسلمون» الغاضبون من استبعاد مرشحهم الأصلي خيرت الشاطر من انتخابات الرئاسة المقبلة، والمتوجسون من عدم وفاء «المجلس العسكري» بوعده في تسليم السلطة في 30 يونيو/حزيران العام 2012، إلى جوار ممثلي الأحزاب اليبرالية واليسارية التي تبتغي توازناً في تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور والتوافق حول مرشح ثوري لرئاسة الجمهورية، فضلاً عن مطلبهم الأساس: رحيل العسكر. ويفسر غياب الرابط المشترك بين المتظاهرين إحجام السلطة الحاكمة عن النزول على الإرادة الشعبية وتقديم شيء ما للمتظاهرين، كما كانت تفعل السنة الماضية قبل التظاهرات المليونية وبعدها. باختصار لم يستطع العدد الضخم للمتظاهرين أن يطمس التشرذم السياسي الواضح في الميدان، وهي مسألة عميقة الدلالة والخطورة في آن معاً.

يكتوي «الإخوان المسلمون» الآن بنار «الإعلان الدستوري»، الذي روّجوا إليه وحشدوا بسطاء المصريين له بدعوى الحفاظ على «الشريعة الإسلامية»، التي لم تكن محلاً للاستفتاء من الأساس. لم يف «الإخوان المسلمون» بأي من وعودهم التالية للمصريين: لا استئثار بمقاعد البرلمان، لا هيمنة على اللجنة التأسيسية للدستور، لا مرشح لرئاسة الجمهورية. ومع هذه الوعود فقد ترشح «الإخوان» على كل مقاعد الهيئة التشريعية، كما شكلوا لجنة تأسيسية للدستور هيمنوا عليها قبل أن تبطلها محكمة القضاء الإداري لاحقاً، مثلما قدموا مرشحاً أساسياً لانتخابات الرئاسة - خيرت الشاطر - تم استبعاده من الترشح لاحقاً أيضاً، وآخر احتياطيا محمد مرسي - ما زال مستمراً بالسباق الرئاسي. وبالرغم من كل ذلك النكوص وتلك الخيبات؛ ما زال التناقض الأساسي في بر مصر قائماً حتى اللحظة بين السلطة الحاكمة من ناحية، وقوى التغيير الحقيقي من كل الاتجاهات الفكرية من ناحية أخرى، وما انفك التناقض الثانوي منعقداً بين التيار الديني من جهة وباقي القوى الوطنية والثورية من جهة ثانية. بالمقابل تكمن خطورة التنقل بين الشرعيات وضرب عرض الحائط بالتوافقات الوطنية طمعاً في مقايضة وعدم الوفاء بالوعود لأغراض المواءمة السياسية في الغرف المغلقة، في أن يتطور التناقض الثانوي بمرور الوقت ليحل محل التناقض الأساسي. ساعتئذ ستكف السلطة الحاكمة عن أن تكون خصماً، إذ تصبح عندها حكماً بين أطراف متنازعة! سيولد ذلك حالة من الضبابية يختلط فيها حابل الصراع الأساسي بنابل الصراعات الثانوية، ما يدخل مصر في دوامة من الفوضى والاضطراب السياسي والاقتصادي والأمني، يراد لها من أصحاب المصالح - داخلياً وإقليمياً - أن تدخل فيها.

هل يتحمل «الإخوان المسلمون» مسؤوليتهم التاريخية في هذه المرحلة الحساسة فيسحبوا مرشحهم الاحتياطي كبادرة حسن نية للتوافق على مرشح رئاسي واحد لقوى الثورة ويرتضوا بلجنة تأسيسية للدستور تعكس مفاهيم «المشاركة» لا «المغالبة»؟ ستجيب الأيام المقبلة عن هذا السؤال، ولكن التاريخ، الذي لا يرحم، يخبرنا أن شرعية القوى السياسية المصرية لا تستمد إلا من الشعب المصري العظيم وعنوانه المختار ميدان التحرير، فمن التحق به فاز ومن تخلف عنه خاب!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 48 / 2165810

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165810 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010