الاثنين 7 حزيران (يونيو) 2010

فرصتنا في فك الحصار ومعاقبة القتلة

الاثنين 7 حزيران (يونيو) 2010 par فهمي هويدي

أمامنا الآن فرصة نادرة لكسر حصار غزة ومحاسبة قادة “إسرائيل” على جرائمهم، لكني لست واثقاً من أن دول الاعتدال العربية راغبة في ذلك حقا!

(1)

قافلة الحرية فضحت “إسرائيل” لا ريب، لكنها فضحت النظام العربي أيضا، نعم نحن نعرف الكثير عن قبح وجه “إسرائيل” وعربدتها، لكن ما فعلته بحق السفينة مرمرة، حين قتلت بعض ركابها واستولت عليها وهي في المياه الدولية، عمم تلك الصورة القبيحة على أنحاء الكرة الأرضية، مما أطلق مظاهرات السخط والغضب في العديد من عواصم العالم . ودفع بلداً مثل نيكاراجوا إلى قطع العلاقات مع “إسرائيل”، كما دفع الإكوادور وجنوب أفريقيا إلى سحب سفيريهما من تل أبيب، وكانت تركيا قد سبقتهما بطبيعة الحال . بل إننا فوجئنا بأن عمال الموانئ في السويد قرروا مقاطعة سفن الشحن “الإسرائيلية” لمدة أسبوع . بالمقابل فإن الدولتين اللتين عقدتا معاهدة صلح مع “إسرائيل” (مصر والأردن) قررتا فقط استدعاء السفير “الإسرائيلي” وتسليمه مذكرة احتجاج تضمنت عتاباً دبلوماسياً ليس أكثر . ونحمد الله على أن موريتانيا كانت أسبق وأشجع، لأنها قطعت علاقاتها مع تل أبيب وطردت السفير “الإسرائيلي” قبل عام، استجابة للضغوط الشعبية التي دعت إلى التخلص من تلك الوصمة .

رد الفعل الخجول ألقى بظلاله على موقف الجامعة العربية ووزراء الخارجية العرب الذين “اضطروا” إلى الاجتماع في القاهرة بعدما وقعت الواقعة، وأصدروا بياناً كان دون الموقف الذي اتخذته نيكاراجوا!

صحيح أن الشارع العربي كان أفضل حالاً بقليل، حيث تظاهر الناس فيه واستجابوا لنداءات الاسهام والاغاثة بعد الإعلان عن فتح معبر رفح، إلا أننا نعرف جيداً أن صوت الشارع العربي لا يسمع من قبل أهل القرار، وأن كلا منهما يمضى في واد لا علاقة له بالآخر .

ضعف الموقف العربي عبرت عنه الأصوات الرسمية، من ذلك مثلاً أن المتحدث باسم الخارجية المصرية حين سئل عن احتمالات التحرك إقليمياً أو دولياً في أعقاب الهجمة “الإسرائيلية” على القافلة، فإنه في رده قال إن ذلك منوط بأطراف أخرى . في اشارة إلى تركيا التي وقع الهجوم على سفينة رفعت علمها، ناسياً أو متناسياً أن “القضية” تهم مصر، أو كانت كذلك .

(2)

“إسرائيل” في موقف حرج الآن، فبعد أن تلقت ضربة موجعة في عام 1979 حين خسرت حليفاً مهماً مثل إيران . بعد قيام الثورة الإسلامية، فإن الغرور والاستعلاء سببا لها خسارة حليف آخر لا يقل أهمية هو تركيا . وهي خسارة جاءت مغموسة بالدم التركي، الذي عمق من الفجوة والمرارة . ولا تنس أن دورها الاستراتيجي تراجع بصورة نسبية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وفى الوقت الراهن تتزايد مؤشرات مناهضة سياساتها في أوساط النخب الأوروبية، التي شاركت بعض عناصرها في قافلة الحرية وعبرت عن ذلك المظاهرات التي انطلقت في عواصم القارة . لا تقل عن ذلك أهمية شهادة الجنرال بترايوس قائد المنطقة الوسطى الأمريكية التي قال فيها ان الجنود الأمريكيين يقتلون بسبب السياسة “الإسرائيلية” . وشهادة رئيس الموساد مائير داجان أمام الكنيست التي تحدث فيها عن تراجع الدور الاستراتيجي ل”إسرائيل” في المنظور الأمريكي، بحيث لم تعد الشريك الاستراتيجي لواشنطن، وانما غدت خصماً على قدرتها . والذين قدر لهم ان يطلعوا على عدد جريدة “الشروق” الصادر يوم الأحد الماضي (6/6) أغلب الظن أنهم لاحظوا أن صفحتي الرأي نشرتا أربع مقالات ورسماً كاريكاتورياً في نقد الانقضاض “الإسرائيلي” على قافلة الحرية . الملاحظة المهمة ان الكتاب الثلاثة أمريكيون والرابع “إسرائيلي” (عاموز عوز) وعنوان مقال أحد أولئك الكتاب (انتوني كوردسمان الأستاذ بمركز الدراسات الاستراتيجية بواشنطن) كان كالتالى: عندما تصبح “إسرائيل” عبئاً استراتيجياً . أما الرسم الكاريكاتوري، وهو أمريكي أيضا، فقد صور حلبة ملاكمة وقف فيها شخص مفتول العضلات اشير إلى أنه رمز ل”إسرائيل”، وآخر يمثل اسطول الحرية وقع على الأرض مهشم الوجه، ولكن حكم المباراة رفع يد الأخير وأعلن على الملأ انه الفائز . ورسالة الصورة واضحة في التعبير عن أن “إسرائيل” هي الطرف الخاسر في المعركة التي خاضتها في مواجهة اسطول الحرية .

