الاثنين 16 نيسان (أبريل) 2012

الثورات العربية : بين مطرقة الأنظمة وسندان الغرب..!

الحلقة الثامنة: الفتنة والثورة المعركة الأولى
الاثنين 16 نيسان (أبريل) 2012 par عمر ياسين

[/

كان لنظام الحكم في حياة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والخليفتين من بعده , منطلقاته الفكرية والعقيدية التي أسست لنظم سياسة واقتصادية واجتماعية متميزة , تفردت عما عهده العرب في الأنظمة المجاورة لهم في بلاد فارس وبلاد الروم وما لحق بهما من العرب في الشام والعراق ، لكن المدى الزمني – القصير نسبيا - الذي انقضى منذ لحق الرسول بربه , وحتى نهاية عهد الخليفة الثاني , لم يُتِح للخليفتين أبا بكر وعمر إثراء التجربة السياسية وترسيخ قواعدها في البنيان الناشئ ، ولم يكن عامل الزمن وحده هو الذي حال دون تواصل البناء على أسس من الفكر الإسلامي والعقيدة , فقد كان للموروث الذي وَقَرَ في قلوب الملتحقين حديثا بالإسلام وغيرهم ، دورهم أيضاً في إعاقة التطور وتواصل التجربة تبعا لمصالحهم الخاصة ومطامحهم التي كان النظام الإسلامي يحول بينها وبينهم ، وما أن أتيحت لهم الفرصة بعد إغتيال الخليفة الثاني في ظروف شاء لها البعض أن تظل غامضة في تدبيرها وأطرافها وأهدافها , بعد أن عجزوا عن تحقيقها في ظل حاكم قوي وعادل ,وإصراره على إرساء قواعد العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس ، وحصره لأعضاء هيئة الشورى وكبار الصحابة في المدينة لا يبرحونها إلا بإذن منه وأمد محدد , فنقم عليه من نقم وعارضه من عارض.

لكن المرحلة الحرجة التي دخلت الدولة نفقها المظلم , وخرجت منه عريّةً من القواعد والأسس التي قامت عليها الدولة , تفاقمت بمقتل الخليفة الثالث على أيدي الثائرين عليه بعد أن نقموا منه إخلاله بالنهج الذي سار عليه من سبقه من الخلفاء

واقع هيئة الشورى قبل مقتل عثمان وبعده

كان لتغيب هيئة الشورى عن دائرة الفعل والتأثير في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، التي أقرّها واعتمدها النظام الإسلامي في العهدين السابقين ، وإستبدالها ببطانة خاصة تُملي على الخليفة إرادتها ، أثره الكبير في الحكم ، فإخْتطّت نهجا جديدا حاد بها عن الطريق الذي قام عليه وآلت إليه الأمور , وما صَحِب ذلك من تَغيّر في البنية الاجتماعية والسياسية والفكرية للمجتمع الإسلامي ، فتفرق جَمعُ أهل الشورى وتباينت مواقفهم ، فاعتزلهم سعد بن أبي وقاص ، واتخذ الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله موقع الطامح المتريث ، واتخذ علي بن أبي طالب موقف الناصح الناقم .

وبمقتل الخليفة , لم يعد للأمة مرجعية سياسية تحول دون سقوطها في هاوية فراغ دستوري شتت جمعها وهدد كيانها بالتفسخ ، فكان لا بد من خليفة يقوم بأمرها ويحول دون تشظيها إلى كيانات مختلفة , ويحفظ وحدتها ويصون عقيدتها من الألتياث في ظلام الفتنة ، وهذا الدور يستوجب من بقية أعضاء الشورى القيام به ، ولكن معظمهم عزف عن هذا الواجب المنوط به .

كان علي يرى انه الأحق بالخلافة والأقدر على القيام بأعبائها ، وحمل الأمة على الجادة من جديد، ولكنه كان يريدها بيعة تحظى بالشرعية التي اعتادتها الأمة في الاختيار والبيعة

وحين ضاق أهل المدينة ذرعاً بوجود الثائرين بينهم , وبالفوضى العارمة التي حلّت بمدينتهم جراء مقتل الخليفة , وبالحصار الذي فرض عليهم وطال أمده ، لم يجد الثوار بدا من الضغط على أعضاء الهيئة وإمهالهم ثلاثة أيام للتوافق على احدهم ليقوم بالأمر وإلا قتلوهم جميعاً .

