السبت 14 نيسان (أبريل) 2012

غونتر غراس وثمن الجرأة

السبت 14 نيسان (أبريل) 2012 par مأمون الحسيني

ربما لا تستقيم مقاربة السجال الثقافي والأخلاقي الذي افتتحته قصيدة الأديب الألماني الحائز على جائزة نوبل غونتر غراس «ما ينبغي أن يقال» التي شخّص فيها واقع تهديد «إسرائيل»، المزنرة بالأسلحة النووية، للسلم العالمي «الهش»، على خلفية تهديداتها بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران، دون استحضار الرسالة الشهيرة التي وجهها الأديب الفرنسي إميل زولا في عام 1898 إلى رئيس جمهوريته حينذاك فيليكس فور، عبر صحيفة «لورور»، والتي دافع فيها عن القبطان اليهودي في الجيش الفرنسي ألفرد درايفوس الذي اتهم بالتجسس لمصلحة ألمانيا. إذ، وعلى الرغم من أن زولا، الذي يعد مؤسس المذهب الطبيعي في الأدب، كتب نحو عشرين رواية عالمية أبرزها «عائلة جون ماكار» و«السكر» و«جيرمينال»، فإنه كتابته الرسالة «إني أتّهم» أدخلته التاريخ باعتباره أنموذجاً للمثقف الملتزم بقول الحقيقة. لا بل ذهب الأمر بالبعض إلى اعتبار يوم نشر رسالة زولا بمنزلة «اللحظة التاريخية» التي ظهرت فيها كلمة «مثقف»، وشاع استعمالها بصفتها اسما يدل على ما أطلق عليه «الدريفوسيون» الذين تجرأوا على فتح نقاش واسع في الساحة العمومية، حول أولوية القيم الكونية الإنسانية على القيم الخاصة والوطنية والقومية والإثنية، وتجمعوا حول فكرة الدفاع عن «قضية إنسان بريء»، ومواجهة كل المؤسسات العسكرية والمدنية.

ما قاله غراس في قصيدته التي نشرت في ثلاث صحف أوروبية، حيال واجب الحقيقة وضرورة الصدح بها، وتنوير الرأي العام بمعرفتها، ومحاربة الذين يحاولون تزييفها أو التعتيم عليها، لا يختلف، من حيث الجوهر، عمّا حملته رسالة زولا، رغم الغموض والالتباس اللذين أحاطا بـ «براءة» درايفوس التي ترجمت بإطلاق سراحه وإعادة الاعتبار إليه، إذ إن الرجل الذي أعلن تضامنه مع «إسرائيل» بسبب مسؤولية ألمانيا النازية عن المحرقة ضد اليهود، عبّر عن هواجس عشرات ملايين الألمان الذين ما زالت حكوماتهم المتعاقبة تخضع للابتزاز الصهيوني، مادياً ومعنوياً وأخلاقياً، وعن مخاوف مئات الملايين في دول العالم المختلفة، وذلك عندما شجب الحديث «الإسرائيلي» عن إمكانية توجيه ضربات «وقائية» إلى المنشآت النووية الإيرانية ربما تؤدي إلى «القضاء على الشعب الإيراني للاشتباه في أن قادته يصنعون قنبلة ذرية»، وأكد أن القوة الذرية لـ «إسرائيل» «تهدد السلام العالمي الهش في الأساس»، مطالباً بـ «إشراف دائم، ومن دون عراقيل، على الترسانة النووية «الإسرائيلية» والبرنامج النووي الإيراني من قبل هيئة دولية تعترف بها الحكومتان»، وذلك قبل أن يشجب «الصمت المعمم على هذه الوقائع» التي يصفها بأنها «كذبة ثقيلة» لأن «تهمة معاداة السامية ستوجه مباشرة» إلى الذي ينتهك هذا الصمت، وينتقد سياسة بلاده القائمة على تسليح «إسرائيل» وتوريد غواصات إضافية إليها قادرة على إطلاق صواريخ تحمل رؤوساً نووية، ويشير إلى أن ذلك يجعل من ألمانيا «شريكا في المسؤولية» عن أية حرب مدمّرة قد تندلع في المنطقة، وقبل أن يعيد تأكيد أنه لن يسكت بعد الآن، وأنه سئم من «نفاق الغرب» حيال «إسرائيل» «المسؤولة الفعلية عن هذا التهديد».

