الأربعاء 9 حزيران (يونيو) 2010

يحلّق عند الغروب : موجز القول في محمد عابد الجابري

الأربعاء 9 حزيران (يونيو) 2010 par د. عزمي بشارة

في مقدمة كتابه «أسس فلسفة القانون»، كتب جورج فلهلم فريدريك هيغل يقول: «حين تباشر الفلسفة الرسم باللون الرمادي، فما ذلك إلا إشارة إلى أن تكوينًا معينًا للحياة بات مسنًّا عاجزًا، ولا يعيد الرمادي لهذا التكوين شبابَه بل وعيَه: فبومُ المنيرفا (أي طائر الحكمة) يبدأ تحليقه مع ضوء الغروب الخافت». ليس هذا التصوير الهيغلي السوداوي لانطلاق طائر الحكمة ساعة الغسق، وصفًا متشائمًا للفلسفة، بل هو وصف واثق، قانع، مكتف بالفلسفة كتجلٍّ لتاريخ الحقيقة وتاريخيتها، وكتلخيص لروح العصر وأسئلته الفكرية. الفلسفة حكمة «ما بعد»، وليست نبوءة «ما قبل». تبقى الإفادة منها «ما بعد» في ما تجده فيها الأجيال اللاحقة كي تبني عليه. فهي تتحقّقُ في إدراك الوعي لتاريخه.

وإذا سمح لنا الغروب بتوسيع نطاق استعارته لقلنا إن فلسفةَ مرحلةٍ تنطلق مع أفول تلك المرحلة. هكذا ازدهرت حين بدأ الانحطاط في التاريخ العربي الفعلي، وتوحّدت الفلسفة حيث تفرّق التاريخ، ووصلت قمّتها في ابن رشد. لقد ازدهرت الثقافة الأندلسية في مرحلة ملوك الطوائف، وكتب ابن رشد في نهايتها مع بزوغ أمل وحدوي، أمل المرابطين والموحّدين الذي انتهى إلى تشتت أدهى بانتقال شعلة الحضارة والمدنية إلى أوروبا أخرى. وبعد ابن رشد بثمانية قرون، وفي بداية انحطاط عصر الدولة القطرية العربية في نهاية مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر لاحتْ معالم انتعاش فكر عربي نقدي. وتقاطعَ وتوحّدَ عند الجابري، ابنِ هذه الحقبة العربية الكبير وكاتبها، وحافظ مسائلها وأسئلتها وإشكالاتها. فمنذ عقود وهو يرسم بالرمادي. وعقله يحلِّق عند الغروب بصمت خافق حائزًا بجدارة لقب الفيلسوف.

أبدع كل من الجابري وسلفه الكبير ومثاله ابن رشد على تخوم زمان دول الطوائف، على تخوم الخيبات التي سعيا ليحوِّلاها إلى مقدّمات لآمال جديدة. فهل ينجح مجتمع الجابري حيث أخفق مجتمع ابن رشد؟

يلخّص الجابري حاجتنا لابن رشد بجمل تصلح في وصف حاجتنا للجابري نفسه. إنها الحاجة «إلى روحه العلمية النقدية الاجتهادية، واتّساع أفقه المعرفي، وانفتاحه على الحقيقة أينما تبدّت له، وربطه بين العلم والفضيلة على مستوى الفكر ومستوى السلوك سواء بسواء». هل حاول أن يكون في حياته وفي إنتاجه العلمي تعبيرًا عن وعي غياب ابن رشد؟ من يعرف الجابري يعرف أنه لا يحاول أن يكون شيئًا، فهو يتصرّف على سجيّته كما هو.

