الخميس 29 آذار (مارس) 2012

بهجت أبو غربية القائد القدوة

الخميس 29 آذار (مارس) 2012 par منير شفيق

تجيء هذه المقالة متأخرة بضعة أسابيع على فقدان فلسطين والأمة العربية بهجت أبو غربية القائد الفذ الذي قلّ نظيره من حيث الصمود على الثوابت الفلسطينية والعربية لمدى عقود من الزمن.

فرعيل القادة الذين حملوا المبادئ في مقاومة المشروع الصهيوني والهيمنة الاستعمارية، لا سيما في عقديْ الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، انتهى زيتهم مع وقوع النكبة في العام 1948، فبعضهم التزم بيته وانكبّ على تأمين وضعه العائلي ومستقبله، سواء كان بممارسة مهنة يدوية أو ذهنية، أم بالهجرة والعمل في الخارج، والبعض الآخر نقل بندقيته من الكتف إلى الكتف المقابل ليصبح من الطبقة الحاكمة.

والرعيل من القادة الذين عاصروا مرحلة الخمسينيات إلى منتصف الستينيات أو قُل إلى حرب العدوان الصهيوني في حزيران 1967 خلص زيتهم كذلك، وكان مصيرهم كمصير من سبقوهم في المرحلة آنفة الذكر.

والرعيل من القادة الذين واكبوا الثورة الفلسطينية في السبعينيات والثمانينيات انتهى زيتهم، ولا سيما مع «اتفاقية أوسلو 1993»، ليصل الأمر إلى التخلي عن الثابت الفلسطيني المتعلق بتحرير كل فلسطين ووضع يدهم مع العدويْن الصهيوني والأميركي لتحقيق ما يسمّى بحلّ الدولتين من خلال المفاوضات والاعتراف بالكيان الصهيوني. أمّا البعض الآخر الذين انكفؤوا لتأمين وضعهم العائلي والمستقبل من خلال العمل أو الهجرة فكرروا مسيرة من سبقوهم كذلك.

القلة النادرة، وفي مقدّمهم كان الأستاذ بهجت أبو غربية راحوا يجدّدون شبابهم الثوري متمسكين بالثوابت التي بدؤوا منها إن لم يزيدوا بها تمسّكاً وتعزيزاً، فقد واكبوا حركة التحرّر العربي خلال الخمسينيات والستينيات.

ولكن هذه القلة زادت ندوراً في السبعينيات، وكان في مقدّم النادرين هؤلاء الأستاذ بهجت أبو غربية الذي عاد إلى حمل السلاح مرّة أخرى قائداً فذاً في الثورة الفلسطينية و(م.ت.ف).

وجاءت الفضيحة المدويّة مع «اتفاقية أوسلو»، إذ تغلّب الانجرار وراء الدخول في مساومتها. وقد هُزّت الثوابت هزّاً، وساد رأيٌ يقول أنّ عصر المقاومات والثورات انتهى، وعصر مناهضة الإمبريالية أصبح ماضياً، بل من لا يلحق بالركب الأميركي، أو القطار الأميركي (الصهيوني) سيخرج من التاريخ.

في هذه المرحلة كان جسد بهجت أبو غربية قد دخل مرحلة الشيخوخة، ولكن عزيمته حاملة ذلك الجسد بقيت شابة يافعة التقطت نبض المقاومة في مرحلتها الجديدة، فاستمرّ يلعب دوراً قيادياً في جبهة المقاومة والممانعة حتى آخر لحظة من حياته.

قليلون، بل يكادون يكونون من النادرين ممن يقبضون على جمر المبادئ والثوابت والثورة والمقاومة في شبابهم ويستمرون قابضين على هذا الجمر إلى آخر يوم من حياتهم إذا قدّر الله تعالى لهم أن يمدّ بأعمارهم حتى منتصف الكهولة أو حتى الشيخوخة. وذلك كما فعل الأستاذ بهجت أبو غربية من دون أن ييأس حين يكتشف أنّ الطريق طويل وطويل، أو أنّ الجدار الذي يُراد هدمه ما زال عصيّاً وما زالت الأنياب والمخالب التي تحرسه دامية. وفي العادة يواكب لحظة اليـأس الاقتراب من الأربعين أو الدخول فيها وإذا بالضعف أمام المال والجاه وأصحاب السلطان يمضي ليأكل من المبادئ، ويدفع إلى المساومة، ليتدخل العقل فيقنع من أخذه اليأس أو ركبه ذلك الضعف بأنّ عهد الشباب كان «طيشاً» وقد جاء أوان «الحكمة» و«التعقل»، أيّ أوان المساومة والتخلي عن المبادئ والبعض وصولاً إلى حضن من كان يُعتبر العدو، وهو كذلك، ولكن جاء أوان إعادة التفكير بصورة مقلوبة والتخلي عن الحكمة والعقلانية التي مثّلتها مرحلة الشباب وأصبحت تسمّى زوراً بالطيش والطفولية، فيما الطيش هو في التخلي عن المبادئ والثوابت، وفي الكذب على الذات في تسويغ الدخول في سوق النخاسة.

