الأحد 4 آذار (مارس) 2012

عبدالناصر‏:‏ تتحرق الاشتراكية

الأحد 4 آذار (مارس) 2012

لعنت الاشتراكية يوم أن مرض ابني‏..‏ ولم أجد له الدواء الذي كان لابد أن يأخذه في الساعة الثانية عشرة مساء‏..وكان عنده التهاب في المخ.. و,هذا الدواء عبارة عن حقن سلفا.. وأنا أعرف أنه دواء عادي وليس من الأدوية النادرة.. ومع ذلك بحثت عنه في كل مكان ولم أجده.

يومها قلت إذا كانت هذه هي الاشتراكية.. تتحرق الاشتراكية.. هذه الكلمات التي تنشر لأول مرة قالها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد في أكتوبر عام..1961 وكانت حياة ابنه عبدالحميد قد تعرضت للخطر في صيف هذا العام بسبب إصابته بالحمي الشوكية وهو في الإسكندرية.. وفشلت كل محاولات العثور علي الدواء في صيدليات المدينة.. وتساءل الرئيس عبدالناصر: إذا كنت أنا الذي يقول هذا الكلام.. فماذا يقول الشخص العادي إذا جابه مثل هذا الموقف؟!.. وهكذا لعن عبدالناصر الاشتراكية إذا لم تلب احتياجات الناس.

احتياجات الناس.. البسطاء الكادحين.. لم تبرح أبدا قائمة اهتماماته.. لذلك كان يحرص كل ليلة بعد أن ينتهي من اجتماعاته ومقابلاته علي استعراض الخطابات التي تصله من كل مكان.. والتي يبلغ عددها يوميا نحو ثلاثة آلاف خطاب.. خطابات قصيرة وطويلة.. تضم مشكلات وأمنيات.. صغيرة وكبيرة.. واحد من هذه الخطابات كتبته فتاة اسمها كريمة بغدادي قالت فيه: سلام من ابنة أحست لأول مرة بالفرحة في حياتها.. سلام إليك يا أبي الروحي.. لقد صممت ألا أتزوج إلا بعد أن أدعو سيادتكم لحضور عقد قراني.. وفي يوم القران كانت هناك سيارة سوداء تبحث في شوارع الجمالية عن بيت كريمة.. وكان بداخلها باقة ورد جميلة عليها بطاقة تحمل اسم رئيس الجمهورية وخطاب يقول فيه الرئيس للعروس: ابنتي العزيزة كم كان بودي الحضور لعقد قرانك المبارك لولا دواعي العمل التي تتطلبها رفعة وطننا العزيز.. وأنت تعلمين ذلك.. وإنني أرسل إليك خالص تمنياتي بالسعادة والتوفيق.

المدهش أن بوستة الرئيس اليومية كانت تضم خطابات كتبها أطفال.. سطورها القليلة يفوح منها عطر البراءة.. كان حلمه أن ينعم أطفال مصر بطفولة سعيدة.. وكان يقول وهو يعطي حفيده قطعة من الشيكولاتة هناك أطفال لا يعرفون طعمها.

قبل رحيله بنحو عام قال: أحلم قبل أن ينتهي بي الأجل ألا أري خادما واحدا في هذا البلد.. فكلما صعب العثور علي الخدم دل ذلك علي تزايد ارتفاع مستوي المعيشة.. قال ذلك بعد أن استعرض أمنياته في تنمية بلاده حين سأله سولز برجر مندوب مجلة نيويورك تايمز عن أحلامه لمصر.. لكن عندما سأله عن حلمه الشخصي قال الرئيس: ليس لدي حلم شخصي.. قد لا يصدق الكثيرون ذلك.. لكن هذه هي الحقيقة.

قوله الحقيقة.. لا الكذب.. صفة حرص عبدالناصر علي أن يتحلي بها أبناؤه.. إلي جانب امتلاك سلاح العلم.. لذلك كان يحرص علي رؤية الشهادات المدرسية ومناقشة الأبناء في محتواها.. ولم يتخلف أبدا عن حضور الحفلات التي كانت تقام في آخر العام الدراسي.. فيجلس مع أولياء الأمور علي كراسي متواضعة مصنوعة من الخشب يستمع لعزف فريق الموسيقي.. ويتابع مسرحية فريق التمثيل.. ثم يتجول في معرض المدرسة لمشاهدة منتجات التلاميذ.. يفعل كل ذلك بحب وسعادة.. أيضا كان يحرص علي حضور أعياء ميلاد أبنائه والوقوف بجانبهم وهم يطفئون الشموع.. ومداعبة أصدقائهم.. ولكنه لم يكن يشارك أسرته في الاحتفال بعيد ميلاده.. في الصباح كان البيت يمتلئ بالزهور.. وفي المساء كان الأبناء وقرينته يجتمعون حول تورتة يطفئون شموعها.. وعندما يخرج من حجرته ويري التورتة فوق مائدة حجرة الطعام الملحقة بصالة الدور الثاني كان يبتسم بود ويحييهم ثم ينزل إلي مكتبه.

