الذاكرة الفلسطينية ليست مثقوبة، ولا تخضع لقانون التقادم أو التقدم في العمر، إنها تكتسب لمعانها وسطوعها الإنساني من خلال التراجيديا المديدة التي يكتبها الفلسطيني منذ أكثر من نصف قرن بدمه الذي لم يترك الوحش «الإسرائيلي» القليل من الوقت لكي يجف.
الذاكرة الفلسطينية ليست مثقوبة، ولكن عندما تدب الشيخوخة السياسية والشيخوخة الوطنية أيضاً في أجساد وأرواح بعض السياسيين الفلسطينيين، فإنهم يقومون بحفر ثقوب سوداء في هذه الذاكرة التي يجب ألا تنام أبداً ويجب ألا يدب فيها الهرم والقِدم، حتى لو أصرّ بعض الفلسطينيين على حشو آذانهم بالطين والعجين ووضعوا على عيونهم لفافات سوداء لكيلا يروا شيئاً من التاريخ وهو يصرخ، وما أصعب أن يتحول التاريخ إلى كائن مذبوح من الرقبة وصراخه يملأ الأرض.
ما مناسبة كل هذا؟
الأرض الفلسطينية ما زالت تتكلم بالعربي، والذاكرة ما زالت على قيد الحياة، فقبل أربعة وستين عاماً في وضح الليل وفي وضح النهار، وفي مثل يوم أمس التاسع من إبريل/نيسان عام 1948، كانت قرية دير ياسين الواقعة إلى الغرب من مدينة القدس تغرق في الدم على يد عصابتين صهيونيتين مسلحتين حتى العظم بالسلاح الأسود والسلاح الأبيض، وستكون هذه المذبحة المرعبة التي راح ضحيتها أكثر من مئة شهيد، بينهم أطفال ونساء وكبار في السن حدثاً يشيب له الرأس، فالقرية المنكوبة تعرّضت للذبح من دون أن يكون لها نشاط مقاومة كما يفيد «كارل صباغ» في كتابه «فلسطين: تاريخ شخصي»، وبكلمة ثانية قد تكون مذبحة دير ياسين هي الأولى من نوعها لدى الفلسطينيين، أي أنها كشفت بالعين المجردة أن عصابات الاحتلال الصهيوني ستستخدم كل ما من شأنه أن يبيد الفلسطيني ويمحوه عن وجه الأرض، وهذا ما جرى حقاً من ستين عاماً وحتى الآن .. القتل هو القتل ويجب ألا يتوقف عند حد في الرؤية الاحتلالية «الإسرائيلية»، ومع ذلك يهرول من يهرول إلى السلام وشبه السلام، ويختبئ من يختبئ وراء إصبعه مع بعض الفلسطينيين الذين لا نعلم إن كانوا قد تذكروا هذه المذبحة في غمرة انقسام وانكسار سياسي يستمرؤه ويتلذذ به بعض المسؤولين الفلسطينيين بدم مثلج.
من يتذكر اليوم منظمة الأرجون ومنظمة وشتيرن اللتين نفّذتا المذبحة؟
ومن يذرف دمعة واحدة على ذلك الطفل الفلسطيني الذي وُلِدَ في ذلك الصباح وقتل في ذلك الصباح؟
لا أحد .. لا أحد .. فقد ضاعت البلد.