الأربعاء 4 نيسان (أبريل) 2012

تسع سنوات من استباحة التاريخ

الأربعاء 4 نيسان (أبريل) 2012 par د. عبدالحسين شعبان

لم يكن ما حلّ بالعراق في العام 2003 حدثاً عابراً أطاح نظاماً استبدادياً ليحلّ محلّه نظام آخر، بل كان تدميراً للدولة العراقية المعاصرة بمبرر التفكيك وإعادة البناء، وخلال الفترة (من 13 أيار/مايو 2003 ولغاية 28 حزيران/يونيو 2004) حكم العراق حاكم مدني أمريكي مطلق الصلاحيات يُدعى بول بريمر، الذي سيبقى اسمه يتردد لعقود وربما لقرون من الزمان، لما تركه من تأثيرات سلبية وسيئة في الدولة والمجتمع، وفي حاضر العراق ومستقبله.

وإذا كان ما حدث أقرب إلى الخراب الشامل، لاسيما للبنى التحتية والهياكل الارتكازية وتدمير للمرافق الاقتصادية والحيوية، وإثارة وتأجيج النزعة الطائفية وتقنين مشروع المحاصصة، لكن ذلك ليس كامل الصورة على قتامتها. فالخسائر المادية يمكن تعويضها أو حتى التخلّص من أعبائها، وإنْ كانت تحتاج إلى حقبة زمنية كاملة، لكن الجانب الأكثر إيلاماً، إضافة إلى الجانب البشري، الذي لا يقدّر بثمن، ولا يمكن تعويضه، هو الآثار والممتلكات الثقافية والتاريخية، خصوصاً المدمّرة منها والمنهوبة، تلك التي ينبغي أن تكون في دائرة الضوء والمسؤولية والمتابعة، لاسيما قيمتها الروحية والمعنوية والتاريخية.

لقد حلّت كارثة حقيقية بتراث العراق الفني والثقافي، وهي الأكثر إيذاءً وتدميراً للعراق وحضارته وثقافته، وكأنه لم يكفِ معاقبة العراق بتعريضه لحصار دولي شامل بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل، بل إن التدمير امتدّ إلى تاريخه المتواصل عبر آلاف السنين، فقد تعرّضت الصروح الثقافية العراقية لعملية منظمة للنهب منذ الأيام الأولى للاحتلال، حيث تم الاستيلاء على كنوز حضارية وسُرقت المتاحف دون أن تحرّك القوات التي احتلت بغداد أو مناطق أخرى من العراق ساكناً، بل أحياناً كانت تتم عملية النهب والسرقة تحت بصرها وسمعها وليس بعيداً عن تهكماتها عن «علي بابا والأربعين حرامي» وهناك قصص وحكايات مؤلمة عن محاولات السرقة ولا مبالاة وعدم اكتراث القوات الأجنبية.

لعل القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ولاسيما اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 البروتوكولين الإضافيين: تضع مسؤولية حماية الممتلكات الثقافية والفنية على عاتق الدولة أو الدول المحتلة، وهذه الأخيرة لم تقم بواجباتها المُلزِمَة بموجب القانون الدولي في توفير حماية هذه الأماكن.

وكانت اليونيسكو - منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة - قد أطلقت نداءً بوجوب إعادة المسروقات الأثرية، لكن تحرّكها لم يكن بالمستوى المطلوب مقاربة بحملتها ضد تدمير تماثيل بوذا من قبل حكومة طالبان الأفغانية، والأمر ذاته يشترك فيه عدد غير قليل من المنظمات الدولية ذات العلاقة، فقد تباطأت وتلكأت في التحرك لإنقاذ الآثار الثقافية العراقية، ومطالبة المجتمع الدولي بالحفاظ عليها وإعادتها وملاحقة المتهمين بسرقتها أو العبث بها وتقديمهم للقضاء.

وكان على اليونيسكو والمجتمع الدولي القيام بمبادرة عاجلة لحماية الممتلكات الثقافية العراقية، كما تذهب إلى ذلك اتفاقية لاهاي العام 1954، لكنهما للأسف لم يضعا هذه الممتلكات ضمن دائرة حمايتهما، الأمر الذي عرّض الكثير منها للتلف والتدمير، سواءً خلال تنقّلات القوات الأجنبية أو حين تم ترك الحبل على الغارب للسرّاق واللصوص بمن فيهم المحترفون ليتسللوا لسرقة هذه الآثار أو العبث بها، فضلاً عن ذلك فإن بعض المواقع العسكرية كانت قريبة من مواقع آثارية مهمة، الأمر الذي أصاب الكثير من هذه المواقع للتصدّع وعرّضها للتلف، سواءً كان الأمر مقصوداً، أو بسبب الإهمال أو لعدم تقدير قيمة هذه الآثار.

