الجمعة 2 آذار (مارس) 2012

هذا الانقلاب العالمي إلى أين؟

الجمعة 2 آذار (مارس) 2012 par د. سمير كرم

نعم هو انقلاب عالمي كامل وشامل. ولا يمكن ان يكون غير ذلك، او اقل من ذلك.
حتى وإن بدا ان مركز الانقلاب الزلزالي العالمي هو سوريا، فإن تمهيدات خطيرة له وقعت بالفعل في تونس ومصر وليبيا واليمن. واذا اخذنا بوجهة النظر الخارجية، اي اذا توجهنا بنظرنا الى الولايات المتحدة الاميركية فإن الانقلاب قد شملها. بل اننا اذا التفتنا الى المملكة العربية السعودية نجد دليلاً أكيداً وأكثر صدقية على ان الانقلاب قد غطى المملكة التي عرفت منذ تأسيسها في بداية القرن الماضي بالجمود والثبات ومقاومة التغيير.

من يمكن ان يدّعي ان لا انقلاب وقع، وهو يرى الولايات المتحدة تغير مواقعها فتتحول نحو دعم وتأييد تنظيم القاعدة؟ تنسحب من العراق وتشير الى نية الانسحاب من افغانستان وتعلن انها تتزعم الآن قوى التحرر العالمية وتؤيد «ثورات الربيع العربي» وتستعد عسكرياً، بعد ان اطمأنت الى سيطرتها ومعها حلف الاطلسي على ليبيا، لدخول سوريا حليفة للقاعدة من اجل اهداف انسانية بحتة، لا تختلف عن تلك التي حققتها في ليبيا، او التي تسعى بطرق اخرى لتحقيقها في مصر. بل ان استعدادات اميركا العسكرية تتجاوز هذه الحدود وتضع منطقة الشرق الاوسط برمتها في دائرة الاهتمام.
الآن انضمت السعودية الى قيادات حركة التحرر العالمية بزعامة الولايات المتحدة. انها تؤيد حركة التحرر التقدمية التي وجدت في سوريا قاعدة جديدة لها. وهي ايضا تتزعم القوى التي اطلقت على نفسها اسم «اصدقاء سوريا» بعد ان اكتسب تعبير الصداقة معنى آخر ينحو به نحو التحرير والتقدمية. ويبقى مثال ما وقع في ليبيا هو المثال الاقرب للتطبيق لمفهوم المساعدة الانسانية. فماذا يمكن ان يكون من معنى للمساعدة الانسانية الا ما نراه حدث ويحدث في ليبيا، ولا بد ان نتوقع ان يحدث في سوريا، وربما يحدث في مصر وتونس وقد سبق وحدث في البحرين؟

الانقلاب كبير الى حد انه حول القوى الامبريالية العالمية والقوى التابعة لها الى قوى تحررية وإنسانية، تهدف الى إتاحة اوسع الفرص للشعوب، للاستفادة من قدرات محتليها السابقين في عهدهم الجديد الذي يتسم بالانسانية والتحرر. هل يمكن ان نطلق على هذه الآن تسمية «الامبريالية الانسانية»؟ هل اصبح من المتعين على شعوب العالم ان تنظر الى جيوش اميركا وحلف الاطلسي نظرة جديدة تميز فيها هذا الطابع الانساني التحرري؟ ان ما حدث في ليبيا بالأمس وما ترمي اليه هذه الجيوش الخيّرة في سوريا غداً يلزم الجميع بأن يرى الامور ليس فقط كما تراها قيادات الولايات المتحدة العسكرية وكما تراها قيادات حلف الاطلسي، انما كما تراها النظم القائمة في ليبيا والبحرين ومصر واليمن وتونس، بعد ان شاعت فيها «ثورات الربيع العربي» وأشاعت خير الانقسام والصراع والتصادم هروباً من خطر النظم القديمة.
لقد اكتسب التدخل - الذي كنا في السابق نسميه التدخل الغربي- طابعا جديدا وإن كانت الطوابير العسكرية ونظم الاسلحة الاميركية والاوروبية هي هي، طابعاً إنسانيا وتحررياً ينعم بلمسة الصداقة والمودة والحرص الشديد الى اقصى حد على مصالح الشعوب، كما تفهمها منظمات مثل «القاعدة» من وضع الحليف للتدخل الاميركي والاطلسي. فإذا قرأنا في الصحف السعودية التي تصدر في اوروبا (لأسباب معروفة ومفهومة في كل الظروف) نقلا عن قادة عسكريين اميركيين، ان الولايات المتحدة تخطط لمد يد العون لشعب سوريا عن طريق التدخل العسكري من دون انتظار ومن دون حاجة الى قرار دولي يضفي الشرعية على هذا التدخل، لا بد ان نفهم ان انقلابا قد وقع في اميركا ليحول البنتاغون من اضخم اداة عسكرية في العالم الى اكبر مؤسسة خيرية لتقديم المساعدات للشعوب المغلوبة على امرها. ويمكن - من دون ان يلعب الشك والظنون السيئة بعقول الشعب السوري او اي من شعوب المنطقة -ان يعتبر هذا التدخل عملا خيريا انسانيا، حتى اذا شمل امداد القوى «الثورية» بما يلزمها من اسلحة، لكي تستمر في مواجهة الجيش السوري وحتى تقضي عليه اذا لزم الامر. ولقد تبين من الآن وقبل ان تبدأ هذه الامدادات الانسانية بإمكانات البنتاغون، ان المخطط الانساني الاميركي يتضمن فرض حظر جوي في سماء سوريا يمنع اي تحرك الا ذلك الذي يمد «الثوار» بالاسلحة والعتاد الانساني، فيوقف كل حركة طيران حربي او مدني تحمل علامات سوريا وعلمها. ولقد نفذت الولايات المتحدة هذه الاستراتيجية من قبل في حربها في كوسوفو في تسعينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من ان تسمية هذه الاستراتيجية لم تكن قد حملت صفة الانسانية او الخيرية، الا انها كانت مقبولة لنا نحن مسلمي العالم، لأنها كانت تمد يد العون للمسلمين البلقانيين.

