الاثنين 12 آذار (مارس) 2012

نقلة إيران القادمة في لعبة الذكاء

الاثنين 12 آذار (مارس) 2012 par د. مصطفى اللبّاد

عاد الملف النووي الإيراني من جديد ليكون قضية الساعة على الأجندات الدولية والإقليمية، حيث يرتفع التصعيد فيه بوتيرة شبه يومية، وتتصاعد بالتالي توقعات حرب عسكرية تقول الشواهد إنها ستكون ـ لو وقعت - عظيمة الخسائر وممتدة لتطاول المنطقة برمّتها.

تفصل فجوة كبيرة بين الأطراف الثلاثة الفاعلة في هذا المشهد الصراعي الفريد : «إسرائيل» وإيران وأميركا، بحيث يؤدي التصعيد من أي طرف إلى خلق ديناميكيات ذاتية، تفضي بدورها إلى متوالية من التصعيد المستدام. يشبه هذا الوضع المعقد لعبة ذكاء من نوع فريد، يقوم فيها كل طرف بنقلة ليجعل وضع الطرف الآخر صعباً. شهد الأسبوع الماضي نقلة «إسرائيلية» حاذقة، حيث وضعت زيارة نتنياهو أوباما في موقف اضطر معه إلى المفاضلة الحصرية بين خياري العقوبات النفطية أو الضربة العسكرية، فاضطر الأسمر النحيل إلى سحب خيار الدبلوماسية من التداول حتى إشعار آخر. بدوره قام الرئيس الأميركي بنقلة لا بأس بها، حين قاوم الضربة العسكرية لإيران وتمسك بالعقوبات النفطية الراهنة، بعدما رسم الخط الأحمر الأميركي بوضوح عند منع إيران من امتلاك السلاح النووي.

يبدو الأمر تصعيدياً هنا على السطح، ولكن التفحص في ثنايا الخط الأحمر الذي رسمه أوباما تقول إنه شدد ـ عملياً - على حق إيران في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية! وإذ عرضت واشنطن على إيران، بعد يوم واحد من لقاء أوباما ونتنياهو، استئناف مباحثات الدول الست معها، ينتظر العالم الرد الإيراني بفارغ الصبر. تبدو نقلة إيران القادمة في لعبة الذكاء صعبة وحرجة، فالرضوخ في المفاوضات غير ممكن، كونه سيجر تنازلات أخرى، وعلى المقلب الآخر سيفتح استمرار التصعيد باب الحرب على مصراعيه وهو ما لا يخدم إيران. تحاول السطور المقبلة تقدير نقلة إيران القادمة في لعبة الذكاء.

تواجه «إسرائيل» معضلة كبيرة مفادها أن طموحات إيران النووية والإقليمية تقف حجر عثرة أمام محاولاتها للهيمنة على «الشرق الأوسط»، إذ ان هذه الطموحات، فضلاً عن حضور «المحور الإيراني» في المنطقة، تمنع «إسرائيل» من ترجمة تفوقها العسكري على الدول العربية إلى نظام إقليمي جديد، على قياس وقيافة المصالح «الإسرائيلية». وإذ لا تشكل إيران خطراً وجودياً على «إسرائيل»، إلا أنها تمثل خطراً ينافسها بضراوة على الريادة الإقليمية، حتى بعد اختلال ميزان القوى لمصلحتها مع الدول العربية. لذلك تسعى «إسرائيل» إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل، ولكن معضلتها تتفاقم بسبب الجغرافيا التي تباعد بينها وبين إيران بأكثر من 2000 كيلومتر. وتفوق هذه المسافة بأشواط قدرات سلاح الجو «الإسرائيلي»، بعد أن تسحب من التداول سيناريو مفاعل «أوزيراك» العراقي القريب نسبياً والوحيد عددياً والرابض فوق الأرض. وتصل المعضلة ذروتها بملاحظة أن منشآت إيران النووية البعيدة فعلياً والمنتشرة جغرافياً والمحصنة داخل الجبال تحت الأرض، لا يمكن تدميرها إلا بقوة جوية هائلة ذات دقة تكنولوجية فائقة، والأخيرة لا تملكها إلا القوة العسكرية الأعظم في العالم. ولأجل الوصول إلى هذا الهدف الكبير، تعمل «تل أبيب» بكل الطرق مستغلة سنة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وضعف الرئيس والمرشحين أمام نفوذها السياسي والإعلامي. هنا لا يمكن تجاهل أن هوة ما زالت تفصل مواقف واشنطن عن «تل أبيب» في الملف النووي الإيراني، ومفادها أن «إسرائيل» تطالب بتوقف إيران تماماً عن التخصيب كنتيجة للمفاوضات، بما يعني إلغاء البرنامج النووي الإيراني، أو الضربة العسكرية، في حين يبغي أوباما منع إيران من السلاح النووي وبطرق غير عسكرية. هناك إذاً فجوة أميركية - «إسرائيلية» قائمة عملياً، ولكن لا تظهر على السطح ولم يتم توسيعها بعد.