ولم يخفى الثوار رغبتهم بأن يليها علي بن أبي طالب لمعرفتهم بأحقيته بها ، وصلاحه لها, فطلبوا إليه أن يتولى الأمر ، فقبض يده عنهم وقال ( إن هذا الأمر ليس لكم وإنما هو لبقية الشورى وكبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ، فتريثوا ) فانتشر قادة الثوار في المدينة يستفتون الناس , ويلتقون بكبار المهاجرين والأنصار , وببقية الشورى - الزبير وطلحة - يستطلعون آرائهم ، وفي الغد عادوا إلى علي وطلبوا إليه أن يجلس في المسجد للبيعة ، ولكن الإمام أبى موافقتهم قبل أن يُبيّن للناس ما هم مقدمون عليه ، وما آل إليه الأمر بعد مقتل الخليفة عثمان ، وما ستجابه الأمة من فتن تُسفك فيها الدماء , ليكونوا على بينة من أمرهم فقال ( دعوني والتمسوا غيري ، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم لها القلوب ، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغ إلي قول القائل وعتب العاتب ، وان تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، وأنا لكم وزير خير لكم مني أمير ) (نهج البلاغة ص 182 ) فقبلوا منه ، ورجعوا إليه في الغد ومعهم طلحة والزبير, جاءوا بهما قسرا فبايعاه , وقالا فيما بعد ( أن ذلك لم يكن عن رضا منهما وإنما بايعا والسيف على أعناقهما ) وأما سعد فلم يبايع وقال لعلي( ليس عليك مني بأس , وإنما أبايع بعد أن يبايع الناس ) فقال علي خلوا عنه ، وكذلك رفض عبد الله بن عمر مبايعة علي ثم خرج إلى مكة ، وبايع لعلي كثير من أهل المدينة في يومه ذاك.

وبعد البيعة , اتخذ الإمام علي قراره الأول بعزل ولاة عثمان جميعا ، وذلك انطلاقا من إيمانه بفسادهم واستجابة لطلب وفود الأمصار وعامتهم في هذه الولايات , لكن بعضا من أنصاره كان يرى في عزلهم فتنة وشغبا تضاف إلى ما نشأ عن مقتل الخليفة الثالث , ونصحوا الإمام بالتريث والصبر على وجود هؤلاء حولاً ، تؤخذ له فيه البيعة من عامة الجند والأمصار حتى يستتب له الأمر والأمن , فأبى الأمام ذلك , فراجعوه لِيُبقي على معاوية ( فهو من بينهم من يملك الشوكة , وأهل الشام سامعون له ومطيعون , وليفعل بعد ذلك ما يشاء ) فأبى الأمام وقال ( والله لا أداهن في ديني ولا أعطي الرياء في أمري ولا أستعمل معاوية يومين أبداً) وأمر بتعين ولاة جدد للولايات وبصرف السابقين عنها وعودتهم إلى المركز.

وتتابعت قرارات الإمام في الإصلاح السياسي والاجتماعي للدولة ، والذي كان قد وصل حد التعارض مع القيم الإسلامية في المساواة والعدل ، فَعزْلُ الولاة يستوجب إلغاء ما أحدثوه ، واستعادة ما غلّوه ، وتطهير أجهزة الدولة من الفساد ، فجاءت قراراته اللاحقة عملا ثوريا وجذريا شاملا ، لا تتوقف عند ما تَحقّقَ قبل تولية الخليفة الثالث فحسب ، بل تجاوزها لتشمل الكثير من الرؤى الثورية التي تُثَبّتُ الأسس التي تحكم العلاقة بين قوى المجتمع وأطيافه المختلفة ، إضافة إلى سن القواعد التنظيمية والإجرائية للأسس التي يقوم عليها اقتصاد الدولة .

