الثلاثاء 27 آذار (مارس) 2012

فزّاعة «اللاسامية» مجدداً في فرنسا

الثلاثاء 27 آذار (مارس) 2012 par مأمون الحسيني

قبل أيام على حادثة قيام شاب فرنسي مسلح من أصول جزائرية، بقتل أستاذ دين يهودي يحمل الجنسيتين الفرنسية و«الإسرائيلية»، وولديه وطفلة ثالثة، وجرح مراهق رابع في مدينة تولوز جنوب غربي فرنسا، والتي أثارت ضجة واسعة في البلاد إلى حد اعتبارها، وعلى لسان الرئيس نيكولا ساركوزي، «مأساة وطنية»، كان قد جرى الإعلان عن اغتيال جنديين فرنسيين، من أصول مغاربية، من قوات المظليين، قرب ثكنتهما في «مونتوبان»، جنوب غربي فرنسا، وجندي آخر، من جزر الآنتيل، في تولوز، وهو ما تعمّدت السلطات التخفيف من خطورته والانتقاص من مغزاه السياسي، وإحاطة دوافعه العنصرية بتعتيم أمني وإعلامي، وذلك على رغم أنه لم يكن الأول من نوعه، وإنما سبقته حوادث اعتداء أخرى ضد المسلمين على خلفية انطلاق حملة انتخابات الرئاسة الفرنسية التي يحاول معظم مرشحي اليمين، وفي مقدمهم الرئيس ساركوزي، استمالة الناخبين فيها من خلال اللعب على وتر «الإسلاموفوبيا» ومعاداة الأجانب، واعتبار هجرة أبناء جنوب المتوسط بمرتبة «غزو أجنبي» يهدّد «الهوية الفرنسية».

ومع أن التحقيقات وجهت أصابع الاتهام إلى التطرّف، وبيّنت أن حادثة الاعتداء على المدرسة اليهودية في تولوز هي من تدبير الشخص نفسه الذي ارتكب سلسلة الاغتيالات ضد الجنود المسلمين الثلاثة، ما أماط اللثام عن تنامي موجة العنصرية والعداء للأجانب، ولا سيما ضد المسلمين، وسلّط ضوءاً ساطعاً على دور مرشحي اليمين للرئاسة في تأجيج هذه الموجة، إلا أن هؤلاء المرشحين أنفسهم، ومن خلفهم الأوساط الصهيونية المحلية والعلمية و«إسرائيل»، أصرّوا على أن حادثة الاعتداء على المدرسة اليهودية «جريمة معادية للسامية تستهدف الجالية اليهودية الفرنسية»، وفق ما جاء على لسان ساركوزي نفسه، وتتعلق بـ «أمن إسرائيل» و«معاداة السامية»، حسب ما أعلن رئيس جمعية الصداقة الفرنسية - «الإسرائيلية» ونائب رئيس المجلس التمثيلي ليهود فرنسا المحامي الفرنسي جيل وليام غولدنادل، وهي «ضد اليهود و«إسرائيل» .. وهي دليل على «أهوال معاداة السامية»، وفق تصريح رئيس «الكنيست» «الإسرائيلي» رؤوفين ريفلين، وذلك على رغم أن «الوقت ما زال مبكراً جداً لتحديد سبب هذا التصرف، مع عدم استبعاد خيار أن الدافع كان معاداة السامية العنيفة والقاتلة»، كما قال رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو في اجتماع لحزبه «الليكود» بعد ساعات من الحادث.

بطبيعة الحال، لم تكن هذه الإثارة الإعلامية الانتهازية حيال مسألة «اللاسامية» في فرنسا، هي الأولى من نوعها، فقد سبقتها حملات متنوعة وعديدة، لعل أبرزها دعوة رئيس الوزراء «الإسرائيلي» الأسبق آرييل شارون، قبل نحو ثمانية أعوام، اليهود الفرنسيين إلى الانتقال فوراً إلى «إسرائيل» بحجة «تصاعد وتيرة معاداة السامية في فرنسا» التي تحمل إرثاً تاريخياً، في هذا السياق، كقضية درايفوس وتعاون حكومة فيشي مع النازيين الألمان خلال الحرب العالمية الثانية في ترحيل 76 ألف يهودي من فرنسا، فضلاً عن أنها تمثّل، مع الأرجنتين، الخزان الاحتياطي لليهود الذين لم يأتوا إلى «إسرائيل»، حيث يقدّر عدد الجالية اليهودية في فرنسا ما بين 530 ألفاً إلى 550 ألفاً. وتشير أرقام يهودية أخرى إلى أن عددهم يصل إلى 700 ألف شخص. واليهودية رابع ديانة في فرنسا بعد الكاثوليكية والإسلام والبروتستانتية. وهناك زهاء 300 كنيس في فرنسا، حيث تنتشر اليهودية، خصوصاً، في المنطقة الباريسية وفي شمال شرق وجنوب غرب وجنوب شرق البلاد.