نجح ناشطو قافلة الحرية في ان يجعلوا “إسرائيل” في موقف الدفاع وليس موقف الهجوم الذي اعتادت عليه . من ثم لفتوا الانظار إلى جريمة الحصار، الذي فرضته الرباعية الدولية على القطاع، واشتركت فيه بعض الدول العربية، إما بسد المنافذ أو بالصمت على استمراره، وترتب على ذلك استدعاء ملف الحصار على الطاولة، بحيث لم يعد أحد يدافع عن استمراره، وإنما أصبح البعض يتحدثون عن رفعه تماماً، في حين بدأ البعض يتداولون أفكاراً حول “تخفيفه” فقط . وفرصة البديل الثاني أقوى وأرجح من الأول، لأن “إسرائيل” وسلطة رام الله ومصر مع استمرار الحصار لحين الخلاص من حكومة حركة حماس في غزة رغم أن كل طرف له أسبابه في ذلك .

فى اطار التخفيف هناك بدائل عدة . أحدها يتحدث عن استقدام فريق يمثل الاتحاد الأوروبي لتفتيش سفن الإغاثة القادمة، والتأكد من أنها لا تحمل سلاحا . الاقتراح الثاني يتحدث عن فتح ممر بحري من ميناء أزمير التركي إلى القطاع . وبمقتضاه تتولى السلطات التركية المقبولة من كل الأطراف مراقبة وتفتيش السفن قبل ابحارها . الاقتراح الثالث ان يعود الأوروبيون إلى معبر رفح لإدارته في وجود حرس الرئاسة الفلسطينية، كما كان العهد به في السابق، وهو اقتراح وافقت عليه حكومة حماس، الاقتراح الرابع يتمثل في اقامة معابر للسلطة في الجانب المصري تتولى انهاء الإجراءات، على غرار المعابر الأمريكية في كندا وايرلندا .

(3)

سألني أحد الصحافيين الفلسطينيين من غزة عن رأيي في فكرة التخفيف . فقلت إن الهدف منها هو التعامل مع القطاع باعتباره حديقة حيوانات، يعيش كل سكانها في الاقفاص ويقاس مدى نجاح الإدارة فيها بمقدار توفيرها الغذاء ومتطلبات بقائهم أحياء داخل تلك الأقفاص . وأضفت ان الفكرة تحتاج أيضا إلى تحرير وتفصيل، بحيث تعرف حدود ممارسة البشر لحق الانتقال . وبحيث تعرف ماهية الاعتبارات “الإنسانية”، وهل لابد أن يكون الراغب في المرور على شفا الموت أو في حالة ميئوس منها . ومن المخول بتمرير أو مصادرة البضائع التي تمر، وما هو دور “إسرائيل” في تحرير المحظور والمباح من تلك البضائع . وقلت لمحدثي إن معبر رفح يسمح الآن بمرور الأشخاص والأدوية، أما الأغذية فلها معبر آخر مثل العوجة تتحكم فيه “إسرائيل” . وقد حدث في الأسبوع الماضي أن احدى سيارات نقل الأدوية حملت كمية من عسل النحل، الذي يتم التداوي به في بعض الأحيان . وأثناء التفتيش اعتبر عسل النحل غذاء لا دواء . فسمح بإدخال السيارة بعد احتجاز عسل النحل منها!

إن قافلة الحرب والقوافل القادمة من أوروبا التي سبقتها استهدفت أمرين هما كسر الحصار واغاثة المحاصرين، وفكرة “التخفيف” المثارة الآن تحقق طلب “إسرائيل” وأصدقائها استمرار الحصار، كما أنها تمكن “إسرائيل” وهي في موقف الدفاع من التحكم في ما يدخل القطاع من سلع، وإذا أردنا ان نذهب إلى أبعد في الظن فسنقول إن فكرة التحقيق يراد بها وقف حملات التضامن الأوروبية، واقناع الرأي العام الدولي، بأنه ما دام باب وصول البضائع والاحتياجات المعيشية قد فتح، فلا داعي لحملات التضامن الدولية مع المحاصرين .