لا يشذ أوباما عن غيره من الرؤساء الأميركيين في اعتباره أمن «إسرائيل» قضية حيوية للأمن القومي الأميركي، ولكن حقائق الواقع والمصالح الأميركية تمنعه من القيام بضربات عسكرية مع ذلك. صحيح أن أميركا أقوى بما لا يقاس من إيران، ولكن تكلفة الحرب على إيران ستفوق العائد الأميركي منها بكثير.

أولاً: لا تملك أميركا معلومات استخباراتية كافية لشن الحرب، ولا تعرف على وجه الدقة مدى التقدم في البرنامج النووي الإيراني وتفصيل المنشآت الإيرانية وعددها، ربما تعرف المعلوم منها بالضرورة فقط.

ثانياً: لن تؤدي الضربات العسكرية إلى تدمير القدرات النووية الإيرانية بالكامل، لأنها محصنة في الجبال ولأن العقول والمعارف النووية لا يمكن قصفها بالصواريخ.

ثالثاً: سيبقى مخزون إيران من اليورانيوم بعد الضربات العسكرية، كما ستبقى شبكة الموردين في الداخل والخارج، وبالتالي تستطيع إيران الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي بعد الضربات العسكرية وتعكف على برنامج نووي عسكري فعلاً.

رابعاً: كلفت الحرب على العراق حوالى 800 مليار دولار في الفترة من 2003 وحتى 2011، طبقاً لبيانات الكونغرس الأميركي، أي بمعدل 100 مليار دولار سنوياً، وهي تكاليف أرهقت الاقتصاد الأميركي وما زالت.

خامساً: ستؤدي الضربة إلى تهديد نموذج أوباما في خلق الوظائف، والمعتمد على سعر برميل نفط رخيص نسبياً. ومع وجود نسبة بطالة فعلية تزيد عن 8% مقترنة بارتفاع شبه مؤكد لأسعار النفط بعد الضربات العسكرية، ستذهب سياسة أوباما إلى الهاوية.

سادساً: يشي تحليل الاستراتيجية الإيرانية بأن إيران لا تعارض بالضرورة المصالح الأميركية في المنطقة، بل نسق هذه المصالح. يبدو التفاهم الأميركي - الإيراني ممكناً، إذ دلت عليه أحداث كثيرة من أفغانستان إلى العراق.

سابعاً: وجود التوتر المحسوب في منطقة الخليج لا يضر المصالح الأميركية في كل الأحوال، (لاحظ هنا أن التصعيد الكلامي الإيراني في هرمز قد دفع دول الخليج العربية إلى استعمال فوائض ميزانياتها السنوية في شراء المزيد من الأسلحة الأميركية).

ثامناً: وفي أسوأ الأحوال، فحتى لو امتلكت إيران سلاحاً نووياً وهو أمر غير مؤكد - ساعتها ستفرد واشنطن مظلة نووية على دول الخليج العربية لحمايتها، وبحيث سترتبط الأخيرة إلى عقود قادمة بأميركا كضامن لأمنها.

تاسعاً: تمثل العقوبات النفطية والمالية راهناً حرباً، وإن مختلفة الشكل، على إيران (راجع مقالنا هنا في 5/3/2012)، وبالتالي فلا مبرر منطقياً يخدم مصالح أميركا في شن ضربات عسكرية. ولكن مع وجاهة الأسباب التسعة المذكورة، مازال ضغط الإعلام الموالي لـ «إسرائيل» يلعب دوراً كبيراً في تشكيل الرأي العام الأميركي، وبما يجعل أوباما في حاجة شديدة إلى حل تفاوضي يحفظ ماء وجهه في سنة الانتخابات، ويجنبه الدخول في حرب عسكرية.

تتلخص أزمة إيران في مسألة جوهرية مفادها أن نجاحاتها الإقليمية والنووية تصطدم بعقبة الاعتراف الأميركي بها، وبالتالي لا تستطيع إيران ترجمة نجاحاتها إلى نفوذ معترف به في «الشرق الأوسط» إلا بضوء أخضر أميركي. إذاً، أميركا هي مشكلة إيران لا «إسرائيل»، إذ استطاعت إيران مداورة «إسرائيل» عبر تحالفاتها الإقليمية، وبحيث حيدت السلاح النووي «الإسرائيلي» في هذا الصراع الإقليمي الشرس.

تتمظهر أزمة إيران في أن أميركا لم تعد ترى أمامها إلا خيارين : الاستمرار في العقوبات كما يريد أوباما، أو الضربات العسكرية التي يريدها نتنياهو ومجموعات الضغط الصهيونية. وترتب تلك الرؤية نتيجة سلبية لإيران من الناحية الاستراتيجية : إذ كلما صمدت طهران أمام العقوبات الأشد قساوة في تاريخها، كلما زادت ـ للمفارقة - حجج الصقور الأميركيين المؤيدين لضربة عسكرية وزاد الضغط على أوباما، لأن «العقوبات لا تنفع».

