الاثنين 9 نيسان (أبريل) 2012

حصاد ربيعي مر

الاثنين 9 نيسان (أبريل) 2012 par نقولا ناصر

الطوارق الليبيون تلفظهم «ثورة الربيع العربي» خارج ليبيا ليبحثوا عن ملاذ آمن لهم في دولة مستقلة ينشدونها في شمال مالي، ومثلهم قبائل التبو التي تعود أصولها إلى اليمن والتي تجردها هذه الثورة من أصولها العربية ومن تاريخ طويل من العيش المشترك مع عرب ليبيا ليعلن قادتها أنهم قد يبحثون عن الخلاص بالسعي إلى دولة مستقلة لهم، أسوة بجمهورية جنوب السودان التي انسلخت عن وطنها الأم بعملية قيصرية أمريكية مررت هذه السابقة الاستراتيجية في الوطن العربي الكبير تحت ساتر كثيف من «الربيع العربي» قبل أن تسلم المولود الجديد إلى حاضنته «الإسرائيلية» لتكون جوبا الدولة الوحيدة في العالم التي تعلن أنها سوف تفتح سفارتها في القدس المحتلة، وليس في «تل أبيب»، بينما تعلن القيادة البرزانية لكرد العراق أن «الظروف ملائمة.. أمام تأسيس دولة كردستان» لكن ما يمنع إعلانها هو عدم توفير ضمانات «الحماية.. والاستمرار» لها بعد إعلانها (مسرور مسعود البرزاني مطلع آذار الماضي).

لكن ليبيا بعد «الثورة» قد تحولت إلى نموذج مصغر لـ «النزاعات العرقية والقبلية» التي فجرها «الربيع العربي» بين «العرب» والأقليات العرقية والقومية والدينية التي كانت تعيش بين ظهرانيهم وتتعايش معهم عبر مئات السنين، والمجهر الإعلامي الذي يغطي «الربيع» العربي مهللاً له، بألسنة عربية وغير عربية، يصور «الربيع العربي» كفرصة تاريخية سانحة لهذه الأقليات كي «تتحرر» من «استبداد» الأكثرية العربية المسلمة.

ففي ليبيا اليوم تندلع الاشتباكات الدموية بـ «الأسلحة الثقيلة» بين «الأقلية الأمازيغية وجيرانهم العرب» في الجبل الغربي، وفي الكفرة وسبها في الجنوب يعلن قادة قبائل التبو «جبهة التبو لانقاذ ليبيا» ملوحين بالانفصال بعد معارك دامية مع «العرب» الذين «هجروهم ودمروا بيوتهم فوق رؤوسهم»، ولا تزال مدينة تاورغاء مهجورة بعد أن هرب أكثر من ثلاثين ألفاً من أهلها الطوارق من انتقام الثوار «العرب» من مصراتة المجاورة لأن قوات الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي كانت تقصف مدينتهم منها، الخ.

وتشهد الاتهامات للعرب بـ «التطهير العرقي» و«العنصرية» ازدهاراً غير مسبوق في موسم «ثورة الربيع العربي» في ليبيا، لتضاف إلى اتهامهم بـ «الإبادة الجماعية» و«الجرائم ضد الإنسانية» في دارفور السودانية و«حلبجة» العراقية.

في السابع والعشرين من كانون الثاني عام 2004، نشرت اللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان، وهي منظمة غير حكومية تتمتع بوضع استشاري خاص في المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، تقريراً جاء فيه أن دراسة للجماعات العرقية في العالم العربي (عام 1990) أظهرت بأن حوالي ثلاثين مليوناً من هذه الجماعات تتركز بصفة رئيسية في أربع مناطق هي أولاً الأكراد في شمال العراق وشمال شرق سورية، وثانياً «الإسرائيليون» في فلسطين المحتلة، وثالثاً البربر في المغرب العربي بشمال إفريقيا، ورابعاً الأفارقة في جنوب السودان وغربه.

ويلاحظ الآن أن لـ «الإسرائيليين» دولتهم المستقلة، وحصل الأفارقة السودانيون على دولتهم المستقلة في الجنوب مؤخراً، ولأكراد العراق دولة أمر واقع تنتظر الفرصة السانحة لإضفاء الصفة الرسمية عليها، فأين ستقوم دولة من وصفتهم «اللجنة الإسلامية» بـ «البربر» في شمال إفريقيا، وهل سيكتفي الطوارق بدولة لهم في شمال مالي تطالب لاحقاً بأجزاء من جنوب ليبيا أم سيتحالفون مع الأمازيغ والتبو ليستقووا بالغرب من أجل إقامة دولة «فدرالية» في ليبيا يضمنون فيها وضعهم كأقلية «غير عربية» ضمن «حكم ذاتي» من نمط كردستان العراق يتحول إلى «بيضة القبان» بين قبائل عربية متنازعة ليستحوذوا على رئاسة دولة فدرالية موحدة لا سلطة مركزية لها أسوة بتجربة أكراد العراق في ظل الاحتلال الأمريكي، كي «تدعم» هذه الدولة لاحقاً المطالبة بوضع مماثل لطوارق الجزائر والمغرب و«أفارقة» موريتانيا؟!

