الخميس 5 نيسان (أبريل) 2012

أزمة منتصف العمر عند اليهود

الخميس 5 نيسان (أبريل) 2012 par جميل مطر

لم أستبعد يوماً أن يكون في المؤسسة الحاكمة الأمريكية من يتمنى لو أن المؤسسة تحررت بعض الشيء من نفوذ الجماعة المتطرفة المسيطرة على جماعات الضغط الصهيونية، وبخاصة في منظمة «إيباك». أعرف أن واشنطن مستفيدة من وجود تنظيمات صهيونية قوية في الولايات المتحدة، تماماً كما أنها مستفيدة من وجود «إسرائيل» قوية في «الشرق الأوسط»، ولكن يبدو أن هناك من يسعى لخلق نوع من التوازن بين الفائدة العائدة إلى واشنطن من وجود هذا التنظيم القوى للجالية اليهودية، وهي على كل حال فائدة متناقصة، وبين الأضرار المترتبة على سوء استخدام المنظمات الصهيونية لقوتها ونفوذها، وهذه أضرار متزايدة.

إن صح ما بدا لي فأغلب الظن أنه ما كان يمكن أن يفكر تيار في المؤسسة الحاكمة في إعادة النظر في العلاقة مع القيادات الصهيونية الأمريكية إذا لم تكن بعض قيادات الحكم في أمريكا شعرت بأن خلافات حقيقية داخل التنظيمات اليهودية بدأت تؤثر في وحدة العمل الصهيوني، وأن بعض هذه الخلافات يدور حول حق قيادة يهودية أمريكية بعينها فرض إرادتها على الشعب اليهودي في أمريكا، والانصياع كاملاً لقرارات تصدر في «إسرائيل» بعضها يمس أمن يهود أمريكا ومستقبلهم، من دون الرجوع إليهم.

دفع تعدد الخلافات داخل المجتمع اليهودي الأمريكي في السنوات الأخيرة بقطاع مهم من قادة اليهود إلى إنشاء جماعة ضغط يهودية جديدة تحمل شعار «نؤيد «إسرائيل» ونؤيد السلام». بمعنى أن دعم يهود أمريكا «إسرائيل» يجب أن يرتبط بدعم عملية السلام. كان منطقياً أن يظهر بين يهود أمريكا تيار منشق عن التيار الغالب الذي هيمن طويلاً وفرض على اليهود دعم «إسرائيل» غير المشروط. افترضوا أن اليهودي الأمريكي مصاب بالعمى والصمم، فهو لا يرى أو يسمع كل ما يتعلق بأخطاء وممارسات غير أخلاقية تمارسها السلطات «الإسرائيلية». كما دأب قادة هذا التيار الغالب والمهيمن على اتهام اليهودي المتشكك أو المنشق أو الناقد بأنه إما أن يكون مصاباً بمرض كره الذات، أو الشك فيها، وإما خائن لأمته اليهودية أو عميل للعرب، أو أنه شديد الحساسية إلى حد القلق على مشاعر المواطنين الأمريكيين من غير اليهود، وهم جيرانه في السكن وزملاؤه في العمل، الذين يتأففون من تجاوزات «إسرائيل» في الأراضي الفلسطينية وسياساتها الخارجية.

في هذا السياق، نشأت جماعة «جي ستريت»، لتعرض على «إسرائيل»، وربما للمرة الأولى، التأييد بمقابل. تقول لـ «إسرائيل»، «نحبكم ولكن بشروطنا .. نحبكم إذا تصرفتم حسب ما نراه نحن مناسباً ومفيداً للشعبين اليهودي «الإسرائيلي» واليهودي الأمريكي». يتناقض هذا العرض مع العرض الذي تمرست منظمة «إيباك» على تقديمه لحكومة «إسرائيل»، وهو «ندعمكم من دون شروط، ونضع أمريكا تحت أقدامكم».

نشأ تنظيم «جي ستريت» منذ نحو أربع سنوات وعقد ثلاثة مؤتمرات، آخرها المؤتمر الذي عقد في الأسبوع الأخير من مارس/ آذار في مدينة واشنطن في المكان الذي عقدت فيه «إيباك» مؤتمرها السنوي الأخير. ولكن شتان ما بين المؤتمرين.