وفعلُ ربطِ المعرفة بالفضيلة كما يطرحه الجابري في وصف ابن رشد هو أهم ما يميّز تفاؤلية الأنوار والتنوير. يجوز التفاؤل بالرمادي في التنوير فقط. لأن التنوير يستند إلى ربط الفضيلة بالمعرفة، وربط الخير الاجتماعي والفردي بتبديد ما تعتبره فلسفة التنوير ظلماتِ الجهل. هل تؤدي المعرفة إلى الفضيلة؟ لا ندري، ما نعرفه قطعاً هو أن الجهل أسهل انقيادًا للرذيلة. يلحّ الجابري علينا بابن رشد لأنه برأيه «المدخل الضروري لكل تجديد في الثقافة العربية الإسلامية في داخلها»، ولأنه «أنموذج المثقف العربي المطلوب اليوم وغدًا، الذي يجمع بين استيعاب التراث وتمثل الفكر المعاصر والتشبّع بالروح النقدية، وبالفضيلة العلمية والخلقية». فأصبح الجابري مدخلاً ومدرسة في تجديد الثقافة العربية المعاصرة. ليس لأن كل ما يقوله صحيح، ولا لأن الحكمة اكتملت عنده ـــــ فهنالك ما يناقش ويجب أن يناقش عند الجابري (وتلح المهمة من جديد وخصوصاً بعد عمله الكبير الأخير في التعريف بالقرآن) ـــــ بل لأنه قام بمهمة لا يمكن، ولا يحق أصلاً، لأي كان، أن يضطلع بها. فمن خلال قراءته المتأنية والعالمة والنقدية للتراث بأجندة نقد الحاضر العربي، فتح الطريق لمثقفي اليوم والمستقبل للاستمرار، من نقطة انطلاق جديد، فقد علّمهم الجابري العربي السير في التراث كأنه امتداد للتاريخ والبلاد، للزمن والوطن، كأنه أرض حميمة. ولمن لا يملك الموهبة التي يملكها، وضع دليلاً وخريطة تجنِّبه التيه في مساحاته الشاسعة ومسالكه الوعرة، فبوّبه، ومَفْهَمه في مفاهيم، واصطلحه في مصطلحات، واستنبط منه أدوات معرِفية... وطرح قضايا العقل فيه، وولج إلى اللاشعور المعرفي كاشفًا أصنامه المعيقة للعقل. ووضع نقطة جديدة يمكن أن نبدأ من عندها.

هل تبشّر نهايةُ مرحلةٍ بنهضة مرحلة أخرى أم بمنازعة طويلة مع الموت؟ هذا ما لا يقرّره الفلاسفة. يطرح الجابري الشروط المعرفية، لا الاقتصادية ولا الاجتماعية لنهضة قائمة على الوصل والفصل (والوصل شرط الفصل)، ولبزوغ عقلانية عائدة إلى التراث العقلاني لوصل ما انقطع فيكون ممكنًا بالوصل نفي ما كان نفيًا جدليًا في إطار التاريخ العربي. يشغله التحرر من ثنائيات الشورى والديموقراطية، والدين والدولة، والأصالة والمعاصرة، والحداثة والتراث. إنه يطرح لنا الإمكانية بعد دراسة معمّقة ومستفيضة لتاريخنا الفكري. ولكنه لا يحسم السؤال حول المستقبل، بل يشير لنا إلى الطريق. وهذه مهمته.

وهو لا يستشرف الطريق في إشراقة ولمعة (لا عرفانًا ولا بيانًا بلغته)، بل يمشي خطواته المعرفية في بحث كرّس له حياته.

لقد اكتفى منظّرو النهضة المبشّرون بها في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بطرح السؤال المفجوع، عن السبب في تقدّم أوروبا وتخلّف المسلمين، وازدهار الغرب وتردّي أحوال العرب. أما الجابري فتحرّر من فجيعة السؤال. تحرّر من الصدمة. وطرح السؤال من جديد على شكل أسئلة مصوغة عقلانياً، وبالتالي قابلة للفحص. لم يطرح سؤالاً مفجوعًا مصدومًا خائبًا، بل صاغ الأسئلة مشروعًا فكريًا. وانكبّ على معالجته. وهذا ما لم يفعله مفكّرو النهضة وإصلاحيوها. وبهذا فإن فكر الجابري ليس بداية ممكنة لنهضة جديدة، بل صياغة الأسئلة الحقيقية لأي نهضة عربية ممكنة. صاغها معرفيًا وإبستمولوجيًا وفلسفيًا. لم يطرح الجابري العودة إلى أصول الدين جوابًا، ولا محاكاة أوروبا. ولا الارتداد المتواتر عن هذه لتلك. والصيرورتان جاريتان لا تحتاجان إلى فيلسوف، بل طرح العودة لوصل ما انقطع من المشروع الفكري العربي منذ عصر التدوين، بتشخيص غير العقلاني في الأدوات المعرفية وتمييز العقلاني عنه، وبالبناء لعقلانية وحداثة عربية بلغة العرب وأدواتهم مستخدمًا في بحثه نفسه آخر أدوات الفلسفة والعلوم الاجتماعية من إنتاج الحداثة الأوروبية. هنا مفكر أصيل.