ومع أن رد الفعل الشعبي الألماني على القصيدة التي عُدّت اختراقاً للمحرّم الذي يحجم أغلب السياسيين والمثقفين عن مقاربته بجدية وصدق، كان مؤيداً لآراء الروائي العالمي، بدليل تنظيم نحو 70 مسيرة متضامنة مع غراس يوم 8/4 في مدن برلين وشتوتغارت وميونيخ وليبزيغ، إلا أن ردود فعل القوى السياسية ووسائل الإعلام كانت مختلفة ومتباينة، وفقا للمصالح والتصنيف الأيديولوجي والتموضع السياسي، ففي حين نأت المستشارة الألمانية بنفسها عن التعليق، واكتفى الناطق باسمها بالقول «من حق الأديب أن يقول رأيه، كما من حق الحكومة ألا تعلق على هذا الرأي»، انتقد سياسيون ألمان كثر، وكذلك معظم وسائل الإعلام في البلاد بشدة الروائي العالمي، حيث اتهمه البعض ب «العداء للسامية» وبـ «تحريف الحقائق»، والبعض الآخر بـ «السذاجة السياسية» أو العجز عن التحليل الصحيح، و«الخلط بين الأسباب والنتائج»، وذلك في مقابل حصول غراس على تأييد مسؤولين في حزب الخضر وحزب اليسار الذي أقرّ غيركه المسؤول فيه، وهو قاض سابق، بأن الأديب الألماني «يملك الشجاعة لقول ما تواصل السياسة الألمانية إخفاءه».

على الجبهة «الإسرائيلية» التي كانت، ويهود العالم، قد هبّا في العام 1999 للاعتراض على اختيار لجنة نوبل للآداب منح جائزتها السنوية لكاتب ألماني من جيل الحرب العالمية الثانية دون أي اعتبار لحقيقة أن روايته «ثلاثية داينتزغ» الشهيرة التي استحق عليها التكريم، هي واحدة من أهم النصوص النقدية للحقبة النازية، وبموازاة إعلان الكاتب الألماني شخصاً غير مرغوب فيه في «إسرائيل»، كون قصيدته محاولة لإذكاء الحقد على دولة «إسرائيل» والشعب «الإسرائيلي»، وفق ما جاء في بيان نائب وزير الخارجية إيلي يشاي الذي نصح لغراس القيام بنشر «أعماله المشوّهة والملفقة في إيران، حيث سيجد شعباً يدعمه»، اندلعت حرب إعلامية شرسة على الأديب الألماني الذي اتهمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالعداء للسامية، وبأنه «كان نازياً»، وذلك بالاستناد إلى أن غراس الذي ولد عام 1927، كان معاوناً في سلاح الطيران الألماني إبان الحرب العالمية الثانية وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، وقد اعتقله الأمريكيون بعد دخولهم إلى برلين وأفرج عنه بعد اقل من عام.

وبدلاً من أن يقرّ «الإسرائيليون» بأن دولتهم ذهبت بعيداً في سقوطها الأخلاقي، وأنهم فقدوا تعاطف العالم معهم إلى حد أن أصدقاءهم باتوا يخجلون من صداقتهم وأخذوا يبتعدون عنهم، فإنهم قرروا، فيما يبدو، الهروب إلى الأمام وشن حملة ابتزاز إضافية على حكومة المستشارة ميركل الصديقة لهم، والتي كانت صرّحت في «الكنيست» عام 2008 أن أمن «إسرائيل» هو جزء من أسس السياسة الخارجية الألمانية، وعلى أغلبية الشعب الألماني، حيث رأى افرايم زوروف مدير معهد سايمون فايزنتال في «إسرائيل»، والمتخصص في ملاحقة النازيين السابقين، في بيان أصدره، أن «غراس يتكلم بالنيابة عن مجموعة كبيرة من الألمان يبدون محترمين في الظاهر، لكن لديهم آراء معادية للسامية لا يمكنهم التعبير عنها في ألمانيا، وإنما يمكن توجيهها ضد «إسرائيل» التي أصبحت رمزاً لليهود المبغوضين»، فيما أوضح يوآف سبير، مراسل صحيفة «معاريف» في ألمانيا، الأمر أكثر، عندما رأى أن «المناكفة بين غراس و«إسرائيل» ليست سوى طرف الجبل الجليدي لتغيير عميق يمر به المجتمع الألماني»، وأن «سد السلامة السياسية آخذ بالانهيار في أعقاب الثقب الصغير الذي أحدثه غراس» بدليل أن يعقوب أوكشتاين، ابن البيولوجي مارتين فلزر، الذي يعد من أهم مقرري الرأي العام في ألمانيا المحرر المسؤول للمجلة الاعتبارية «دير شبيغل»، كتب أن «غراس حررنا من الظل الذي ألقته كلمات ميركل في الكنيست»، ما يوجب أن «يكون أمر الساعة هو الحصول من ألمانيا على ما لا يزال ممكنا الحصول عليه، سواء كانت هذه غواصة سادسة وأخيرة، أم مساعدة في مجالات أخرى» لأن «الزمن الذي لا يزال تحت تصرف «إسرائيل» آخذ في النفاد».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2178109

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2178109 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40