إذ بينما حضر مؤتمر «إيباك» الذي عقد قبل مؤتمر «جي ستريت» بأيام قليلة أكثر من 13 ألف مشارك، كانت القاعة التي قامت بتأجيرها قيادة «جي ستريت» تتسع لعدد لا يزيد على 2500 مشارك. وبينما حضر مؤتمر «إيباك» شمعون بيريز رئيس الكيان وبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء، لم يحضر من «إسرائيل» لمؤتمر «جي ستريت» سوى نائب سفير «إسرائيل» في واشنطن الذي تعمد الإساءة لأعضاء المؤتمر والسخرية منهم. وبينما حضر من المسؤولين الأمريكيين في افتتاح أعمال مؤتمر «إيباك» باراك أوباما رئيس الجمهورية الأمريكية، حضر عن الدولة في مؤتمر «جي ستريت» أحد مستشاري الأمن القومي في مكتب بايدن نائب رئيس الجمهورية، وحضرت فاليري جاريت كبيرة مستشاري البيت الأبيض. ومع ذلك كان لابد للمراقبين مقارنة ممثلي الحكومة الأمريكية في المؤتمر الثالث لجماعة «جي ستريت» بممثليها في مؤتمرها الثاني الذي عقد عام 2011 حين كلف الرئيس أوباما دنيس روس تمثيل الحكومة في المؤتمر ويومها أدى كعادته دوراً لئيماً متعمداً إلقاء اللوم في فشل عملية السلام على العرب، وكرر مقولاته الصهيونية الخبيثة ومنها أن القضية الفلسطينية لا تعد لب الأزمة في «الشرق الأوسط»، وإنما دكتاتورية الحكام العرب واستبدادهم.

تابعت تطور جماعة «جي ستريت» وكتابات قادتها، ومنهم هنري سيغمان الذي يكتب لـ «الشروق». أستطيع من خلال هذه المتابعة القول إن «جي ستريت» قررت مؤخراً الانتقال من موقع البناء وترتيب البيت الداخلي إلى موقع الهجوم وطرح الأفكار بشجاعة وجرأة. أستطيع أيضاً المجازفة برأي قد لا يحوز دعماً كبيراً، وهو أن قطاعاً مهماً في الإدارة الأمريكية ربما يكون قد قرر تقديم الدعم المناسب لهذه المنظمة لتحقق من وراء هذا الدعم أهدافاً تناسب رؤى باراك أوباما وبعض معاونيه وتيار معتدل في الإدارة الأمريكية.

يحكي آلان وولف، أحد كبار المفكرين اليهود الذين انشقوا عن الأغلبية المقتنعة أو المجبرة على الاعتقاد بأن «إسرائيل» دائماً على حق، أن رجل دين يهودياً أسس في شيكاغو عام 1973 منظمة أطلق عليها اسم بيريرا Breira تدعو إلى قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وأن هذا الحبر اليهودي واسمه هيرشيل جند في حركته شاباً أمريكياً أسمر اللون يحمل اسم باراك حسين أوباما. يعتقد وولف أن أوباما بدا في ذلك الحين متفهماً هذه النهضة الليبرالية في الحركة اليهودية، وكان هو نفسه معروفاً في الأوساط اليهودية في شيكاغو بأنه «في قلبه صهيوني بميول ليبرالية»، بمعنى أنه كان يعتقد أن سلاماً دائماً في «الشرق الأوسط» سيتطلب دعماً من جانب يهود أمريكا والعالم للدولة الفلسطينية المستقلة.

إن صح ما يقوله آلان وولف، الأستاذ بكلية بوسطن، فسيكون ممكناً القول إن أوباما لا شك يشعر الآن بخيبة الأمل لأن الثورة الليبرالية التي انتظر نشوبها داخل الحركة الصهيونية الأمريكية لم تنشب، ولعل هذه الخيبة هي التي تفسر ما يقال عن أن أوباما يعترف أحياناً للمقربين بأن بنيامين نتنياهو المتحالف مع الكونغرس الأمريكي أحبط آماله في تحقيق السلام الذي كان يحلم به منذ أيام صباه في شيكاغو وأيام شبابه في هارفارد.

شهدنا مؤخراً، وسنشهد قريباً جداً، عدداً من الكتب والأفلام التسجيلية والمقالات، تكشف عن مدى الانشقاق الحادث داخل الجماعة الصهيونية الأمريكية، وهو ما يعبر عنه آلان وولف في كتابه بعنوان «الشر السياسي» Evil Political بعبارة «قطرة انشقاق تتحول إلى نهر متدفق». أذكر مثلاً من أسماء المنشقين البارزين اسم Robbins Bruce الأستاذ بجامعة كولومبيا الذي صور فيلماً تسجيلياً عن قادة اليهود الأمريكيين الذين غيروا موقفهم من «إسرائيل» مؤخراً، ويظهر في الفيلم من ينادي بضرورة أن يتبنى اليهودي الأمريكي استراتيجية يعترف بمقتضاها بأخطاء «إسرائيل» لتكون مساعدته لها صادقة وقائمة على أسس قوية. من هؤلاء المفكرين يبرز إسم Gorenberg Gershom صاحب كتاب تفكيك «إسرائيل» وهو كاتب «إسرائيلي» من أصل أمريكي، وبيتر بينهارت الأستاذ في العلوم السياسية بجامعة المدينة بنيويورك مؤلف كتاب «أزمة الصهيونية»، وهو الكتاب الذي أحدث ضجة كبيرة في الأوساط الأمريكية، حيث إن بينهارت شخصية معروفة في دوائر المثقفين الأمريكيين بحكم عمله لمدة طويلة رئيس تحرير مجلة «نيوريبابليك» المتعاطفة دوماً مع «إسرائيل».

