الأربعاء 4 نيسان (أبريل) 2012

أرض تُحارب مع أَهْلِها

الأربعاء 4 نيسان (أبريل) 2012 par خيري منصور

تِلْك نظريّة بَلْ قاعدٌة ذَهبيّة للحُروب في التاريخ منذ اندلعت، فالأرْضُ تُقاتل فِعلاً مع أصحابها لكن ليس بالمعنى الرومانسي بحيث تَسْتدرج أقدامهُم إلى الانزلاق، أو تشْهر ما في باطِنها من اللّهب لإحراقهم، والمقصود بهذه القاعدة هو أن أهل البلاد أدرى بشعابها، وفي الحروب الحديثة كانت الحرب الفيتنامية نموذجاً في هذا السِّياق.

وحين تجمَّد الجنود الألمان في ضواحي موسكو أو على بعد عشرين كيلو متراً من قبر الكاتب ديستويفسكي كما قال ستالين في خطاب تحريضي على المقاومة، كان ذلك بفعل الأرض والمناخ، لكن نجاة الجنود الروس من هذا المصير ليست بسبب قرار استثنائي من مناخ روسيا وجليدها بقدر ما هو دراية هؤلاء وَتَأقْلمهم مع المناخ الذي وُلدوا فيه وَتوارثوا عَنْ أسلافهم سُبُلَ التَّأقْلم والوقاية.

لكن هذا المفهوم لا يخلو تماماً من بُعْده الرمزي، لقناعة الناس بأن الأشجار التي زرعوها بأيديهم وسقوها بدمهم وعرقهم ودموعهم لن تتخلى عنهم، لكن الشجرة لا تشترط على من يلوذ بظلالها أن يكون عاشقاً أو طفلاً متعباً أو أفعى. رغم إحساسي الشخصي بأن جرحاً قديماً في جيني كان سببه كما تخيّلْت في طفولتي، أن الشجرة التي تسلقتها بحثاً عن الأعشاش فيها صَدَّتني لأنها كانت تدافع عن أعشاشها.

ولا بأس أن يتحول الرمزي إلى واقعي، فثمّة تجارب أجراها فيشر على شعوب بدائية، كانت تعتقد أن الغناء ورقصة معينة تؤديها ضمن طقوس الزراعة تضاعف المحصول، يقول إن هذا ليس صحيحاً من الناحية العلمية، لكنه يصح أخيراً إذا تحول الغناء إلى تحفيز للعمل، وأضاف طاقة إلى الاحتمال والصبر، وفي النهاية اكتشف أن المحصول يتضاعف بالفعل بفضل تلك الطقوس، لكن ليس منها بقدر ما هو الانشحان بقوتها.

وحين كتب الجزائري الراحل الطاهر وطار في إحدى رواياته، أن ما يتبقى من النهر أخيراً وبعد جفافه هو حجارته والحصى الهاجع في مجراه، كان يعني ما هو أبعد من هذه الحقيقة الفيزيائية، فقد يُدَمَّرُ بَلَدٌ بكامله لكنه لا يُهزم، تماماً كما أن الصّياد العجوز في رواية همنغواي «العجوز والبحر» اشتبك لأيام مع سمكة قرش عملاقة، ثم استطاع الحصول عليها لكن بعد أن تحولت إلى هيكل عظمي، فقال الصّياد العجوز، إن الإنسان قد يحطم لكنه لا يُهزم.

وهناك بعد آخر لهذه القاعدة الذهبية التي تقول إن الأرض تقاتل مع أهلها، هو الذاكرة، فالغزاة لا ذاكرة لهم في الأرض التي يتَوّرطون في شعابها، والذاكرة في النهاية هي التاريخ، إذاً، فالجغرافيا هي حليفة التاريخ عندما تَأزف لحظة المقاومة، خصوصاً إذا كان التَّزاوج بينهما قديماً وعريقاً وأَنْجب شعباً نِصْفه من تاريخ ونصفه الآخر من جغرافيا، وهذا ما يُعبَّر عنه بمصطلح مركب وعلمي هو الزَّمَكان، أي الزمان والمكان في حالة تداخلهما وانْصِهارهما.

إن الأرض التي تُقاتل مع أَهلها ذات ذاكرة أيضاً، فهي تَضّم في باطنها رفات آباء وأجداد وأسلاف وقد يكون شجرها من رحيقهم.

هنا يَصْعَدُ الواقعي إلى الرَّمز، ويتجسد الرمز ليصبح حقائق من لحم وعظم وتراب وشجر، وما من أرض خانت أهلها، لكن هناك أدلّة خانوا أرضهم، لكنهم خسروا أنفسهم حتى القيامة.

وقد يسخر جنرال صهيوني أو محتلّ مهما كانت جنسيته من هذه القاعدة، خصوصاً في حروب ما بعد الحداثة وما فوق الأرض، أي الحروب الجوية التي يكون الانتصار فيها حبراً على ورق وليس دماً على عشب إذا لم يترجّل المنتصر ليلامس الأرض، وعندئذٍ يكون الاختبار العسير.

لكن، أَلَيْس من حَقّ الذين يموتون دفاعاً عن الأرض أن تحارب الأرض معهم؟ قد يبدو هذا مجرد منطق افتراضي، لكن الغزاة غالباً ما يعودون إلى حيث أتوا، لأن الشجر الذي يقطعونه له حفيف لا يفهمونه، ولأن تراب وَعُشب وشجر أي أرض هو أسرار من تفرغوا للسهر في باطنها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2165321

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165321 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010