وتقرير هذه المنظمة «الإسلامية» الذي يصنف «الإسرائيليين» الذي استوطنوا فلسطين بالغزو والاحتلال والقوة القاهرة باعتبارهم من «الأقليات» العرقية في العالم العربي ليس إلا مجرد عينة من غزو ثقافي يستهدف تجريد الوطن العربي من هوية أكثريته العربية الإسلامية، لكنه بهذا التصنيف لـ «الإسرائيليين» لا يترك مجالاً للشك في الهدف السياسي البعيد من تسليط الأضواء على الأقليات ومن خلق ظروف موضوعية تدفعها بوعي أو دون وعي هي و«العرب» إلى الأخذ بخناق بعضهم البعض حد الفصل بينهم، باسم «الربيع العربي»، بأنهار من الدماء والثارات على أمل أن يجعل سفك الدماء من المستحيل على الطرفين العودة إلى الوضع الراهن السابق من العيش المشترك والمصاهرة والنسب، أسوة بتجربة جنوب السودان الذي يتحول تدريجياً اليوم إلى قاعدة «إسرائيلية» تحاصر القلب المصري للعرب وتهدد شريان حياته في أعالي نهر النيل.

إنها لمفارقة حقاً أن يحدث كل ذلك في موسم سياسي يوصف بـ «الربيع العربي»، وإنها لمفارقة مأساوية أن يحدث ذلك ولهذا «الربيع» قيادات «إسلامية»، فدين التوحيد الذي وحَّد «قبائل» العرب في بوتقة الإسلام واعترف بـ «أهل الكتاب» الموحدين وأنبيائهم جزءاً من عقيدته التي أسست لأول مرة في العالم لمجتمع متعدد الأديان والأقوام والأعراق والألوان لا فرق بينهم إلا بالتقوى ولا هداية لهم ولغيرهم إلا بالتي هي أحسن، والذي اختار الباري سبحانه نبياً عربياً وقرآناً عربياً وكعبة عربية وحاضنة عربية للدين الحنيف ينتشر منها إلى أرجاء المعمورة كافة.. إن دين التوحيد هذا يجد اليوم - تحت مظلة «ربيع عربي» يحميه حلف الناتو وتروج له الولايات المتحدة الأمريكية ويشن حرباً شعواء ضد القومية العربية وتاريخها وفكرها ودعاتها ورموزها وطموحاتها - من يعملون باسمه للفرقة لا للوحدة، وللفصل بين العروبة وبين الإسلام، وبين العرب وبين المسلمين، ليتفرقوا قبائل شتى، عربية وغير عربية، بعد أن توحدوا في أمة واحدة، منها قبائل تجاهر بإسلام مجرد من عروبته ربما لن يمضي وقت طويل قبل أن يخرج منها «مارتن لوثر» مسلم يدعو إلى الفصل بين القرآن الكريم وبين اللغة العربية التي أنزل بها، وهذه جميعها أهداف أمريكية صهيونية، لتتحقق خشية سيد قطب من «إسلام أمريكاني»، كما كتب في مطلع خمسينيات القرن العشرين الماضي.

من المفترض أن تثير «أسلمة» المشهد العربي تفاؤلاً بتدارك الوقوع في الفخ الأمريكي، لكنها لا تفعل، بل إنها تنذر بأن تكون أسلمة تهيئ شروطاً موضوعية لصراع طائفي مع الجمهورية الإسلامية في إيران له تداعياته الواضحة على السلم الأهلي والأمن الوطني والقومي في الدول العربية ذاتها، وصراع طائفي ضد آخر دولة عربية تعلن العروبة ووحدة أمتها عقيدة لها في سورية.

فعلى سبيل المثال، فإن جماعة الإخوان المسلمين بدل أن تعزز تفاؤل العرب والمسلمين بوصولها إلى الحكم في عدد من الأقطار العربية، محتكرة له أو شريكة فيه، بإرسال وفد إلى طهران أو إلى دمشق يستهدف تعزيز وحدة العرب والمسلمين، وتبديد التداعيات الطائفية والمذهبية التي ينفخ الأجانب في نارها، نجدها ترسل وفداً يضم عشرة أعضاء من الأردن ومصر وتونس وليبيا والمغرب، بحجة المشاركة في مؤتمر عنوانه «الإسلاميون في السلطة.. آراء من الداخل» نظمه «معهد كارنيجي» الأمريكي، ليجتمع الوفد «على هامش» هذا المؤتمر في واشنطن العاصمة يوم الأربعاء الماضي مع نائب وزيرة الخارجية الأمريكية ويليام بيرنز ومجلس الأمن القومي الأمريكي وقيادات أمريكية معروفة بمواقفها المعادية للعرب والمسلمين مثل جون ماكين، وليطمئن مثلاً عبد المجيد درديري عضو كتلة «الحرية والعدالة» (الجناح السياسي للإخوان) في البرلمان المصري مضيفيه الأمريكان بأن إخوان مصر لن يستفتوا شعبهم على معاهدة السلام مع دولة الاحتلال «الإسرائيلي»، فذلك أمر «متروك للشعب المصري» على حد قوله، وليطمئنوا جميعهم مضيفيهم بأن الإخوان ليسوا في صراع مع الولايات المتحدة التي خاضت ثلاث حروب ضد العرب والمسلمين في أفغانستان والعراق وليبيا خلال أقل من عشر سنوات مضت، ناهيك عن حروبها غير المعلنة مباشرة أو بالوكالة في لبنان والصومال واليمن وسورية وإيران.

إنه حصاد مر حقاً لـ «الربيع العربي».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2165995

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2165995 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 25


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010