فأتْبَع قراره الأول بعزل الولاة بقرار أخر يلغي فيه ما اقره الخليفة الثالث في أملاك الدولة من بيع أو إقطاع أو إستبدال ، واجتثاث الآثار المترتبة عليها ، فقرر ( إن كل قطيعة اقطعها عثمان وكل ما أعطاه من مال الله فهو مردود إلى بيت المال ، فان الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج به النساء ومُلِك به الإماء وفرّق في البلدان لرددته إلى حاله ، فان في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق ) نهج البلاغة ج 1 / 269 .

ذلك أن استئثار بني أمية وأتباعهم ومن والاهم بالأرض المملوكة للدولة من دون الناس , وتصرف الولاة بأموال الخراج كما يشاءون ، نتج عنه إحداث طبقات اجتماعية إمتازت عن الناس ، وسادت عليهم بثرواتها وانتمائها القبلي , وأمعنت في الأرض عُلوا وكِبراً ، لذلك كان هؤلاء هم مقصده الأول في التغير ، وقال فيهم قبل توليه الخلافة بعد أن شاع فسادهم ( والله لو وليتها لنفضتهم نفض اللّحام الوذام التربة ) أما قراره الثالث فكان العمل بنظام المساواة بين الناس في العطاء كما كان عليه في العهد الأول، فنقم عليه أصحاب الثراء وأتباعهم ، ذلك أن التفاضل في العطاء أورثهم السيادة والجاه والسطوة ، وهي في الغالب تبع للثراء في كل عصر ، وقال للناس ( انتم عباد الله والمال مال الله ، يقسم بينكم بالسوية لا فضل فيه لأحد على احد ، وإنما الفضل والجزاء لمن سبق واتقى غدا عند الله ) وكان أول من إعترض واستنكر عليه هذا القرار طلحة والزبير ، وذلك حين سألهم علي عمّا نقموا وكرهوا منه فقالا : انك ساويت بيننا وبين الناس في العطاء فيما أفاء الله علينا بأسيافنا ورماحنا ، فقال لهما : لقد وجدت أنا وأنتما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يحكم بذلك ، وكتاب الله ينطق به وليس لكما ولا لغيركما عندي والله إلا هذا .

هي ثورة سياسية واجتماعية - إذن – حمل لوائها الإمام ليُعيد للإسلام روحه ومقاصده في العدالة الشاملة لتعمّ أفراد الأمة جميعا وتساوي بينهم في الحقوق والواجبات.

الوضع في الولايات قبل البيعة

كانت الولايات الأساسية في الدولة على عهد عثمان هي:
الشام _ وكان واليا عليها معاوية بن أبي سفيان ، فأرسل إليها علي سهل بن حنيف ، فاعترضه جند معاوية وأعادوه إلى المدينة ، وكانت الشام من بين كل الولايات الإسلامية الأكثر سمعاً وطاعة لواليها ، فقد تعهدها معاوية وأعدّها لتكون خالصة له ، وهو وإن لم يكن ليجرؤ على الاستئثار بها في عهد عمر أبن الخطاب ، إلا أنه أنشأ حكما تفردت به عن سائر الولايات الأخرى في المظهر والجوهر ، فأبهة الملك واتخاذ الحجابة دون الناس , واستخلاص البطانة والبذخ والتصرف في بيت المال ، كانت السمات التي اعتمدها في تأسيس السلطة الأموية في عهد عثمان ، وهي المرتكز المادي الذي انطلق منه في عدم الإقرار لعلي بالخلافة ، والخروج عليه وقتاله تحت ستار المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان ، وكان معاوية قد أعدّ لمثل هذا اليوم عُدته ، وفرغ من تثبيت دعائم ملكه ، وضمن طاعة أهل الشام له ، وحين أتاه أمر علي مع - سبره الجهني - يعلمه بمبايعة المهاجرين والأنصار له ، وما أوقع بالزبير وطلحة بعد أن نكثا بيعته ، ويأمره بالدخول في طاعته ، وبأنه من الطُلقاء الذين لا تَحلّ لهم الخلافة ، لم يأبه معاوية برسول علي , وماطله ثلاثة أشهر على ما نقله المؤرخون , ثم أعاده ليخبر علي استعداد أهل الشام جميعا للحرب طلبا بدم عثمان .

