كاتب السطور مسلم موحد ومؤمن بالله وكتبه ورسالاته وأنبيائه جميعاً لا يفرق بين أحد منهم، ويعتقد بيقين أن مواقف البابا شنودة الثالث ـ الذي رحل أخيراً ـ في قضية الصراع العربي الصهيوني كانت أكثر وضوحاً وحسماً من مواقف شيوخ الأزهر المتعاقبين الذين عاصروه، فقد ظل شنودة على رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لمدة جاوزت الأربعة عقود، وعاصر حفنة من مشايخ الأزهر الشريف طوال عهدي السادات المقتول ومبارك المخلوع، وفيما مضى شيوخ الأزهر المعينين ـ ربما باستثناء الشيخ جاد الحق ـ خلف سياسة الدولة الخيانية، وناصروا التطبيع مع «الإسرائيليين» في حماس مشين بلغ ذروته في أيام الشيخ سيد طنطاوي، فقد ظل البابا شنودة ثابتاً راسخاً على موقفه من التطبيع، ورفض التصريح لمسيحي مصري واحد بالذهاب إلى القدس المحتلة، وبدعوى الحج إلى الأماكن المقدسة، وزيارة مهد السيد المسيح عليه أفضل الصلاة والسلام .
وبرغم قدسية شعيرة الذهاب إلى القدس عند المسيحيين، وكونها توازي حج المسلمين إلى مكة المكرمة، فقد ظل موقف البابا شنودة ثابتاً لا يلين، تعرض لضغوط من السلطات، ومن شركات السياحة المسيحية، ومن أفراد شعبه المسيحي في «عظة الأربعاء» من كل أسبوع، والتي ظل يداوم على حضورها حتى قبل أسبوع من رحيله، وحدث ذات مرة أن ألح عليه أحد المسيحيين ممن تقدم بهم العمر جداً، ورجاه متوسلاً أن يسمح له بزيارة القدس وبيت لحم، وبدعوى أنه يريد التبرك بزيارة الأماكن المقدسة قبل أن يموت، وكان رد البابا شنودة ـ كالمعتاد ـ هو الرفض القاطع، ودعوة المسيحي العجوز إلى المداومة على صلواته إلى أن يموت، ووقتها سوف يصعد إلى السيد المسيح في السماء، ويصل إلى ما هو أفضل من فريضة الزيارة، وسكت المسيحي العجوز الذي خيب البابا رجائه، فهو يعرف أن مخالفة أوامر البابا تعني الكفر بحسب عقيدته، وتعني الحرمان من التناول، وهي العقوبة التي حمت التكوين الوطني المصري من شرخ عظيم كان يهدده بعد توقيع السادات لمعاهدة السلام المصرية «الإسرائيلية»، والتي فرضت أحوال التطبيع، وكان للبابا الراحل عبارات نافذة تلخص موقفه، فقد كان يقول دائماً أن الأقباط لن يزوروا القدس تحت الاحتلال، ولا أي أراض عربية محتلة، وأنهم ـ أي الأقباط المسيحيين ـ لن يذهبوا إلى القدس إلا حين تتحرر، ويزول عنها دنس الاحتلال «الإسرائيلي»، وقتها يصيح متاحاً للمسيحيين أن يذهبوا إلى كنيسة القيامة، ومع إخوتهم المسلمين الذاهبين لزيارة المسجد الأقصى، وكان البابا يضيف عبارته الشهيرة التي ذهبت مثلاً، وهي أن «الأقباط ـ المسيحيين ـ لن يكونوا خونة الأمة العربية».