والدليل أنّ في كل مرحلة يبرز قادة وشباب يستعيدون الإمساك بالثوابت والمبادئ ومقاتلة العدو الذي لم يكن من قبل وهماً ولم يعد اليوم صديقاً، إذ كيف يمكن أن يصبح اغتصاب فلسطين من قِبَل الصهيونية أمراً فيه نظر، أو يغدو شرعياً أو يُعترف بشرعيته. فأين الحكمة والعقلانية تكمنان؟ أفلا تكمنان عند الشباب غير المثقل باليأس والضعف والأهواء والذي يستطيع أن يكون حكيماً ليرى الحق حقاً والباطل باطلاً ويكون شجاعاً فيختار طريق المقاومة أو الممانعة أو الكفاح والتضحيات، فلا الجبن والمساومة بحكمة ولا الشجاعة والمبدئية بطيش.

إنّها ظاهرة تشبه تدفق الماء من النبع الرقراق، إذ يخرج الماء شاباً دفاقاً فتياً ثم يبدأ المسير ثم بعد حين يصل إلى حفر فبعضه ييأس، وبعضه يستمر، وقد فقد دفقه ونقاءه الأوليْن. ولكنه في الأقل استمرّ، وبعضه خرج من المسار ليتفرّع هنا وهناك.

على أنّ الظاهرة الاجتماعية لا تأخذ تماماً مسار ماء النبع إلاّ من بعض أوجهها لأن ثمة إمكان بشري لعَودة إلى التدفق مع الماء الخارج من النبع جديداً، بمعنى أنّ في مقدور الإنسان أن تتمكن قلة من القادة والكوادر أن تجدّد نفسها لتبدأ من جديد تتدفق مع الشباب الجديد للمرحلة الجديدة.

هنا تكمن بالضبط فرادة الأستاذ بهجت أبو غربية الذي تمكّن من أن يكون قائداً شاباً دائماً في كل مرحلة نضالية وثورية جديدة، متمسكاً بثوابت ومبادئ لا يجوز التشكيك فيها، أو التخلي عنها تحت أيّ ظرف من الظروف فالحق الفلسطيني - العربي - الإسلامي في فلسطين ثابت لا يستطيع أحد أن يتخلّى عنه أو عن بعضه، والحق في محاربة الهيمنة الخارجية والنهب الخارجي للأمة مسألة غير قابلة للمراجعة بحيث تصبح التبعية أفضل من الاستقلال مثلاً، أو تصبح أموال الأمة وخيراتها حلالاً لقوى الاستعمار أو الإمبريالية أو الهيمنة العولمية الخارجية، وتغدو حراماً على جماهير الأمة التي تعاني ما تعاني من تخلف وبطالة وفقر ومرض، ومن ضياع أمل في عيش كريم، أو تصبح العدالة الاجتماعية «شعراً» أو شعاراً خشبياً نسياً منسيا. وكيف يمكن أن تصبح تجزئة العرب خيراً من وحدتهم وتضامنهم وتكافلهم.

بهجت أبو غربية كان معلماً متألقاً منذ شبابه إلى شيخوخته المديدة، في تأكيد الحق الكامل في فلسطين وتحريرها من الغزوة الصهيونية، وفي مقارعة التجزئة العربية والعمل من أجل الوحدة وفي مقاومة الهيمنة الخارجية من أجل الاستقلال والعزة والتحرّر. وكان دائماً مع الشعب يطالب بحقه في العدالة الاجتماعية والحرية.

رحمة الله على بهجت أبو غربية وأسكنه فسيح جنانه وجعله قدوة للأجيال في التمسّك بالمبادئ والثوابت وروح المقاومة والثورة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 81 / 2166088

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع المراقب العام   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2166088 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010