البصرة _ وكان واليها عبد الله بن عامر ، فأرسل علي إليها عثمان بن حنيف, فغادرها أبن عامر قبل وصول أبن حنيف إليها , حاملاً معه ما في بيت المال , ثم ولاّها علي عبد الله بن عباس خلفا لأبن حنيف ، وكان أهلها منقسمون على أنفسهم بين مؤيد لعلي ومعارض له , ومعتزل يرى في القتال إلى جانب أي من الخصمين إن هو إلا فتنة عمياء

الكوفة _ وكان واليا عليها في عهد عثمان أبا موسى الأشعري فأقره علي عليها لرغبة أهلها به , بعد أن بايع له وأخذ له البيعة من أهلها , وحين علم بخروج الزبير وطلحة ومن معهما أخذ يُثَبّط أهل الكوفة عن نصرة علي ويدعوهم إلى إلإعتزال , وكان يقول للناس ، ( استنصحوني ولا تستغشوني ، أما سبيل الآخرة فأن تقيموا ، وأما سبيل الدنيا فأن تخرجوا ) ويحرضهم على قريش فيقول ( لقد إستئاثرت قريش بالزعامة دون الناس ، والناس تبعا لهم ، إن حادوا يمينا أو حادوا شمالا ، ويصف ما حدث بالفتنة فيقول : ( إنها فتنة فشيموا سيوفكم ، واقطعوا أوتاركم ، خلوا قريش إذ أبوا إلا الخروج من دار الهجرة ، وفراق أهل العلم بالإمرة ، ترتق فتقها وتشعب صدعها ، فأن فعلت فلأنفسها سعت ، وإن أبت فعلى نفسها جنت ، استنصحوني وأطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياكم ، ويشقى بحر هذه الفتنة من جناها ) كما جاء في (تاريخ الطبري ج 3/ 26) . وعلم علي بموقفه منه , وما يقول، فخلعه الإمام عن الولاية وكتب إليه ( لقد أرسلت إليك الحسن ابن علي وعمار ابن ياسر يستنفران الناس , وبعثت قرظه ابن كعب واليا على الكوفة , فاعتزل عملنا مذموما مدحورا، فإن لم تفعل فإني أمرته بمنابذتك، وإن نابذته ليقطعنك إربا ) مروج الذهب ج2 /361 والطبري ج3 / 35 . فاستجاب لأمر عزله , وخرج إلى مكة , وولّى بدلا منه قرظه بن كعب الأنصاري ، فعادت الولاية إلى الطاعة .

اليمن _ وكان واليها يعلي أبن منبه, فغادرها وأحتمل معه ما في بيت المال فأرسل علي إليها عبيد الله بن عباس، ولم يجد معارضة له بين أهلها.

المدينة _ أما المدينة فقد كانت منقسمة على نفسها بين مؤيد ومعارض، لكن الغلبة فيها كانت للمؤيدين لعلي برغم أن اغلبهم لم يخرج معه بدءاً إلى العراق , واختار عدم المشاركة في القتال.
مصر _ وكان واليا عليها من قبل عثمان عبد الله ابن سعد ابن أبي سرح , فولّى عليها الإمام قيس بن سعد بن عباده ، وكان سعد رجل حرب وسياسة , فخشي معاوية منه إن يجمع أمرها لعلي بعد أن أحكم سيطرته على العراق , فحاك له معاوية خيوط مؤامرة بثها في أهل الشام والعراق , وأدّى إنتشارها في البلدين إلى شك علي بولاء سعد له فعزله , وولى عليها محمد بن أبي بكر ، الذي ظل فيها حتى قتل على يد عمرو أبن العاص حين قدم مصر أميراً عليها من قبل معاوية ، ويقول معاوية عن مكيدته هذه ( ما ابتدعت مكايدة قط أعجب عندي من مكايدة قيس بن سعد ، فقد قلت لأهل الشام لا تسبوا قيس , فأنه لنا شيعة , يأتينا بكيس نصيحته سراً ، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا ، يناصحهم ويجري عليهم الأرزاق ، وأتى بكتاب إدّعى بأنه جاءه من قيس ابن سعد فأظهره وأشاعه في الناس , ليؤكد انحياز قيس له ومطالبته بدم عثمان وقتل قتلته ، ومبايعة معاوية ، وما أن وصلت الأنباء إلى علي حتى كتب إلى قيس يأمره بقتال أهل خربتا ، وكان سعد قد وادعهم على أن لا يحدثوا حدثا ، وكانوا في عشرة آلاف مقاتل ، فرفض سعد قتالهم بعد أن كان قد أمّنهم , وظلوا على الوفاء بعهدهم , فرفض قيس قتالهم وكتب لعلي بأنهم على عهدهم له ، وان فيهم خيرة العرب وأبطالها ، فلم يقنع علي بجوابه وشك في ولائه فعزله ، ونفذت مكيدة معاوية .

