الثلاثاء 17 نيسان (أبريل) 2012

محجوب عمر : الحكاية النادرة

الثلاثاء 17 نيسان (أبريل) 2012 par صقر أبو فخر

اسمه الأصلي رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك صليب. أما اسمه الذي صار حكاية من حكايات النضال الفلسطيني فهو «محجوب عمر». وقد كان من حسن طالعي انني ترافقت وإياه خمس سنوات كاملة في مركز التخطيط الفلسطيني، من سنة 1977 حتى سنة 1982، وكنا في الطبقة نفسها من مبنى المركز. قبل ذلك أتيح لي ان ألتقيه مرات قليلة، لكن مقادير من حياته في الأردن سبقته إلينا، وشاعت بيننا، وشوقتنا إليه في الوقت نفسه. ومن الحكايات التي تروى عنه ان احدى المريضات ذهبت إلى عيادته في الأردن تشكو وجعاً ما، فوجدت شخصاً ينظف العيادة، فاعتقدت انه الممرض، وطلبت إليه ادخالها على الطبيب. فما كان منه إلا ان طلب منها الانتظار قليلاً، وتابع تنظيف العيادة. فاستاءت المريضة، ومع ذلك قعدت تنتظر. ولما انتهى محجوب من شطف الغرفة، توجه إليها قائلاً: تفضلي يا أختي، ممّ تشكين؟ فصرخت في وجهه قائلة ان عليه ان يدخلها فوراً إلى الطبيب، لا ان يسألها عمّ تشكو. وحين أخبرها انه هو الطبيب، تعجبت، وأنِسَت إليه.

هذه ليست حكاية، بل طريقة حياة اختطها محجوب عمر طول حياته. وقد اختبرت ذلك بنفسي. ففي احدى المرات، في مركز التخطيط، تأخر عمال النظافة عن القدوم إلى المركز جراء التقاصف اليومي إبان الحرب الأهلية، فاتسخت قاعات المركز ومكاتبه. وفجأة شاهدنا محجوب وهو يبادر إلى ملء الجرادل بالمياه، ويدلقها في الغرف والممرات، ثم يقوم بشطفها. فخجلنا، وقمنا على الفور لنساعده.

******

كان محجوب شيوعياً. لكنه، حين دهمته هزيمة حزيران 1967، غرق في حال من التأمل، وراح يراجع أفكاره وخياراته السياسية. وكان اسم «فتح» قد بات يتلألأ في سماء العالم العربي، واكتشف ان طريق «العاصفة» هو الرد الحقيقي على الهزيمة، فاختارها، وترك كل شيء والتحق بها.

قال لي مرة في اثناء احدى المجادلات انه يكن احتراماً كبيراً لجمال عبد الناصر، وانه بكى بحرقة حين مات، لكنه لا يحبه. وعندما رأى الدهشة في عيني، تابع شارحاً: نعم، لا احبه، لانه ببساطة سجنني عشر سنوات. لكنني احترمه كثيراً، فقد كان زعيماً حقيقياً.

علّمني كيف استمع بشغف إلى محمد عبد المطلب ولا سيما أغنية «ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في الحسين». وكان حين تغرق الطبقة الرابعة في مركز التخطيط بالصمت أحياناً جراء الانهماك في العمل، يتحرك من مكتبه، ويأمرنا بالتوقف عن العمل: انها «استراحة أم كلثوم»، ويروح يعد الشاي الأسود بيديه ويقدمه لنا بلا سكر بعد ان نتجمع في مكتبه. وكم جرفته نشوة الطرب، فيروح يغني المواويل الصعيدية الحزينة والجارحة.

أطلق على منطقة الفاكهاني والجامعة العربية اسم «المربع». وكان يقول إنه المربع الأخير للثورة الفلسطينية، فاحترسوا من الاساءة للناس. وصدق حدسه. وفي هذا المربع تعرف إلى منى عبد الله العاقوري، المناضلة اللبنانية الفريدة التي كرست نفسها لمبادئها وله، فتزوجا.وكانت منى دائما رفيقته وأمه التي تصغره عمرا بحسب السيد هاني فحص.

في سنة 1976 حين بدأت طلائع الجيش السوري تتدفق على لبنان، كنا، كما هو معلوم، ضد هذا الدخول. فقال لي محجوب مرة: لماذا أنت ضد دخول الجيش السوري إلى لبنان؟ فأجبته: لان ذلك ضد الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وهو إنقاذ للانعزاليين اللبنانيين. فقال: أولاً، هذا البلد مش لأبوك لتحدد أنت من يدخل إليه ومن يخرج منه. ثانياً، انتبه، ألا ترى ان هذا الدخول ربما يكون مقدمة لتحطيم حدود سايكس ـ بيكو، فمنذ سنة 1920 لم يجتاز جندي عربي حدود لبنان، وها هو الجيش السوري يجتازها الآن؟

لقد دفعني كلامه آنذاك إلى اعادة التفكير في موقفي، لكن قصة تحطيم حدود سايكس ـ بيكو لم «تضبط» مع محجوب هذه المرة.

******

قبل زواجي دخت في التفتيش عن منزل فما وجدت. وأخيراً عثرت على واحد متواضع، لكن ايجاره كان فوق طاقتي (500 ليرة شهرياً)، فاستنكفت عن استئجاره. غير ان محجوب دفعني دفعاً لاستئجاره، وأهداني، لاحقاً، كرسيين من بيته، وطناجر وصحون من الالمنيوم وبابور بريموس من مستودعات حركة «فتح». وضحكت قائلاً له: من ذا الذي ما زال يستخدم البريموس حتى الآن؟ فأجابني: ربما تحتاجه في معمعان هذه الحرب في ما لو انقطعت الكهرباء وفقد الغاز في الوقت نفسه. ولم يطل الأمر كثيراً حتى وقع اجتياح سنة 1978، وتدفق النازحون على الملعب البلدي قبالة بيتي. فجمعت ما أهدى إليّ محجوب، وكانت لا تزال في صناديقها، وقدمتها للنازحين واخبرته عن ذلك. فقال: ألم تر! ها ان البريموس برهن عن فائدته.

