الخميس 19 نيسان (أبريل) 2012

عقلنة العلاقات المصرية ـ الإيرانية (1)

من المصاهرة إلى الطلاق.. فتحالف الشيطان
الخميس 19 نيسان (أبريل) 2012 par د. مصطفى اللبّاد

أعادت «الانتفاضة الشعبية» مصر مرة أخرى إلى معادلات الحضور في المنطقة، بعدما كانت ضيفاً مزمناً على الغياب. عادت مصر إلى المنطقة بعد غياب عقود ثلاثة، تغيرت فيها قسمات المنطقة، بحيث لم تعد كما كانت عليه سابقاً. تحركت قوى إقليمية جديدة إلى بؤرة المشهد في السنوات الأخيرة، فاختلفت خرائط وتغيرت توازنات في ظل غياب مصر المقيم. في ظل غياب مصر عن الإقليم، اندفعت إيران لتصبح رقماً صعباً في «النظام الإقليمي العربي»، فقادت محوراً إقليمياً امتد ـ حتى الآن - في سلسلة جغرافية متصلة تبدأ من جبال الهندوكوش في أفغانستان، وحتى سوريا على البحر الابيض المتوسط. وبسبب حضور إيران الإقليمي المطّرد، فقد تباينت الآراء حولها إلى درجة جعلتها أحد أكثر الظواهر إشكالية في المنطقة. ومع عودة مصر إلى الحضور بعد «الانتفاضة الشعبية» تصبح الرؤية الموضوعية لواقع المنطقة وتوازناتها، مهمة وطنية كبرى تسبق وتمهد لفعل مصري مرتجى في محيطها الإقليمي. في هذا السياق تمثل العلاقات المصرية - الإيرانية وإرساؤها على أرضية تحليلية تقترب من الموضوعية والمنهجية بعيداً عن الفورات العاطفية والأيديولوجية، أحد المكونات الرئيسة لرؤية مصر الجديدة للإقليم وتوازناته، وتحدياً تحليلياً واستراتيجياً يصعب التهوين من شأنه. في هذا السياق يعد تحرير إيران من ثنائية «الملاك» و«الشيطان» في المخيلة السياسية المصرية والعربية، مطلباً أساسياً للتحليل السياسي - الاستراتيجي، خصوصاً أن «الانتفاضة الشعبية» المصرية أسقطت ركاماً هائلاً من الأحكام المسبقة وفتحت النوافذ أمام آفاق جديدة لمصر وحضورها الإقليمي.

تعتبر العلاقات المصرية - الإيرانية، بالمعايير الدبلوماسية، واحدة من أكثر العلاقات الثنائية عراقة في التاريخ الحديث، إذ أن تاريخ التمثيل الدبلوماسي بين البلدين يعود إلى العام 1856، حين افتتح مكتب لتمثيل المصالح الإيرانية في القاهرة. وكان حاكم مصر المملوكي، قانصوه الغوري، قد تحالف في القرن السادس عشر، مع الشاه إسماعيل الصفوي ضد الدولة العثمانية. وبالإضافة إلى عراقة العلاقات، فقد تميزت العلاقات المصرية -الإيرانية بمد وجزر كبيرين، فقد تعززت العلاقات الثنائية بين البلدين في النصف الأول من القرن الماضي، حين وقعت مصر وإيران معاهدة صداقة في العام 1928. وبلغت العلاقات المصرية - الإيرانية ذروة جديدة بعد زهاء عقد من الزمان بمصاهرة ملكية، بين ولي العهد الإيراني وقتذاك محمد رضا بهلوي، والأميرة فوزية، شقيقة ملك مصر السابق فاروق الأول. استمرت الزيجة الملكية، والتي أسفرت عن الأميرة شهناز، حوالي عشر سنوات (1939-1949)، ولم تتأثر العلاقات سلباً بانفصالهما، في حين كانت «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية» ومقرها القاهرة قد ظهرت إلى الوجود العام 1947. ولكن الطلاق بين البلدين قد وقع فعلاً مع قيام «حلف بغداد» عام 1955، حين رمت إيران بثقلها تجاه الحلف الذي هدف إلى محاصرة المد الاستقلالي في المنطقة، وتدعيم الوجود الأميركي فيها لوراثة بريطانيا، في الوقت الذي التزمت فيه مصر الناصرية موقفاً مناهضاً للحلف وأهدافه. وترسخ النفور بين مصر وإيران في الستينيات من القرن الماضي، حين اتهم الشاه السابق، القيادة المصرية بأنها تقف وراء أحداث «ثورة خرداد 1963» ضد الشاه، وفق ما جاء في مذكرة اتهام قادة الجبهة الوطنية الإيرانية «جبهة ملي» التاريخيين، مهدي بازركان وآية الله السيد محمود طالقاني، بالعمالة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