وأما مكة _ فولاها لخالد ابن العاص ابن المغيرة , فلم يستجيب له أهلها , وذلك لكثرة الناقمين والمعتزلين بها , ومنهم أم المؤمنين عائشة , فقد أصبحت ملاذاً للرافضين خلافة علي بن أبي طالب ، فإليها لجأ ولاة بني أمية ، عبد الله بن عامر بن منبه ، والوليد بن عتبة , وسعيد بن العاص , وكذلك مروان أبن الحكم ، إضافة إلى الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الله بن عمر، وغيرهم ، ومنها انطلقت قوات المعارضة ، متجهة إلى العراق بعد أن اصطحبا معهم ، أم المؤمنين عائشة ، (وأمدّهم ولاة عثمان - عبد الله أبن عامر ويعلي بن منبه - بالمال والظهر ، حتى بلغ ما جمعاه لهم مليونا ومائتا ألف درهم غير الظهر الذي حُمل الناس عليه , وقيل بأنه ستمائة جمل ). مروج الذهب ج 2 / 360

الحرب الأولى في الفتنة – موقعة الجمل:

حين أدرك الزبير و طلحة أن الإمام لن يشركهم في أمره كما يطمحون, و أن سياسته العامة في الحكم لن تُؤثِرهم على غيرهم في شيء , اختاروا منابذته على الاعتزال كما فعل سعد بن أبي وقاص , وعبد الله بن عمر, ومحمد ابن مسلمة الأنصاري , و غيرهم من الصحابة , فلجؤا إلى مكة ملجأ الناقمين على الإمام , و من حقائق التاريخ المؤلمة أن نجد في الزبير وطلحة الذين سبق لهم أن نقموا على عثمان وعابوا عليه , يتحالفون مع من كانوا من صُنّاع سياسة الخليفة الثالث وأكثرهم قربا منه , وأكثرهم فساداً - كمروان بن الحكم وعبد الله بن عامر والوليد بن العقبة - يجمعهم شعار واحد , المطالبة بدم عثمان و القصاص من قتلته , و هدف واحد , هو الخروج على الإمام و قتاله , فتولى الزبير و طلحة أعمال التحريض و القيادة والقتال , وتولى بنو أمية الدعم بالمال والعتاد , فخرجوا بجمعهم من مكة إلى العراق ليحوزوا مِصْريْها ( الكوفة و البصرة ) بما لهم من أنصار فيها قبل أن يصل إليها الإمام.

وقد تحقق لهم بعض ما أرادوا من السبق في الوصول إلى البصرة , و كان رسل علي وواليه عليها (عثمان بن حنيف) قد سبقوا طلحة و الزبير إليها , وأخذوا البيعة لعلي من غالبية أهلها.
وحين التقى زعماء البصرة بالزبير وطلحة وعائشة, سألوهم , فيم أتيتم ؟ قالوا نطلب بدم عثمان , وجعل الأمر شورى بين المسلمين في انتخاب خليفتهم.