(4)

الموقف التركي الداعي إلى كسر الحصار يعد المطلب الأجدر بالتأييد والمساندة . وأخشى ما اخشاه أن يكون الاعتراض على ذلك المطلب ليس “إسرائيلياً” فحسب، ولكنه قد يكون عربيا أيضا، لأن حكومة السلطة في رام الله قد تعتبر ذلك انتصارا لحماس وتثبيتاً لأقدامها . وهو ما ترفضه يقيناً .

لحسن الحظ فإن تركيا مضطرة لأن تتشدد في موقفها . لأن الغرور “الإسرائيلى” الذي استهدف الباخرة مرمرة وأدى إلى قتل تسعة من الناشطين الأتراك وإصابة عشرات آخرين، استثار الكبرياء التركي وشحن الرأي العام بدرجة عالية من الغضب، الأمر الذي جعل من الحزم ازاء التصرف “الإسرائيلي” خياراً وحيداً أمام الحكومة . صحيح أن ذلك الحزم عبر عن نفسه بعدة إجراءات مثل وقف بعض الانشطة المشتركة العسكرية والمدنية، والحديث عن تقليص العلاقات إلى الحد الأدنى . كما عبر عن ذلك أيضا كل من رئيس الوزراء التركي ووزير الخارجية، بانتقادهما الشديد للسياسة “الإسرائيلية”، واعتبار ما جرى للسفينة مرمرة من قبيل إرهاب الدولة . ولا شك أن تمسك أنقرة برفع الحصار عن غزة كأحد شروط المصالحة مع “إسرائيل”، خصوصا في ظل الاجواء الدولية المستعدة للتجاوب مع هذه الدعوة، يشكل نقلة مهمة في نهج التعامل مع ملف القطاع، إلا أن نقطة الضعف الوحيدة التي يمكن أن تعطل التقدم على هذا المسار هي الموقف العربي الذي سبقت الإشارة إليه .

وإذا كانت تركيا تحتاج إلى جهد آخرين لكى ترفع الحصار عن غزة فإن دعوتها إلى محاسبة ومحاكمة المسؤولين عن الجريمة التي ارتكبت بحق السفينة مرمرة، لا تحتاج بالضرورة إلى ذلك الجهد، ومن ثم فبوسع حكومة أنقرة ان تقوم بها، بما قد يشكل فضيحة أخرى ل”إسرائيل” وتهديدا لقادتها لا يمكن تجاهله، ذلك ان قتل المدنيين الأتراك في المياه الدولية وهم على سفينة تعد أرضا تركية . يمكن القضاء التركي من محاكمة المسؤولين عن تلك الجريمة ومعاقبتهم . لذلك فإن عملية جمع الأدلة التي يقوم بها الادعاء التركي الآن تعد خطوة مهمة باتجاه إجراء تلك المحاكمة، التي فشل العرب في اجرائها بعد حرب غزة، رغم الأدلة والقرائن التي سجلها تقرير القاضي جولدستون .

فى هذا السياق فإنني أستحي أن أقول إن المركز العربي لتوثيق جرائم الحرب والملاحقة القانونية التابع لاتحاد المحامين العرب، الذي يديره الأستاذ عبدالعظيم المغربى، قام بتوثيق كل الجرائم التي ارتكبتها “إسرائيل” في عدوانها على لبنان عام 2006 وعدوانها على غزة عام ،2008 لكنه لم يجد حتى الآن تمويلا يغطي متطلبات رفع تلك القضايا في الساحة الدولية، خصوصا أن تكلفة القضية الواحدة تصل في المتوسط إلى 40 ألف دولار .

إن دم الشهداء الأتراك لم يجف بعد، والمشاعر الغاضبة لا تزال تعبر عن نفسها كل يوم في الشارع التركي . من ثم فالفرصة مؤاتية لدفع عملية محاكمة مجرمي الحرب “الإسرائيليين” على ما فعلوه سواء إزاء قافلة الحرية أو في العدوان على غزة . وليتنا نضم جهود مركز توثيق جرائم الحرب مع الجهود التركية التي تحظى بتأييد شعبي ورسمي كبير لتحقيق الهدف المنشود، واقناع القادة “الإسرائيليين” بأنهم لن يظلوا فوق القانون دائماً، ولكنهم سوف يحاسبون يوما ما .

الحديد ساخن الآن، والفرصة مؤاتية للطرق، قبل أن ينشغل العالم الخارجي سواء بمعاقبة إيران وحصارها أو بمباريات كأس العالم في كرة القدم، قلت العالم الخارجي لأن العالم العربي مشغول ب”اعتداله” الذي أخرج نظمه من معادلة القوة ومن التاريخ .

* ملاحظة

إذا كانت تركيا تحتاج إلى جهد آخرين لكي ترفع الحصار عن غزة فإن دعوتها إلى محاسبة ومحاكمة المسؤولين عن الجريمة التي ارتكبت بحق السفينة مرمرة، لا تحتاج بالضرورة إلى ذلك الجهد .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2166076

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2166076 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010