القوى التي ترفض التدخل الخارجي في سوريا -وفي مقدمها روسيا والصين- توصف الآن بأنها القوى المعرقلة للمساعدات الانسانية والقوى المناهضة للثورة، والقوى التي تجبر الخطط الانسانية الاميركية والاطلسية على تجاوز الشرعية الدولية، بفرض التدخل الانساني عسكريا ومصاحبته بأقصى عقوبات ممكنة على سوريا، اي على الشعب السوري. اما القوى التي تؤيد هذا التدخل العسكري الانساني فإنها تحظى بتأييد السعودية، باعتبار السعودية المجتمع الانساني العربي الاكثر ديموقراطية والأعمق تحرراً. وبطبيعة الحال فإن من المسموح - بل من المطلوب - من السعودية ان توائم دعمها للتدخل العسكري الانساني بكل ما يعزز ديموقراطيتها وتحررها. فهذان هما السندان الرئيسيان لقبول اميركا دور الاسرة السعودية الحاكمة كممول لتنفيذ الخطط الاميركية والاطلسية للتدخل العسكري الانساني في سوريا على غرار التدخل العسكري الانساني السعودي في البحرين. إن اتساق السياسة السعودية مع نفسها يمتد من البحرين الى ليبيا ومن ليبيا الى مصر واليمن وتونس وحيثما لزم انتهاج التدخل العسكري الانساني.

أين مصر في هذا كله؟هل تحولت الى قوة صغيرة حائرة بين اغنياء النفط العربي؟

تقف مصر مترددة قدر ما هو ممكن لأطول وقت قد يمتد لأسابيع او اشهر ولكنها لا تلبث باسم الانسانية والتحرر والحرص على المصلحة العربية ان تسير في الاتجاه الذي تمليه وتتوقعه السياسة الاميركية الجديدة. عندما كانت الولايات المتحدة تحارب في صف القاعدة ضد النظام الافغاني المدعوم من الاتحاد السوفياتي كانت مصر تقدم ما تستطيعه من دعم للمؤسسة العسكرية الاميركية. وعندما خرج السوفيات من افغانستان تحولت اميركا الى المواجهة العسكرية ضد القاعدة. وكما هي العادة المرعية مدت المؤسسة العسكرية المصرية ولا تزال يد العون الى الجانب الاميركي في الحرب ضد القاعدة. الآن تعود القاعدة - بعد ان انتشرت قوتها في معظم البلدان العربية والاسلامية - الى موقع حليف لاميركا في ليبيا وفي تونس وفي اليمن والآن في سوريا. فهل نعود الى السؤال وأين مصر في هذا التحول، ام نستنتج ان مصر تقتفي الظل الاميركي والظل السعودي اينما توجها؟