يمكن تقدير أن نقلة إيران القادمة ستتمثل في تقديم عرض تفاوضي إيجابي يتعلق بتخصيب اليورانيوم، يسمح لها بالاستمرار فيه ولكن تحت سقف يعيد الدبلوماسية إلى العمل مرة أخرى. بمعنى أدق، ستستمر إيران في التخصيب، ولكنها ستعود إلى مستوى أقل من 20 في المئة نسبة تخصيب التي وصلتها الآن، مع السماح بتفتيش منشآتها النووية كلما أرادت الوكالة الدولية ذلك. أما من حيث التوقيت، فالأرجح أن يتم ذلك قبل بدء جولة المفاوضات المرتقبة مع الدول الست الكبرى لتحفيزها على الحضور إلى الطاولة، فإيران ناورت وراوغت في مفاوضاتها السابقة وربحت سنتين من الوقت. كما أن الضغط «الإسرائيلي» المتواصل على أوباما سيمنع عقد جولة جديدة من المفاوضات دون تغيير في صورة الوضع التفاوضي الحالي، وبالتالي ستعمد إيران في هذه المرحلة إلى تقديم مشهيات على طاولة التفاوض كعرض افتتاحي.

سينحصر التأثير الجانبي السلبي في هذه الحالة على صورة إيران التفاوضية، لأن نقلتها المرتقبة قد تفسر باعتبارها ضعفاً أمام العقوبات الدولية المفروضة عليها. توقفت إيران العام 2003 في مفاوضاتها مع الترويكا الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وانكلترا) طواعية عن تخصيب اليورانيوم لمدة سنتين؛ في ظل عدم اتضاح صورة التوازنات بعد احتلال العراق بشهور قليلة. بالمقابل ستكون الدول الست مطالبة في المقابل بتوريد يورانيوم مخصب إلى درجة 20% (وهو ما عرضته فعلاً قبل سنتين). يمكن في هذه الحالة للمفاوضات أن تدور حول السقف الممكن لإيران أن تخصب فيه اليورانيوم، والمقبول من الدول الست في الوقت ذاته، فضلاً عن التفاوض حول كميات اليورانيوم المتدني التخصيب الذي ستورده إيران مقابل حصولها على يورانيوم عالي التخصيب. عند هذه النقطة تماماً توقفت المفاوضات قبل سنتين، ومن شأن العودة إلى النقطة التي توقفت المفاوضات عندها، أن يسمح لإيران بأن تظهر في صورة الراغب في تسوية سلمية، في حين تضع «إسرائيل» في موقع المعتدي. وفي الوقت نفسه تضمن لإيران كل المزايا المادية والتفاوضية التي تملكها بالفعل : دورة وقود نووي كاملة وعامل الوقت الذي يلعب في مصلحتها، لأنها ستعود ـ وفق هذا المقتضى - للتفاوض، وهي مستمرة في التخصيب. ساعتها يمكن لأوباما أن يتمسك بخيار الدبلوماسية باعتباره «خياراً أميركياً» في مواجهة الضغط «الإسرائيلي».

ستكون التتمة المنطقية لنقلة الذكاء الإيرانية أن ينفتح باب الحوار الأميركي - الإيراني، سواء ضمن مفاوضات الدول الست مع إيران، أو حتى في «القنوات الخلفية». هناك ستطلب إيران تعهداً علنياً من أوباما بأنه لا يسعى إلى تغيير النظام في إيران، في مقابل وعد بتقديم المزيد من «التنازلات». وحين يستغرق أوباما في التفكير لإخراج هذا التعهد بما لا يعرضه لاتهامات أمام الرأي العام الأميركي بأنه قدم «تنازلات» أمام إيران، ربما سيشير عليه مستشاروه وقتها أن يعلن احترام أميركا لالتزاماتها التعاقدية مع إيران. ستتضح التتمة المنطقية للصياغة الأخيرة أكثر عند استحضار «اتفاقية الجزائر»، التي وقعت بين البلدين في مطلع العام 1981، وأطلق بمقتضاها سراح الدبلوماسيين الأميركيين المحتجزين وقتذاك في إيران. تنص بنود هذه الاتفاقية على التالي : «تتعهد الولايات المتحدة الأميركية بأنها، من الآن فصاعداً، لن تتدخل، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سياسياً أو عسكرياً، في الشؤون الإيرانية». وبانتظار النقلة الإيرانية القادمة يبدو أن للمشاكل الأميركية حلولاً متنوعة، مثلما للأزمات الإيرانية متنفسات ممكنة، أما معضلة «إسرائيل» فستبقى قائمة... ما دامت الجغرافيا كابحة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 35 / 2178305

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ملفات  متابعة نشاط الموقع فكرسياسي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2178305 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40