وقالت أم المؤمنين عائشة بمقالتهم مضيفة ( لقد انتصرنا لكم من سوط عثمان و عصاه , ألا نغضب لعثمان من السيف وقد أعتبناه و تاب إلى الله ؟ و ما على المسلم بعد التوبة ؟ لكن من قتلوه استحلوا حرمات ثلاث , حرمة الدم وحرمة الشهر وحرمة البلد الحرام ) , فوقعت الفتنة في البصرة و أجتلد الناس و كثرت بينهم الجراحات , ثم تحاجزوا و تعاهدوا ألاّ يُحْدِث أحدهم حَدَثًاً حتى يأتي علي و يستبين الحق.
وخشي أنصار الزبير و طلحة مجيء علي و انضمام الناس إليه , وهم لا يستطيعون صدّه , فبيّتوا جماعة عثمان بن حنيف (والي علي على البصرة ) عِشاءً وهو يصلي بالناس , فَنكلّوا به وعذبوه وحبسوه , ثم استولوا على بيت المال بعد قتلهم لحراسه الأربعين وهم من الموالي , فخرج حكيم ابن جبلة العبدي وأنصاره الى اطراف البصرة يلوذون بها في انتظار علي , وكان جبلة سيدا في عبد القيس ومن زهاد ربيعة ونساكّها , فعلم بهم طلحة , وتبعهم في جزء من جيشه , فقتل منهم سبعون رجلا (منهم خمسون قتلوا صبرا بعد أسرهم ) , وكان من جرّاء هذه الفتنة أن إعتزل الأحنف في قومه من بني تميم في ستة آلاف رجل , ونزلوا وادي السباع , كما اعتزلتهم عبد القيس قبيلة حرقوص بن سعد أحد اشد الثائرين والمحرضين على عثمان لحمايته منهم.

فأنقسم الناس إلى فئات مختلفة , فئة خرجت تنتظر عليا لتلحق به , وفئة انحازت إلى طلحة والزبير , وفئة اعتزلت الطرفين لا تبغي قتال أحد

واقع الحال عند الطرفين قبل بدء الحرب

معسكر الزبير وطلحة :

1- اختلف الزبير و طلحة مع سعيد ابن العاص الأموي يوم خروجهم من مكة , وقال سعيد لهما لمن تجعلونها أن انتصرتم ( يعني بذلك الخلافة ) فقالا نجعلها لأحدنا ممن يرتضيه الناس , فقال لما لا تضعوها في بني عثمان وأنتم تطالبون بدمه ؟ فقال طلحة أنهم أحداثا ولكن نجعلها لمشيخة المهاجرين والأنصار, فقال سعيد : أنا لم أخرج لهذا الأمر, بل لأخرجها من بني عبد مناف.

2- كذلك روى المؤرخون اختلاف الزبير و طلحة أيهما يصلّي بالناس - لِمَ لهذا الأمر من دلالة سياسية عند الناس - فاتفقا بعد جدال أن يقتسما الأمر , فيصلّي الزبير بالناس يوما و محمد بن طلحة في اليوم التالي. (مروج الذهب 2/360)

3- لقي سعيد بن العاص مروان وأصحابه و هم في طريقهم إلى البصرة , بذات عرق , فقال أين تذهبون وثأركم على أعجاز الإبل ؟ ( يعني طلحة والزبير ) أقتلوهم وأرجعوا إلى منازلكم , لا تقتلوا أنفسكم , قالوا نسير لَعلّنا نقتل قتلة عثمان جميعا. ( الطبري 3/38)

4- في طريقهم إلى البصرة نبحتهم كلاب على عين ماء نزلوها , فتشاءمت أم المؤمنين وسألت سائق جملها عن موقعهم , فقيل لها أنه الحوأب , فاسترجعت و أشّتد عليها و قالت : رُدّوني فقد سمعت رسول الله (ص) يقول لنسائه : ( كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحؤاب فلا تكونيها يا حميراء ) , فأتاها الزبير وطلحة و شهد معهم ثُلّة من القوم بأنها ليست بمكان الحؤاب. (مروج الذهب 360)

5- و جاء الزبير من أخبره بأن عمار بن ياسر في جيش الإمام , فأنكر ذلك ، وأرسل من يستطلع له الأمر , فعاد إليه بتأكيد النبأ , فأخذت الزبير رجفة و قال : وآ جدع أنفاه , أنكون الفئة الباغية ؟ وكان قد سمع من رسول ( ص ) قوله ( ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ) _الطبري 3/37 _

6- وحين التقى طلحة والزبير قبل بدء الحرب بينهما قال الإمام للزبير : ما الذي أخرجك ؟ قال الطلب بدم عثمان فقال الإمام : قتل الله أولانا بدم عثمان , أتذكر يوم لقيت رسول الله (ص ) في بني بياضه و أنت معه , فضحكتُ وضحكَ إلي , فقلت أنت : لا يدع ابن أبي طالب زهوه , فقال لك ليس به زهو , ( لتقاتلنه و أنت ظالم له ) فإسترجع و قال : أستغفر الله, والله لا أقاتلك أبدا , فترك قومه وعاد إلى مكة. (مروج الذهب 2/365 – الطبري3/33)