كان موقف البابا شنودة حائط صد منيع ضد أي اختراقات تطبيعية في صفوف المسيحيين المصريين، ولم يكن المسلمون في احتياج إلى عظات شيوخ الأزهر المتعاقبين خلال فترة البابا شنودة، والذين تعينهم الدولة، وتتقلب مواقفهم مع تقلبات السياسة الحاكمة، وحتى لو كان شيوخ الأزهر يجيئون بالانتخاب، واتخذ أحدهم موقفاً تطبيعياً ما، أو أفتى بجواز الصلح مع «إسرائيل»، فلم يكن ذلك ليؤثر في شيء عند عموم المسلمين، ربما لأن الإسلام ـ في أصل الاعتقاد ـ لا يعترف بوساطة ولا بكهانة، ولا بوجود شيء اسمه رجال دين، اللهم إلا في تقاليد الشيعة المسلمين، ومصر بلد شيعي الهوى كما يقال، ويمتاز أهلها بمحبة غامرة لآل البيت النبوي، لكن اعتقاد المسلمين فيها سني خالص، وأزهرها الذي أنشأه الشيعة هو أعظم جامعة للمسلمين السنة في العالم كله، فوق أنه يعترف ـ منذ أوائل ستينيات القرن العشرين ـ بجواز التعبد على المذهب الشيعي الجعفري أو الإثناعشري، والمحصلة: أن مواقف شيوخ الأزهر المعينين حين التوت الألسنة، وأجازت الصلح والتطبيع مع «الإسرائيليين»، هذه المواقف الملتوية لم تجد من يجرؤ على اتباعها بين المسلمين المصريين، بل جلبت النقمة والانتقاد المرير لشيوخ الأزهر الذين قالوا بها، وجلبت نعمة امتداح المسلمين لمواقف البابا شنودة رغم الخلاف في الدين، وصنعت أساساً راسخاً لوحدة المصريين الوطنية في زمن التفكيك، وربما كانت طبيعة شخصية البابا شنودة مما دعم موقفه الرافض بشدة للتطبيع مع «الإسرائيليين»، فقد كان الرجل متبحراً في آداب اللغة العربية، ويحفظ أجزاء كبيرة من القرآن الكريم، ويقرض الشعر، يحفظ قديمه، ويتابع جديده، وعمل صحافياً، وكضابط احتياط في الجيش المصري قبل دخوله في سلك الرهبنة، وهو ما ساهم ـ بالتأكيد ـ في بناء شخصيته المصرية الوطنية العروبية، وأغرى الآخرين بإطلاق لقب «البابا العروبي» على البابا شنودة.
وقد تكون سيرة البابا الراحل مختلفة فيما يخص مجريات الداخل المصري، وموضعاً لجدال متصل، ولكاتب السطور آراء فيها نشرت في حياة بابا الكرازة المرقسية، لكن سيرة الرجل العروبية تظل ناصعة، وتعبر عن أرقى تقاليد الكنيسة القبطية، وقبل أن يرقى الأسقف شنودة إلى كرسي البابوية، كانت له محاضرة شهيرة ألقاها في نقابة الصحفيين المصريين، كان العنوان «المسيحية وإسرائيل»، وأسس فيها البابا الراحل لموقف ديني لا يعترف بأي مشروعية لإقامة «إسرائيل» الحالية، وأكد فيها أن يهود الزمن الحالي ليسوا هم اليهود الموصوفين في الكتب المقدسة عند المسيحيين، ونسف الخرافة القائلة بأن اليهود هم شعب الله المختار، أو أن «أرض الميعاد» في هذه الدنيا الفانية، كانت محاضرة البابا شنودة في زمن سلفه البابا كيرلس السادس، والذي رحل عن الدنيا عقب رحيل جمال عبد الناصر مباشرة، وجمعته صداقة خاصة جداً بالقائد جمال عبد الناصر، والذي خلا زمنه تماماً من أي فتنة أو حادث طائفي، ووضع حجر الأساس للكاتدرائية المرقسية الكبرى بحي العباسية القاهري، تماماً كما أحدث طفرة هائلة في التعليم الأزهري، وإقامة مدينة البعوث الإسلامية، وإنشاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وإذاعة القرآن الكريم، ونشر تعاليم الإسلام والصلوات وشعائر الحج وقراءات القرآن الكريم بكل لغات الدنيا الحية والميتة، كان عبد الناصر مدركاً لأهمية ابتعاث قوة مصر كمركز إلهام ثقافي وديني، وكان مدركاً لأولوية الاندماج الوطني، وجعل دور الجامع والكنيسة طرفاً أصيلاً في صياغة مكانة مصر وحفظ وتنمية مصالحها الحيوية، وكان الانقلاب على صيغة الاندماج الوطني جزءاً من سيرة الانقلاب الساداتي على ثورة عبد الناصر واختيارات النهضة فيها، ووقعت مصر في القيد الاستعماري من جديد، وعلى مراحل تلاحقت وصولاً إلى عقد معاهدة العار مع «إسرائيل»، ونشر الفتن الطائفية في النسيج الوطني المصري، وسيادة عقائد التكفير الوافدة من صحاري النفط الخليجية، ولم يكن موقف البابا شنودة إيجابياً مع تردي أحوال السياسة الحاكمة، بل ساهم ـ بالفعل أو برد الفعل ـ في صناعة الاحتقان والمفاصلة الطائفية، وتلك قصة أخرى على أي حال، ولا تقلل أبداً من امتياز دوره في رفض التطبيع مع كيان الاغتصاب الصهيوني.
RLS