جاءت سنوات السبعينيات لتنقلب العلاقات الصراعية بين مصر وإيران إلى علاقات تعاون وصداقة في عهد الرئيس الراحل السادات، وفي ظل انضواء سياسة البلدين - بشكل أو بآخر - في المعسكر المعادي للاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة. تدشنت علاقات التعاون في السبعينيات بزيارة السادات الأولى لإيران في خريف العام 1971، وزيارة الشاه الثانية لمصر في العام 1975، وبزيادة العلاقات الاقتصادية والإعلامية والروابط السياسية بين البلدين. وكان أن هوت العلاقات الثنائية إلى منحدرات لم تبلغها حتى في فترة الستينيات، بعدما استضافت مصر الشاه المخلوع إبان الثورة الإيرانية العام 1979. كما قطعت إيران علاقاتها الدبلوماسية مع مصر احتجاجاً على «معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية». ومنذ العام 1979، عام قطع العلاقات الدبلوماسية، جرت مياه كثيرة في أنهار مصر وإيران، لكنها لم تستطع أن تغسل الرواسب بين اثنين من أكبر بلاد «الشرق الأوسط». فمنذ الثمانينيات عادت العلاقات الصراعية المصرية - الإيرانية بملامح متجددة، فمن ناحيتها دأبت السياسة المصرية على اتهام إيران بدعم جماعات الإسلام السياسي المصرية وتمويلها، في حين كان النظام المصري السابق هدفاً مفضلاً لساسة النظام الثوري الإيراني ولوسائل الإعلام الإيرانية.

توجهت إيران بعد انتخابات الرئاسة الإيرانية 1997 وفوز الرئيس السابق محمد خاتمي بها، إلى تمتين علاقاتها العربية وحصر الخلافات مع دول المنطقة، عبر محطة رئيسة تمثلت فى التقارب مع السعودية ومحاولاته للتقارب مع مصر، ولكنها نجحت في الأولى ولم تنجح في تذويب الجليد مع الثانية. ومع انتخاب الرئيس الإيراني الحالي محمود أحمدي نجاد للمرة الأولى العام 2005 وحتى الآن لم تنقطع محاولاته لإعادة العلاقات مع مصر، وكلها بقيت محاولات لم تكلل بالنجاح. وبقي ملاحظاً أن القاهرة في العهد السابق لم تغلق الباب نهائياً أمام إيران، بل استخدمت موسمياً ورقة العلاقات مع إيران درءاً لضغوطات محتملة، أو لتحصيل منافع إقليمية. والدليل على درء الضغوط المحتملة هو توقيت الإعلان عن تدشين خط جوي بين القاهرة وطهران في أكتوبر/تشرين الأول 2010، قبل الانتخابات البرلمانية المصرية في نوفمبر/تشرين الثاني 2010، والتي شهدت تزويراً واسعاً تمهيداً لتوريث السلطة لابن الرئيس المخلوع، في محاولة للمقايضة مع واشنطن على ورقة العلاقات مع إيران باعتبارها «ورقة استباقية». أما الدليل على استخدام النظام السابق لورقة إيران بغرض تحصيل منافع إقليمية، فيمكن ملاحظته في توقيت زيارة علي لاريجاني، رئيس البرلمان الإيراني، إلى القاهرة واجتماعه مع الرئيس المخلوع في 20/12/2009، قبل يوم واحد من بدء الأخير لجولة خليجية قادته إلى السعودية والكويت والإمارات في 21/12/2009، لمناقشة التعاون الاقتصادي معها.

كانت إيران ـ في العموم - هدفاً هجومياً مفضلاً للنظام المصري السابق، وعلى شماعتها علق الرئيس المخلوع أخطاء سياساته. لم يكن انتقاد إيران إعلامياً أمراً مكلفاً، بل على العكس كان حتى مربحاً كونه يستميل قوى إقليمية ودولية تعادي إيران لمصلحة نظام مبارك بوصفه من «ركائز الاستقرار في الشرق الأوسط». لعل تقليب النظر في الإعلام الرسمي المصري ـ صحيفة «الأهرام» مثالاً - يكشف عن هذه الحقيقة بوضوح، ففي يوم اندلاع «الانتفاضة الشعبية» المصرية في 25 يناير/كانون الثاني 2011 نشرت «الأهرام» لقاء مطولاً مع وزير الداخلية السابق حبيب العادلي، تناول فيه التظاهرات وذكر بأن «إيران لم تتعاون مع مصر لتسليم المطلوبين المصريين لديها وتركتهم يهربون إلى دول أخرى». وفي اليوم ذاته نشرت «الأهرام» مقالة بعنوان «تحالف الشيطان وتفجيرات القديسين»، اتهم إيران بتوجيه «تنظيم القاعدة» في العراق وإيواء عناصرها في طهران وترك منظماتها في غزة حتى يحين وقت استخدامها والبقية تأتي». وفي عين اليوم المشهود كتب رئيس تحرير «الأهرام» الأسبق ما يلي: «يتداخل أكثر من عنصر في هدف المساس بالأمن القومي المصري، فهناك حركة «حماس» التي تسعى إلى بناء إمارة إسلامية في القطاع على حساب القضية الوطنية الفلسطينية، وهناك الجماعات الأصولية المتشددة الأقرب إلى تنظيم القاعدة، وهناك إيران الممول الأول لكل هذه الحركات والجماعات».