وبرغم كثرة مشاغله وضيق وقته.. منح أبناءه حبا وحنانا واهتماما.. وكان يحرص علي أن تجتمع الأسرة كلها حول مائدة الطعام.. بعد حفل زفاف ابنته هدي في أغسطس عام..1965 صافحها الرئيس وقبلها وبكي.. و صعد إلي حجرته في الدور الثاني وقال بتأثر لقرينته: لقد تركتنا هدي.. فقالت له لكي تخفف عنه: إنها تحب حاتم وهي التي اختارته.. ولابد أنها ستكون سعيدة معه.. فرد قائلا: أسعدهما الله.
سنوات طفولته وصباه كانت عامرة بالمواقف التي هزت وجدانه وشكلت أفكاره.. فأول صدام بينه وبين السلطة كان في الإسكندرية وهو تلميذ لم يبلغ بعد الخامسة عشرة من عمره حين رأي مظاهرة يحاول البوليس تفريقها بالقوة.. ولم يتردد لحظة في تقرير موقفه.. انضم فورا إلي صفوف المتظاهرين دون أن يعرف سبب المظاهرة.. لحظات وتلقي ضربة علي رأسه.. تلتها ضربة ثانية.. بعدها شحن مع آخرين إلي قسم البوليس.. دخله وهو تلميذ متحمس.. وخرج منه وهو صبي غاضب.. هنا كانت بداية توهجه الوطني الذي أزعج المسئولين في مدرسته وأثار خوف أبيه.. فأرسله إلي القاهرة ليعيش مع عمه وألحقه بإحدي مدارسها.

أما الموقف الذي هز وجدانه وترك لديه شعورا لن يمحوه الزمن فكان موت أمه وهو طفل صغير.. وصدمته وهو يبحث عنها في بيت الأسرة بالإسكندرية فلا يجد لها أثرا.. كانت قد رحلت منذ أسابيع خلال إقامته في بيت عمه.. ولم يستطع أحد أن يبلغه هذا الخبر الأليم.
حرمانه من أمه وهو طفل جعله يدرك مكانة الزوجة والأم في حياة الأسرة.. لذلك عندما وصله وهو في حرب فلسطين خطاب من عمه يخبره فيه أن زوجته تحية معتكفة في المنزل كتب يومها في مذكراته: لقد تألمت جدا.. فلا يشغلني أي شيء إلا هي والأولاد.. فإن حياتي ليست لها أي قيمة إلا لأجلهم.

في حرب فلسطين.. كان يصب علي الورق أحزانه وآلامه.. فحين علم بخبر استشهاد الضابط إسماعيل محيي الدين كتب: أعترف بأني لحظتها فقدت السيطرة علي عواطفي.. وإذا بدموعي تفلت.. وإذا أنا أبكي بحرقة لم أشعر بها من قبل في حياتي.. كنت أبكي علي رحيل زميل سلاح شجاع سقط في المعركة.. وكنت أبكي علي المعركة نفسها وزمامها في يد الريح.

زملاء المعركة والسلاح.. احتلوا في قلب عبدالناصر مكانا دافئا ومضيئا.. كانت مشاعره وعيناه تلتقطهم وسط آلاف من البشر.. لمن ينس أي وجه منهم.. واحد من هذه الوجوه كان سائق سيارة اسمه عزت عرفه خلال حرب فلسطين.. ووصفه في مذكراته بأنه يملك قلبا كالحديد.. ولا يتردد أمام أي مهمة.. وكان ينجو دائما بما يشبه المعجزة.. تذكره عندما رآه ممددا فوق سرير داخل مستشفي الجيش خلال زيارة قام بها للمستشفي بعد الثورة.. فوقف بجواره يحدثه ويسأله عن حالته.. فقال له الرجل والدموع في عينيه أنه مصاب بسل في العظام.. فالتفت عبدالناصر إلي الطبيب المعالج وسأله: أما من وسيلة؟.. فقال الطبيب: عندنا لا ولكن قد يستطيعون عمل شيء له في أمريكا.. فرد الرئيس: إذن يسافر إلي أمريكا.. إنه خير عندي من مائة من هؤلاء الباشوات الذين كانت سبل السفر مفتوحة أمامهم.. وقد أسف عبدالناصر بشدة عندما علم أن عزت قبل إتمام إجراءات سفره قد مات.

الموت.. كان يمكن أن يكون مصير عبدالناصر ورفاقه ليلة23 يوليو..1952 فاحتمال ألا يعودوا إلي بيوتهم كان أكبر من احتمال عودتهم.. كما قال الرئيس خلال المناقشات التي دارت بينه وبين الشباب في عام1965 في معسكر بحلوان لتدريب قيادات الشباب الذين استمعوا إليه وهو يستطرد: ما حدش فينا أبدا فكر إنه حيحكم أو سيتولي منصبا.. وآخر كلام قلناه في آخر اجتماع إن احنا ممكن ننجح لكن إذا ما نجحناش يكون شرف لهذا الجيل إنه يقال في المستقبل إن فيه ناس لم يرضوا بالحالة اللي كنا فيها وخرجوا وقدموا أرواحهم.. ويكون دا مثل للمستقبل.. للأجيال القادمة علشان تخرج وتضحي.

ولأنه خرج عن النص.. في زمن كانت الهيمنة فيه للإنجليز والأغنياء.. ولأنه انحاز للكادحين وللناس العاديين وللفقراء.. وناضل لينحسر ليل الظلم الطويل.. وليشرق نهار يشعر فيه الإنسان بأنه إنسان.. من أجل ذلك كله أصبح رمزا ساطعا من رموز هذا الوطن الجميل.. ودخل التاريخ باعتباره واحدا من أعظم الثوار الذين غيروا مجري الأحداث في العالم في القرن العشرين.

- عايدة رزق



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2165241

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع تفاعلية  متابعة نشاط الموقع منوعات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165241 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010