الجدير بالذكر والدافع للتقدير أن منظمة «جي ستريت» طلبت طرح قضيتها كجماعة ضغط أمريكية جديدة على «الكنيست» «الإسرائيلي». وبالفعل سافر وفد برئاسة Ben Ami الرئيس الحالي للمنظمة وتشكلت لجنة للاستماع إلى العرض رأسها النائب داني دانون الذي أعلن في نهاية الجلسة أن الكنيست سيعد مشروع قرار يعلن أن ««جي ستريت» منظمة مؤيدة للفلسطينيين، ويطلب منها تطهير نفسها أولاً من العناصر المناهضة للصهيونية ويدعو حكومة «إسرائيل» إلى الامتناع عن التعاون معها». وبالفعل لم تتأخر استجابة نتنياهو لبيان دانون إذ رفض استقبال وفد المنظمة. وقد صرح بن آمي رئيس الوفد عقب خروجه من «إسرائيل» بقوله: «ما سمعناه في الكنيست جزء من اتجاه أعم وأشمل يكشف عن حقيقة أن «إسرائيل» تنقلب على نفسها وروحها. فهي تعيد الآن تعريف من هو اليهودي، ومن هو المواطن، ومن هو الصديق»؟

غابرييل بيتربيرغ كاتب يساري معروف لقراء مجلة «اليسار الجديد» المشهورة منذ نشأتها في عام 1960، وهو أستاذ للتاريخ في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، كتب ينتقد نظرية «الشعب المقهور الذي تعلم كيف يحمي نفسه بإقامة دولة خاصة به». يقول إن هذه النظرة الرومانسية سوف تظل عائقاً أمام القبول بـ «إسرائيل»، فـ «إسرائيل» نشأت «بعقلية وتراث الاستعمار الاستيطاني الأبيض»، ومشروعها لا يختلف عن المشروع البريطاني لاستيطان أستراليا وإبادة شعوبها الأصلية. المفيد في كتابات بيتربيرغ أنها تستند إلى تقاليد في الكتابة عن الصهيونية تعود إلى مفكرين كبار مثل Benjamin وLazare والفيلسوفة الكبيرة Arendt Hanna. وعلى المنوال نفسه يصدر في يوليو/ تموز المقبل كتاب جوديث باتلر الأستاذة بجامعة كاليفورنيا بيبركلي بعنوان «الطرق المتباعدة»، تقول فيه «إن الصهيونية لا تتساوى مع اليهودية بل وتقف بالتضاد مع جميع القضايا الرئيسية التي انشغلت بها عبر القرون التقاليد اليهودية العلاقة مع غير اليهود مشاعر حيوية في منظومة الأخلاق اليهودية، بمعنى أن من غير الحكمة أن يكون الإنسان يهودياً من دون وجود بشر آخرين من غير اليهود». والمعروف أن الفيلسوفة هنا آرندت كانت تقول، «إن اليهود يفعلون ما كان يفعله النازيون، يختارون عدم العيش مع بشر بينهم، وهذا ليس من حقهم. يجب ألا يختاروا مع من يعيشون ومع من لا يعيشون. وهذا للأسف هو لب العقيدة الصهيونية، لذلك ولدت «إسرائيل» دولة «لا ليبرالية»، ولا يمكن أن تكون ليبرالية في يوم من الأيام طالما تمسكت بالصهيونية».

واحد من هؤلاء الكتاب كتب عبارة جذبت انتباهي إلى مغزاها العميق. كتب يقول إن «إسرائيل» وبعض قادة اليهود يمرون الآن بأزمة أشبه ما تكون بأزمة منتصف العمر التي يتعرض لها معظم الرجال في مرحلة معينة من الحياة. يقول علماء النفس عن هذه الأزمة أن الرجل في مرحلة معينة يشعر بحاجة ماسة إلى تصحيح مسيرة حياته لتعويض ما فاته، أو التوقف قليلاً لتقويم الإنجازات والإخفاقات وحصر الإيجابيات والسلبيات، وأن بعض الرجال ينتهي به الأمر في نهاية هذه الأزمة إلى إعلان الثورة على النفس والمعتقد ونمط الحياة واختيار حياة جديدة، وأن بعضاً آخر منهم ينتهي به الأمر إلى الانعزال والاكتئاب وربما الجنون.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2166106

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

23 من الزوار الآن

2166106 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010