في احدى ليالي الاجتياح «الإسرائيلي» في سنة 1982 التقيته في احد الأماكن، وكانت القوات «الإسرائيلية» اجتازت نهر الأولي نحو الشوف. وقلت له ان الأنباء المتواترة تشير إلى ان الجيش «الإسرائيلي» سيتوقف عند نهر الدامور. فضحك مني وقال لي: فكّر قليلاً. لماذا سيتوقفون عند الدامور؟ ولماذا لا يصلون إلى بيروت؟ جهّز نفسك لحصار طويل وقتال شرس، فسيصل «الإسرائيليون» إلى بيروت قريباً. وهذه المرة صدق محجوب.

******

ما هبطت القاهرة مرة إلا وكانت زيارة محجوب ومنى عبد الله هدفي المعلن او المكتوم والمضمر معاً. بعد عودته من لبنان اقام في المنيرة بالقرب من السيدة زينب، وفي احدى المرات كنت في منزله، وجاء السيد هاني فحص، وتغذينا معاً، وصلى هاني فحص في منزل القبطي وفي منزل المارونية. وأنا «تباركت» بالثلاثة. وفي السيدة زينب دعاني محجوب ومنى مع مستشرقة أوروبية إلى العشاء في الشارع. في الشارع؟ قلت له: فأجابني: نعم، في الشارع، وسترى القاهرة الحقيقية، وهي غير التي تراها من فندق «شبرد» أو من شوارع «غاردن سيتي». انها قاهرة ما بعد العاشرة ليلا حين تهبط أبواب المحال، وترتفع أمامها فوراً الطاولات والكراسي والمطابخ المتنقلة، وتبدأ حياة اخرى تماماً.

كان محجوب عمر في القاهرة، تماماً كما كان في بيروت، مملوءا بالحكمة والتواضع والصبر والإصرار، فأسس مركزاً بسيطاً للأبحاث والدراسات الفلسطينية. وقد زرته في هذا المركز الواقع فوق مكتبة اسماعيل عبد الحكم، مقابل روز اليوسف، ووجدته يحاول ان يوجه طالباً سورياً ذكياً يدرس في الجامعة الأميركية. وكانت لدى هذا الطالب مشكلة في النطق، وكان محجوب صبوراً بطريقة عجيبة. وبعد انتظار طويل انهى محجوب لقاءه مع ذلك الطالب واتجه نحوي معتذراً، فقلت له: نيالك على هذا الصبر. مع ان هذه الصفة ليست غريبة، على الاطلاق، عن محجوب، ولم يكن مستغرباً أيضاً اعجاب محجوب بالحمار الذي كان يعده فيلسوفاً وصبوراً معاً، وكتب له قصيدة لحّنها بول مطر يقول .

******

طوى محجوب عمر سنوات عمره فارساً مكافحاً ومناضلاً ومفكراً وكاتباً وباسماً في كل وقت، ومتفائلا في جميع الأوقات، وكان امثولة نادرة في الزهد والتفاني والتواضع والحنو. لهذا صارت سيرته حكاية تروى في صعيد مصر وفي جنوب لبنان وفي فلسطين التي امتلأت أزاهيرها بعطر هذا «الحكيم» الذي لا يتكرر.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[rouge]«الحكيــم» الزاهــد[/rouge]

- ولد في بني سويف سنة 1930.

- التحق بكلية الطب في جامعة القاهرة سنة 1948، وتخرج طبيباً في حقل التخدير.

- انضم إلى الحزب الشيوعي المصري.

- اعتقل في سنة 1954، واشتهر بصموده امام التحقيق، وكان قد اتخذ اسماً حركياً هو «محجوب عمر» الذي سيلازمه طوال حياته. ثم اطلق في سنة ١٩٦٤.

- سافر إلى الجزائر في تشرين الأول 1968 ثم غادرها في أيار 1969 ليلتحق بصفوف الثورة الفلسطينية، في الأردن.

- انتقل إلى لبنان، وعين مفوضاً سياسياً لقوات «فتح» في الجنوب اللبناني. ثم انتقل إلى مركز التخطيط الفلسطيني الذي صار المركز معه محوراً لسجالات سياسية ونقاشات فكرية متعددة الاتجاهات.

- ساهم في صوغ خطاب ياسر عرفات الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1974.

- بقي في بيروت حتى خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان في سنة 1982، فاضطر إلى العودة إلى القاهرة التي تابع فيها نشاطه الفكري والسياسي والصحافي.

- قلده ياسر عرفات في 18/2/2004 وسام نجمة القدس، وهو أرفع وسام فلسطيني.

- مؤلفاته : «السبع في السيرك» (مسرحية كتبها في سنة 1974 وأخرجها روجيه عساف)، «قصة مستشفى الأشرفية» (1971)، «حوار في ظل البنادق» (1975)، «الناس والحصار» (1983)، «الاختراق» (1994).

- توفي في القاهرة في 16/3/2012.


titre documents joints

محجوب عمر : الحكاية النادرة | ملحق «فلسطين» | صحيفة «السفير» اللبنانية.

17 نيسان (أبريل) 2012
info document : PDF
309.1 كيلوبايت

صقر أبو فخر



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 105 / 2165586

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165586 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 22


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010