ونرى أن هذه اقرب روايات المؤرخين إلى الحقيقة ، وبان الزبير لم يقاتل عليا ، ولم يشارك في المعركة التي اجمع المؤرخون أنها حُسمت في يوم واحد فقط , ذلك ان مقتل ابن الزبير وقع في وادي السباع غيلة على يدي ابن جرموز .

3- و سمعه مولاه يوما يقول: إن هذه هي الفتنة التي كنا نُحَدّث عنها, فقال له : أتسميها فتنة وتقاتل فيها ؟ فقال ويحك، إنّا نُبْصِرُ و لا نُبْصر, والله ما كان من أمر قط إلا علمت موطئ قدمي فيه إلا هذا الأمر, فأني لا أدري أمُقبل أنا فيه أم مُدبر. ( الطبري 3 /21-22)

4- و يقول علقمة بن وقاص الليثي: أتيت طلحة قبل نشوب المعركة, فقلت : يا أبا محمد أرى أحبّ المجالس إليك أخلاها , و أنت ضارب بلحيتك على زورك , إن كرهت شيئا فاجلسْ , فقال لي يا علقمة انه كان بيني و بين عثمان شيء ليس توبتي إلا سفك دمي في طلب دمه.

5- وحين إلتقى علي بالزبير وطلحة وذكّرهما ما كان , فبدأ بالزبير ثم رجع إلى طلحة فقال له فيما قال : ناشدتك الله أما سمعت رسول الله (ص) يقول لكم : ( اللهم والِ من والاه و عاد من عاداه , و أنت من بايعني ثم نكث , و قد قال الله عز وجل: ومن نكثَ فإنما ينكثُ على نفسه ) فقال طلحة: أستغفر الله ثم افترقا. (مروج الذهب 2/366)

وقيل بأن مروان بن الحكم خشي من طلحة أن يرجع كما رجع الزبير, فلما ابتدأت الحرب رماه بسهم في أكحله فقتله , وقال والله لا طالبت بدم عثمان بعدها , كما نقل بعض المؤرخين بأنه قال لبعض بني عثمان : لقد كفيتكم ثأر أبيكم من طلحة .

نستخلص من هذا ما كان عليه حال أنصار الزبير وطلحة وأم المؤمنين

1- شك في مقدرتهم على مواجهة علي
2- عدم الدراية في استقطاب الأنصار وحشد القوى
3- استعداء القبائل عليهم , بملاحقة من ثاروا على عثمان من أبنائها لقتلهم .
4- الريبة والشك في تحقيق مقصدهم وأهدافهم من الخروج على الإمام .
5- تحالفهم مع فلول الأموين ممن نقمت عليهم الامة .
6- نقضهم للهدنة المتفق عليها مع أهل البصرة وقتلهم رجالاتهم , مما أدى إلى استعداء قبيلتي ربيعة ومضر , بعد قتلهم لأبنائهم ثأرا لمقتل عثمان

معسكر الإمام علي

1- يقين ثابت عند علي ابن أبي طالب بحقه في الخلافة والبيعة له من كثير من الصحابة وأهل المدينة

2- التفاف عدد كبير من الصحابة حوله , وخروجهم للقتال معه وقد أحصى منهم ( ابن عبد ربه في العقد الفريد 3/314 ، والمسعود في مروج الذهب 2/367 أكثر من عشرين من كبار الصحابة ، وتجاوز غيرهم من المؤرخين من عموم الصحابة ما ينوف على السبعين صحابي .

3- رفعهم لشعار عدم الاقتتال مع أي طرف قبل الاحتجاج عليه والسماع منه وتبيان الحق له.

4- عدم تعرضهم للمعتزلين القتال أو غير المحرضين عليهم

5- وحين تسرب الشك إلى بعض أنصار الإمام سأله قائلا : أيمكن أن يكون الزبير حواري رسول الله (ص) و طلحة وأم المؤمنين على باطل , قال له: انك ملبوس عليك إن الحق و الباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال , أعرف الحق تعرف أهله , وأعرف الباطل تعرف أهله.