من داخل التراث العربي نقد الجابري الأصنام، كما فعل فرانسيس بيكون في المنطق الجديد حين انتقد أصنام العقل البشري التي تمنع التعاطي العقلاني مع الدنيا. ولكن الجابري تعامل مع أصنام عينية تطورتْ تاريخيًا، هي جملة المفاهيم والإجراءات التي تكسب المعرفة بنيتها اللاشعورية الثقافية في خصوصية معيقات العقل العربي. وكان عمل الجابري الفلسفي هنا عملاً نقدياً بما في كلمة نقد من معنى. إنه نقد العقل العربي أي «نقد البنية الذهنية الثاوية في الثقافة العربية كما تشكّلت في عصر التدوين».

يقول الجابري في الجزء الثالث من نقد العقل العربي، في كتابه عن العقل السياسي العربي: «كل كتابة في السياسة هي كتابة متحيّزة، ونحن متحيّزون للديموقراطية. والتحيّز للديموقراطية في الدراسات التراثية يمكن أن يتخذ أحد سبيلين: إما إبراز الوجوه المشرقة والتنويه بها والعمل على تلميعها بمختلف الوسائل... وإما تعرية الاستبداد بالكشف عن مرتكزاته الإيديولوجية (الاجتماعية واللاهوتية والفلسفية). وقد اخترنا هذا السبيل الأخير لأنه أكثر جدوى».

قبل أن يضطلع بهذه المهمة، فعل الجابري ما يفعله الناس؛ فنشط في النضال السياسي، ولم يترفع عن الحزبية، بل كان قياديًا حزبيًا، وكتب مشاريع سياسية حزبية استراتيجية لامعة، وأصدر العديد من الكتب الفكرية. يذكّرني هذا بصغار المترفعين عن الحزبية والسياسة من المثقفين الذين يبتعدون عن السياسة (إلا العمل في جهاز الدولة، فهو في عرفهم ليس سياسة) كإثبات على الفكر والعلم، وللتغطية على انعدام الفرادة والأهلية. وعمل الجابري ودرّس من أجل قوت يومه ولكي يساهم في بناء جيل من المثقفين، وأنشأ عائلة كريمة، وكتب في السياسة واهتم بقضايا العرب يوميًا، وتابع الأخبار والتطوّرات والأحداث، وكان له فيها رأي.

ومنذ أن طرح الأسئلة الكبرى ووضع قدمه على الطريق بعد كتاب الفكر العربي المعاصر، كرّس نفسه لها كلياً. لم ينشغل الجابري بأمور خارج ما يمليه الواجب السياسي والاجتماعي، ليس لأنه زاهد متنسك، ولا لأنه مترفع عن أمور الدنيا، بل ببساطة لأنه لا يملك الوقت. لقد دافع عن وقته بصرامة وبسالة نحسده عليها. فالجابري أعقل من أن يكون مغرورًا، والغرور نوع من الغباء الذي يؤدي إلى ارتكاب حماقات فعلاً، أو يأتي للتغطية عليها. ولم يرغب في سلوكه أن تروى عنه طرائف. ولا كان لديه الوقت لاستعراض صورة المفكّر المشغول أو التائه أو الفوضوي أو ما ينتشر من صور عن المفكّرين من غرائبية أو فظاظة غير مبرّرة. لم يكن لديه وقت لهذه التفاهات، ولا للتطرّف الاستعراضي من أي نوع، فقد كان الجابري مثل كل الكبار إنسانًا عاديًا متواضعًا في حياته ومعاملاته. لم يصمّم أسطورة عن ذاته في حياته خلافًا لما يفعل بعض نجوم الشعر والفكر والأدب. لم يكن بحاجة إلى صورة المفكّر لأنه مفكّر فعلاً، ولا كان بحاجة إلى أن يثبت للقارئ شيئًا عن ذاته، بل كتب لكي يُقرَأ، وقد كان في غنى عن الادعاء لأنه حقيقي حقًا.

- (نص كلمة الدكتور عزمي بشارة في حفل تأبين أربعينيّة المفكر محمد عابد الجابري يوم 8 حزيران في الرباط، قاعة محمد الخامس).



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165545

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165545 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010