الأحد 22 نيسان (أبريل) 2012

مصر .. التوافق أو الصدام

الأحد 22 نيسان (أبريل) 2012 par علي جرادات

على خطى انتفاضة الشعب التونسي، وبصورة سلمية حضارية أذهلت العالم، ومنعت تكبيد مصر وشعبها خسائر باهظة، وفي زمن قياسي فاجأ الجميع، وحال دون التدخل الخارجي السريع في شؤونها، تمكنت انتفاضة الشعب المصري من إطاحة رأس النظام، الإنجاز الذي لم يكن ليكون بهذه السرعة وقلة الخسائر لولا أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية أسهم في إرغام رأس النظام على التنحي، حين نأى، (المجلس)، بنفسه عن قمع انتفاضة شعبه.

إزاء تلك اللحظة المصرية الفاصلة والحاسمة والمعقدة، وفي غمرة ما ولده خلْعُ رأس النظام من فرحة عارمة مفعمة بآمال عريضة وتوقعات كبيرة، رفع المصريون على اختلاف مشاربهم الفكرية وألوانهم السياسية، شعار «الشعب والجيش يد واحدة»، ما عنى أن مفجري الانتفاضة المصرية، («الشباب»)، عدا الملتحقين بركبها من قوى سياسية معارضة، لم يختاروا مواصلة الانتفاضة سبيلاً لإطاحة بنية النظام بالكامل، بل اختاروا سبيل إعطاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة صلاحيات إدارة مرحلة انتقالية تؤسس لنقل مصر الدولة والدستور والنظام السياسي والمجتمع والدور، إلى مرحلة نهوض جديد يلبي أهداف ثورتها، ويليق بتاريخها العريق ومقدراتها الهائلة، ويعزز عوامل وحدتها السياسية والمجتمعية الداخلية في مواجهة قوى الثورة المضادة الداخلية والخارجية، وفي مقدمة الأخيرة «إسرائيل» وراعيها الاستراتيجي الثابت، الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تكف يوماً، (ولن تكف)، وبكل ما لها من عوامل قوة ونفوذ وحلفاء دوليين وتوابع إقليميين عن محاولة إبقاء مصر في إسار تبعية سياسية واقتصادية ارتضاها، وسار على دربها، على مدار ثلاثة عقود ويزيد نظام حُكْمٍ، ضرب المنجزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لثورة يوليو 1952، وأعاد تشكيل بنى الدولة المصرية بما يديم سطوة دكتاتورية الحاكم الفرد وطغيانه.