تاريخياً، بدأت المحاولات الحثيثة لسحب مسألة العداء للساميّة على «إسرائيل» وسياساتها، مع عدوان العام 1967، وتولّى إيلي فيزل قيادة هذا التيار الذي يتشكل من عنصرين أيديولوجيين: الأول هو وضع هذه المسألة خارج سياق السؤال التاريخي عن أسبابها ودوافعها، بهدف رفعها إلى مرتبة طقوسية دينية، واعتبارها رداً شيطانياً اختار اليهود هدفاً للثأر من اختيار الله لهم شعباً يحمل رسالته. أما الثاني، فهو الدعوة إلى منع انتقاد «إسرائيل» مهما فعلت لأنها باتت تمثل اليهودي الجمعي بين الأغيار والأمم، وكل كلام عنها، إذا كان سلبياً، يتضمن قدراً من «اللاسامية» الواعية أو غير الواعية . وكان من الطبيعي أن يشمل ذلك، وبالأساس، شكل ومضمون الصراع العربي مع الدولة العبرية وتقديمه، رغم الطابع الدفاعي العربي فيه، وكأنه استمرار للمشروع النازي، وذلك بهدف القضاء على دولة «إسرائيل» الضعيفة التي تشكل ملجأ أخيراً للناجين من المحرقة، وما انفكت توجه «دعوات السلام» للعرب الساعين إلى رمي يهودها في البحر.

ولكن سرعان ما تمدد هذا التعميم الذي اتكأ على الأحداث التاريخية المبالغ في شكلها ومضمونها، وأنتج قوانين وتشريعات ورأياً عاماً في بعض الدول الأوروبية حيال المحرقة ومعاناة اليهود. ولعل اللافت، في قضية «اللاسامية» التي تردد الحكومة «الإسرائيلية» والصهيونية العالمية أن شبحها عاد للتجوال في أوروبا من جديد، هو أنها لم تعد تعني، لدى هؤلاء، قيام «الأغيار» باعتداءات ضد اليهود باعتبارهم يهوداً ينبغي تحميلهم مسؤولية الكوارث والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلدان التي يعيشون بين ظهرانيها، وإنما توسعت كثيراً لتطاول أبسط أنواع الانتقادات التي يمكن إن توجه إلى «إسرائيل» وسياستها الوحشية ضد الفلسطينيين. أما المأزق الفعلي لهذا النمط من «التزوير والبلطجة»، فقد بدأ بالظهور مع وصول اليمين إلى السلطة في «إسرائيل» العام 1977، حيث بدا واضحاً أن ثمة تناقضاً فاقعاً ما بين تحريم انتقاد «إسرائيل»، وبين سياسات هذا اليمين ورموزه العنصرية الفاشية. وقد بدأ الامتحان الرئيس مع غزو لبنان العام 1982 وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا، فيما تعمق المأزق أكثر خلال الانتفاضتين الفلسطينيتين وظهر عقم الفبركات الدعائية «الإسرائيلية» التي حاولت قلب الصورة وتشويهها.

ومع بدء التأريخ الجديد الذي دشنته أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، والحرب الأمريكية على ما سمي «الإرهاب»، وجد المدافعون عن سياسة القمع «الإسرائيلية»، بلا شروط، أنفسهم في خندق واحد مع الإدارة الأمريكية، بعد أن تم وضع النضال الفلسطيني في خانة الإرهاب، ما استدعى منطقاً يفيد بأن كل رفض لسياسة بوش هو تعبير عن عداء بدائي للولايات المتحدة، وكل رفض لسياسة اليمين «الإسرائيلي» هو صيغة من صيغ العداء الأبدي لليهود. وكان من الطبيعي أن يوضع الإسلام والمسلمون في قلب هذه المعادلة باعتبارهم العدو الجديد للحليفين الاستراتيجيين ما جعل «الإسلاموفوبيا» السلاح المفضل لدى أصدقاء «إسرائيل» الليكودية لتفسير الصراع مع الفلسطينيين والعرب، انطلاقاً من أن العداء لليهود يمثل عقيدة وثقافة متأصلة لدى المسلمين، فضلاً عن أن السياسة «الإسرائيلية» التي ازدادت عنفاً ووحشية ضد الفلسطينيين دفعت الرأي العام الأوروبي والعديد من وسائل الإعلام والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى بعض القيادات السياسية، إلى التدقيق، وطرح الأسئلة عن معنى التأييد الأمريكي المطلق لـ «إسرائيل». وبدلاً من الاستخلاص بأن سياسة الإبادة الجماعية والقمع والاستيطان وبناء جدران الفصل العنصري التي تعتمدها الدولة الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، هي التي تتسبب في رفض السياسة «الإسرائيلية» وإدانتها على المستوى الأوروبي، عزا «إسرائيليون» كثر، وفي مقدمتهم أحزاب اليمين الصهيوني، والعديد من قوى ما يسمى اليسار وبعض الأصوات اليهودية في دول العالم، وخاصة في الولايات المتحدة، تحول الرأي العام باتجاه تفهم الصراع والتعاطف مع الشعب الفلسطيني، إلى تنامي «اللاسامية الجديدة» في أوروبا وازدياد أعداد المسلمين في القارة العجوز الذين ينبغي فتح النار باتجاههم، ومنعهم من التحول إلى قوة مؤثرة في القرارات الأوروبية المتعلقة بالصراع وتداعياته.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165981

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165981 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010