ولما التقى الجمعان لم يأذن علي لأحد من جيشه أن يبدأهم بقتال حتى يقيم عليهم الحجة , فأرسل لهم القعقاع ابن عمر صاحب رسول الله (ص) فسال أم المؤمنين عما أقدمها ، فقالت : الطلب بدم عثمان والصلح بين الناس ، فسال طلحة والزبير ، أمتابعان أنتما لها أم مخالفان ؟ قالا : بل متابعان ، فقال لهما أنبئاني عن هذا الإصلاح ، فان كان خيرا إتبعناه ، وان كان شرا اجتنبناه ، فقال طلحة قُتل عثمان مظلوما ولا يستقيم الأمر إلا بإقامة الحد على قاتليه ، فقال القعقاع : لقد قتلتم ستمائة رجل من أهل البصرة إلا رجل واحد هو حرقوص ابن زهير ، فغضب له قومه وخالفوا عنكم ، وغضب لمن قُتل قومهم ، فتفرقت عنكم ربيعة ومضر ، وفسد الأمر بينكم وبين الناس , ولو مضيتم في الأمصار تفعلون فيها ما فعلتم بالبصرة لفسد الأمر فسادا لا صلاح بعده ، قالوا : وما ترى ؟ قال التسكين وإجتماع الشمل حتى إذا هدأت الثائرة وأمن الناس واطمأنوا , نظرنا في أمر الذين أحدثوا الفتنة , فقالوا رضينا , فان قبل علي ما تقول صالحناه على هذا الرأي , فرجع القعقاع ليعرض الأمر على الإمام فأجازه , وتوادع الناس واقبل أفراد كل قبيلة من الجيشين يتزاورون ، ولا ينكر أحدهم على الأخر شيئا ، وأملوا جميعا بالصلح بين الناس , لكنّ من خشي الصلح وخرج طلباً للفتنة وطمعاً بالدنيا ضاق ذرعا بما اتفق عليه الطرفين , فقام جماعة من جيش الزبير وطلحة في غفلة من الناس , بالهجوم على ميمنة جيش علي وأوقعت فيها القتل , ولم يأمر علي جيشه برد الاعتداء , بل طلب من فتى من جيشه أن يخرج بين الصفين حاملا كتاب الله يدعوهم لما فيه , فقتلته سهام الطرف الأخر , عندها أمر علي جيشه ببدء القتال , فنشبت بينهم حربا ضروسا لم يشهد مثلها العرب من قبل في عنفها وضراوتها , واستحرّ القتل في الجانبين , وكان أشدّ ما وقع من قتال بينهم ما جرى حول الجمل الذي يحمل أم المؤمنين عائشة , ففئة ترى فيه شعارا لها ما دام قائما , فتقاتل دونه باذلتا أرواحها بين يدي زوجة رسول الله ( ص ), وفئة ترى أن في وجوده ما يمنع النصر , حتى أصبح الموت دونه أو عليه طلبا لكل مقاتل في الجانبين , ودامت الملحمة حتى صرخ بعضهم اعقروا الجمل , رحمة بالناس واستبقاء للأمة .

وانجلت المعركة عن سقوط عشرة ألاف من الفريقين في روايات المؤرخين المقلين , وعن ثمانية عشر ألفا في روايات المكثرين ، كلهم سقط في يوم واحد , وقتل فيها خيار المسلمين أندادهم في الطرف الأخر من الصحابة والقراء والفقهاء , فقد شُبهت الفتنة عليهم حتى لم يعد بعضهم يتبين الحق من الباطل , وفي كلا الحالين كانت مذبحة لم تترك بيتا في البصرة أو الكوفة إلا وأظلها الثكل والندب والحزن , وكان عامة الناس من الجند وقودها وكل كان يرى بأنه يدفع عن الدين ويطلب الحق ويقاتل ويقتل في سبيل الله , وحدهم قادتها كانوا يعلمون لم يقاتلون ويفني بعضهم بعضا .
/]



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 41 / 2165569

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع عمر ياسين   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

34 من الزوار الآن

2165569 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 34


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010