هنا حري الإشارة إلى أن التوافق المصري على خيار تكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة المرحلة الانتقالية لم يكن فقط تعبيراً عما للجيش المصري من خصوصية نفوذٍ داخل بقية مؤسسات الدولة، وعما له في عقول المصريين وأفئدتهم من مكانة، عززها برفضه قمْع الانتفاضة الشعبية، بل، أيضاً، تعبيراً عن خصوصية الانتفاضة المصرية، سواء لجهة طابعها العفوي، أو لجهة افتقاد من أشعل شراراتها، («الشباب»)، لبرنامج سياسي بديل، أو لجهة الطبيعة «السلطوية» الاستخدامية للمعارضات السياسية التي التحقت بركبها. ولعل في هذا تفسير لما تشهده مصر هذه الأيام من تنازع وشدٍ للحبال بين القوى الأساسية الفاعلة في السياسة المصرية، خاصة بين «المجلس العسكري» وحركة الإخوان المسلمين، إذ بات جلياً أنه كلما قاربت المرحلة الانتقالية على الانتهاء، كلما زادت حدة التنازع بينهما، ما ينفي أن «صفقة» شاملة وكلية ونهائية كانت قد أُبرِمَت بين الطرفين، ويؤكد أن ما تبدى من تفاهم بينهما على مدار شهور إنما كان مجرد تفاهم نسبي اضطراري فرضته تعقيدات ميزان القوى ما بعد إطاحة رأس النظام، وأنه كان تفاهماً قابلاً للتحول، إيجاباً وسلباً، تبعاً لمجريات الأمور على الأرض، وإلا كيف نفسر تدرج مضمون موقف قيادة حركة الإخوان المسلمين من «المجلس العسكري» من صيغة أن «الشعب والجيش يد واحدة» وأن الحركة لن تقدم مرشحاً لانتخابات الرئاسة، إلى صيغة إدارة الظهر لمفجري الانتفاضة الشعبية، («الشباب»)، وبقية ألوان الطيف الفكري والسياسي والمجتمعي المصري، من خلال التوافق مع «المجلس العسكري» على مكنون الإعلان الدستوري وتمريره بغرض إجراء «الانتخابات التشريعية أولاً» إلى صيغة السعي إلى الاستحواذ على لجنة صياغة دستور جديد والتقدم بمرشح لانتخابات الرئاسة، والدخول في منازعة مع «المجلس العسكري»، بل، وتهديده بإشعال وقيادة موجة ثانية من الثورة، كأن الحركة هي مَن أشعل وقاد موجتها الأولى؟ على أية حال، تحيل تقلبات علاقة «الإخوان» ببقية القوى الفكرية والسياسية المصرية، وبـ «المجلس العسكري» تحديداً، إلى هبوط شعار «الشعب والجيش يد واحدة» من علياء عالم القيم الأخلاقية المطلقة بطبيعتها، إلى تضاريس عالم الممارسة السياسية النسبية بطبيعتها أيضاً، ما يثير سؤال: كيف يمكن ضمان ألا يقود هذا التناقض بين الأخلاقي المطلق والسياسي النسبي إلى الصدام؟ أي ضمان ألا يأتي حل هذا التناقض ضد مصلحة مصر الدولة والشعب والوطن والمجتمع؟ هنا ثمة ضمان واحد وحيد، اسمه التوافق بين «المجلس العسكري» وجميع القوى الفكرية والسياسية والمجتمعية المصرية، وأولاها حركة «الإخوان» والحركات السلفية، على القضايا الأساسية، وفي مقدمتها قضية تشكيل لجنة صياغة الدستور وتحديد معالم مضمونه، الذي يحدد بدوره هوية الدولة المصرية ومكنون نظامها السياسي وصلاحيات سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، بل والإعلامية أيضاً، وبما يشمل تحديد دور الجيش وعلاقته بكل ذلك . وربما يفيد الأطراف السياسية المصرية، خاصة «الإخوان» النظر بجدية إلى الكيفية التي عالجت بها الأطراف السياسية التونسية، خاصة حزب «النهضة»، وبدقة قيادتها ومرشدها الغنوشي، هذا الموضوع، بل ويفيد الأطراف السياسية المصرية، خاصة «الإخوان» و«المجلس العسكري»، أكثر، النظر بجدية إلى النتائج المرة والمأساوية التي حصدتها الجزائر الدولة والشعب والوطن والمجتمع من الكيفية التي عالج بها طرفا التنازع فيها هذا الموضوع قبل عقدين من الزمان.

قصارى القول، ثمة في مصر اليوم ما يثير القلق بسبب ما يجري فيها وعليها من تنازع فكري وسياسي داخلي متعدد الأوجه والأطراف ومتداخل مع ما تحيكه لمصر وشعبها وثورتها جهات خارجية، وأولاها «إسرائيل» وراعيها الأمريكي بتحالفاته الدولية والإقليمية، من مخططات ترمي إلى منعِ نهوضها الوطني والقومي والديمقراطي، إذ صحيح أن الأطراف الداخلية في اللعبة المصرية، بما فيها «الإخوان» و«المجلس العسكري»، ما زالت، (كاتجاه عام)، تضبط تنازعها وفقاً لسلطة القضاء وقراراته، وهذا يطمئن بلا شك إلى أن الصدام بينها مستبعد حتى الآن، إلا أن توافقها يبقى هو الضامن الوحيد لمنْع وقوع هذا الصدام كلياً، فمصر اليوم على مفترق طرق حاسم : إما التوافق أو الصدام.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165494

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165494 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010