ولكن لمصر وضع خاص في ظروفها الراهنة. انها في منتصف الطريق بين الثورة الكاملة المظفرة - وحينئذ تشكل خطرا هائلا على خطط اميركا والاطلسي الخيرية الانسانية - وبين التحلل الى حالة تشبه ما يجري في سوريا او ما يجري في ليبيا، وحينئذ يزول خطرها وتشكل عبئا آخر على خطط التدخل الانساني الاميركية الاطلسية. والامر المؤكد ان اميركا - وبصفة خاصة المؤسسة العسكرية الاميركية ترقب الوضع المصري عن كثب ومن خلال ما يطرأ على العلاقات الخاصة بين المؤسستين العسكريتين المصرية والأميركية. ولقد ترددت مصر طويلاً- قياساً الى الموقف السعودي الذي يمثل ترمومتر الاستجابة للخطط الاميركية - ولكنها بعد هذا التردد دخلت عصبة «اصدقاء سوريا» واتخذت الخطوات الضرورية لدعم المساعدات الانسانية لسوريا كما تحددها اميركا. وأهم هذه الخطوات سحب السفير المصري من دمشق وهي خطوة تعادل قطع العلاقات بين القاهرة ودمشق.

قطع العلاقات بين القاهرة ودمشق. قد تكون هذه النقطة - او هي بالقطع- اقصى او اقسى ما يمكن ان يكون في علاقات مصر وسوريا. فأين الثورة المصرية من كل ما يجري فيما يتعلق بسوريا؟ انها في النقطة الحرجة بين ادراك حقائق ما يجري في سوريا وحقائق ما يمكن ان يجري في مصر. انها في النقطة التي يمكن التعبير عنها بالموقف الذي لا يدعم بشار الأسد ولا يدعم «المعارضة». فالثورة المصرية اقرب ما تكون الى إدراك نقاط الضعف السياسية في النظام السوري وإدراك نقاط الخطر التي تنطوي عليها اتجاهات وقناعات المعارضة. الثورة المصرية لا تستطيع ان تتقبل هذا التدخل الاميركي الاطلسي في سوريا معتبرة اياه خطرا على مصر والثورة، ولا تستطيع ان تتقبل «المعارضة» السورية حتى وإن اطلقت على نفسها في بعض الأوقات صفة «الثورة».
على اي الاحوال فإن مصر الحائرة تمثل اطمئنانا للجانب الاميركي - الاطلسي. فمن مصلحة الانقلاب العالمي ان تبقى مصر في موقف الحيرة والتردد. ولكن هذا لن يمنع الجانب الاميركي من الضغط خلال الفترة الانتقالية في مصر وبعدها لكي تتخذ مصر ازاء سوريا، الموقف نفسه الذي اتخذته تجاه ليبيا بعد تردد طال لعدة اشهر. وسيهدف الضغط الاميركي على مصر الى إرغامها على مساعدة خطط التدخل الانساني الاميركي الاطلسي في سوريا.

واذا رضخت مصر لهذا الضغط فإنها تفتح المجال على مصراعيه لتعاون اميركا مع التيار الديني المتطرف ضد الثورة المصرية، خاصة حينما يحين الوقت لتدخل عسكري اميركي ليس مستبعداً في كتابات المعلقين الاميركيين بالنسبة لمصر وتستخدم فيه القوات الاميركية التي انسحبت من العراق وتلك التي ستسحب من افغانستان.

ما هي الظروف التي يمكن ان تدفع اميركا وتسمح لها بمثل هذا التدخل في مصر بعد سوريا؟
سؤال مشروع ومبرر في عهد الانقلاب العالمي الذي اكتشفت فيه الولايات المتحدة ان تحالفها مع التيار الديني المتطرف في هذه المنطقة اجدى وأكثر ربحية للمصالح الاميركية من ترك المنطقة «نهباً للثورات المتتالية».

ان سوريا لن تكون لقمة سائغة للتدخل العسكري الانساني من جانب الولايات المتحدة وحلف الاطلسي. تستطيع الولايات المتحدة ان تحسب الامور بحساب قواتها وربما بحساب ما جرى في ليبيا. ولكن من المؤكد ان سوريا ليست هدفاً سهلاً لتدخل اميركي اياً كانت اهدافه،الحقيقي منها والزائف. وليس مستبعداً أبداً أن تلجأ الولايات المتحدة فيما بعد الى الامم المتحدة لتخلص نفسها من اعباء تدخلها في سوريا. وعندئذ قد تجد نفسها على طريق طلب المساعدة من روسيا والصين، الزميلتين لها في العضوية الدائمة لمجلس الأمن.
وما دمنا لا نستبعد هذا الاحتمال فإنه ليس مستبعداً أبداً أن تلجأ الولايات المتحدة الى «اسرائيل» لمساعدتها على سوريا.

«اسرائيل» هي الطرف الأوحد الذي لم يتأثر دوره بالانقلاب العالمي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 53 / 2165367

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165367 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010