ولم يكن الأمر يقتصر على الآثار، بل إن الفنون والأعمال التشكيلية لكبار الفنانين تعرّضت للضياع والسرقة هي الأخرى، فقد تم نهب العديد منها ونقلها إلى الأسواق الخارجية، وتعرّض قسم منها إلى التلف أيضاً، مثل أعمال الروّاد الكبار جواد سليم وفايق حسن وغيرهما، حيث كانت مراكز فنية عراقية في السابق تحتوي على ما يزيد على 8000 عمل فني، تقدّر قيمتها بمليارات الدولارات، وبعضها أعمال نادرة لفنانين راحلين منذ عشرات السنين.

لعل هذه القرصنة الدولية لتدمير تراث وتاريخ وفن ومكتبات ومخطوطات شعب وسرقة صروحه الحضارية تلقي المسؤولية على الدول التي كانت مشاركة في احتلال العراق، بموجب قواعد القانون الدولي، وعليها قبل غيرها ملاحقة السرّاق وإعادة المنهوبات وتقديم المسؤولين إلى القضاء الدولي لمنع المتاجرة بممتلكات العراقيين الثقافية والآثارية التاريخية.

وإذا كانت الحكومات العراقية منذ العام 2003 قد بذلت جهداً لاستعادة الآثار الثقافية وبعض المنهوبات، فإن هذا الجهد غير كاف، وكان عليها ملاحقة المسؤولين عن ذلك ورفع دعاوى إلى القضاء العراقي والدولي لتحميلهم المسؤولية الجنائية والمدنية، ومتابعة وجود هذه المسروقات في البلدان التي هرّبت إليها والعمل على استعادتها بالطرق المشروعة والممكنة، وكذلك لتنبيه الجهات الدولية إلى مسؤوليتها بهذا الخصوص، وقد تردّد عن تهريب العديد من المقتنيات الفنية العراقية والمنحوتات إلى الخارج عبر طرق دبلوماسية وغير دبلوماسية، الأمر الذي يحتاج إلى اقتفاء أثره وكشفه بما فيه دور الشركات والأشخاص الذين يعملون في هذا المجال غير القانوني وغير الشرعي، سواءً لبعض دول الجوار أو للبلدان الأوروبية والغربية التي كانت سوقاً رائجة لهذه التجارة غير المشروعة.

إن التاريخ العراقي الممتد إلى نحو سبعة آلاف عام ليس ملكاً للعراقيين وحدهم فحسب، بل هو ملك للبشرية، ولذلك ينبغي أن تتضافر الجهود لإعادته، خصوصاً الآثار النادرة والتاريخية واستعادة الأعمال المعاصرة التي كان لفنانين كبار الدور الأساسي في النهضة الثقافية والفنية العراقية، التي جرى العبث بها على نحو غير مسؤول، وهي تمثل صروحاً حضارية ورموزاً ثقافية لحياة مشرقة من تاريخ العراق في الماضي والحاض.

وعلى الرغم من أن اتفاقية اليونيسكو لعام 1970 التي تناولت التدابير الواجب اتّخاذها لحظر منع استيراد وتصدير ونقل الممتلكات الثقافية بوسائل غير مشروعة، فإن الأمر لم يكن بمستوى المسؤولية التي تقع على عاتقها، فضلاً عن ذلك فقد نقلت آلاف القطع الأثرية النادرة بوسائل مختلفة ووجدت طريقها لسوق التداول السوداء، دون اكتراث لتشديد تلك الاتفاقية على دول المنشأ لحجز وإعادة تلك الممتلكات الثقافية بالطرق الدبلوماسية، وفرض العقوبات والجزاءات الإدارية على كل من يتسبب في فرض تلك القوانين. وهو ما أكدته العديد من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية لاسيما في العقود الأربعة الماضية.

اتفاقية لاهاي لعام 1954والبروتوكول الأول عام 1954، واتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972، والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، والبروتوكول الثاني لاتفاقية لاهاي لعام 1999 الذي يتضمن أحكاماً جنائية دولية، واتفاقية حماية التراث الثقافي المطمور بالمياه لعام 2001، واتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لعام 2003، واتفاقية حماية وتعزيز وتنوّع أشكال التعبير الثقافي عام 2005.

وكسابقة قضائية حديثة، فقد كان من بين التهم الموجهة إلى المتهمين في يوغسلافيا بارتكابات ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، تهمة تدمير الممتلكات الثقافية، الأمر الذي يمكن اقتفاؤه بالملاحقة القانونية وطلب التعويض، وهذا من مسؤولية الحكومة العراقية التي عليها المطالبة بإعادة المنهوبات وتقديم المسؤولين عن سرقتها أو العبث بها إلى القضاء، بمن فيهم بعض المتورطين من السماسرة المحليين أو الدوليين أو من قام بتسهيل مهمتهم من المسؤولين!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 48 / 2178022

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178022 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40