وبعيداً عن الآلة الإعلامية لنظام المخلوع ومصالحه الضيقة في معاداة إيران استجلاباً للمنافع، كانت هناك أسباب موضوعية حالت دون إعادة العلاقات المصرية - الإيرانية، بحيث جعلت المساعي الإيرانية لإعادتها تقفز فوق الإطارين الإقليمي والدولي الذي تحكم تاريخياً بها، وهو ما جعل مقولات «تحالف مصر وإيران» تستنطق نتائج لا تتطابق مع الواقع الموضوعي لحال هذه العلاقات. صحيح أن كلا من مصر وإيران يملك حضوراً تاريخياً في المنطقة، وصحيح كذلك أن لكل منهما تأثيره المعنوي والثقافي على شرائح واسعة من سكان المنطقة، وصحيح أيضاً أن مصر وإيران هما الحدان الجغرافيان والحضاريان الذي يقع المشرق العربي ضمنهما، إلا أن نفوذ إيران السياسي في المنطقة فاق نظيره المصري بأشواط. وإذ نظمت طهران تحالفاتها في سلسلة جغرافية - سياسية تمتد من حدودها الغربية حتى تصل إلى البحر المتوسط، وفق حسابات دقيقة لموازين القوى؛ فإن القاهرة في العقود الثلاثة الماضية لم تعد تملك نفوذها التقليدي السابق في المنطقة.

تقول التجربة التاريخية للعلاقات المصرية - الإيرانية في القرن العشرين إنها تتطور وتزدهر بوجود الحاضنة الدولية وانضواء البلدين تحت مظلة دولية متشابهة، لأن هذه الحاضنة ترسم حدود التعاون وآفاقه بين القوتين الإقليميتين وفقاً لتصميماتها للشرق الأوسط؛ وتقنن تالياً حدود التصادم الموضوعي لمصالحهما. ويمكن ملاحظة انطباق هذه الحقيقة على واقع العلاقات المصرية - الإيرانية في الثلاثينيات والأربعينيات والسبعينيات من القرن العشرين، مثلما يمكن التثبت من صحتها بملاحظة تدهور العلاقات بين القاهرة وطهران وهما ينضويان تحت أسقف دولية مغايرة. وهو ما كان الحال عليه في الخمسينيات والستينيات أثناء تجربة الرئيس جمال عبد الناصر في مواجهة الشاه السابق، ومنذ الثمانينيات وحتى الآن تحت حكم جمهورية إيران الإسلامية في مواجهة نظام الرئيس أنور السادات ومن بعده نظام المخلوع حسني مبارك. ونظراً لانتفاء أحد الشروط التاريخية لتحسن العلاقات المصرية - الإيرانية، أي غياب السقف الدولي المشترك، فلم يمكن موضوعياً إحداث اختراق في هذه العلاقات. في هذا السياق يمكن رؤية «العداوة اللفظية» بين القاهرة وطهران، والتي استمرت طيلة ثلاثين عاماً باعتبارها ملخصة لمصلحة مشتركة للطرفين، فمن ناحية استعملها حسني مبارك في مواجهة إيران لأغراض بقائه في السلطة، ومن ناحية أخرى كانت هذه «العداوة اللفظية» مريحة تماماً لإيران، التي تمددت في المنطقة خلال سني حكم مبارك كما لم تتمدد في تاريخها الحديث. ومثل النموذج الذي قدمه الرئيس السابق مبارك ـ من حيث لم يحتسب - أحد أفضل المساعدات لإيران على الظهور الإقليمي، ومن ثم الانتصار في صراع النماذج الذي دار في المنطقة خلال العقدين الماضيين. ففي حين قدم مبارك نموذجاً متراجعاً ومتهاوياً في الحكم (توريث السلطة في الجمهوريات مقترناً بفساد هائل وفقدان كامل للاستقلال الوطني)، فقد دشنت إيران انتصارها في صراع النماذج بتقديم نموذجها الخاص (معاداة دولة الاحتلال «الإسرائيلي» عطفاً على مشروع وطني كبير وأيديولوجيا تقارع قوى الاستكبار العالمي) مستقطبة شرائح لا يستهان بها في الشارع العربي.

للبحث تتمة....



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2181845

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2181845 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40