الأربعاء 29 شباط (فبراير) 2012

الانقلاب البؤري المدهش واقع قادم!

الأربعاء 29 شباط (فبراير) 2012 par أيمن اللبدي

كانت السمة الأساسية لبحوث الاستراتيجيا السياسية دوليا في العقد الماضي، قائمة على أساس ملاحظة الاستقرار المتوقع عند نقطة العبور من عالم القطبية الأحادية إلى عالم تعددية الأقطاب، وتوالت العديد من الإشارات المؤكدة لاختراق هذه اللحظة خلال بضع سنوات، بيد أن ما تلا سلسلة التتابع في مسألة التغييرات العاصفة في العالم العربي وصولاً إلى العقدة السورية وما نتج عن التصادم العنيف حولها، كشف أن هذه السمة بحاجة غلى مراجعة حقيقية لأن كتلة الدفع المتشكلة من هذا التفاعل العنيف أطاحت بفكرة تعدد القطبية الذي بدا كأنه أصبح مركباً نشطاً غير مستقر نحو لحظة تاريخية أكثر دراماتيكية تقترب من الانقلاب الكامل في المشهد نحو عبور الشرق إلى الصدارة والقيادة، وهذه مرحلة لا تحدث إلا كل عدة قرون مرة ولعل آخر ما تم في هذا الشأن هو التفوق الغربي على الشرق وإزاحته عن هذا الموقع قبل نحو أربعة قرون.

باختصار شديد نحن نعيش هذه اللحظة التاريخية الفريدة التي قد تأخذ عقداً أو عقدين آخرين قبل أن تستقر تماماً، ولكي ينتج عنها هذا الانقلاب الدراماتيكي السياسي الدولي حيث يعود الشرق من جديد لوضعية فقدها منذ عدة قرون خلت، ولكن هذه المرة يعود متحالفا مع الجنوب القريب والجنوب القصي الذي بهذه الوضعية تحديداً، لا يترك مجالاً واسعاً أمام ثغرات الانفلات، فروسيا والصين من هذا الواقع تشكلان معاً الحائط الشرقي والشرقي الشمالي، وبقية منظومة دول «البركس» من الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا تشكلان الحوائط الجنوبية والجنوبية الغربية، بيد أن اللافت في هذا التشكيل القادم أن العالم العربي يغيب تماماً عن اللحظة التاريخية اللافتة كما يغيب العالم الاسلامي الواسع عن ذلك حتى الساعة، وإذا استثنينا الجمهورية الاسلامية في إيران مندوباً عن العالم الاسلامي، والجمهورية العربية السورية مندوباً عن العالم العربي، فإن الصورة تبقى مفزعة لهذا العالم الذي انتظر العودة وفرّط في أوان وأسباب تحقيقها.

الذي يصيب العربي والمسلم بالفاجعة أكثر عندما يتوقف أمام أسباب هذه الخسارة القادمة مزدوج التركيب، فمن جهة كانت كل الجهود النظرية في مجال استقراء أسباب ما فقده الشرق يوما تنصب على البحث والدراسة وتكتفي بوضع بعض الخلاصات وفي أوقات كثيرة تقتل الوقت بين صراعات القومي والاسلامي في المشهد العجيب حتى ساعة قريبة، وهي لم ترق أبداً إلى جهة التحضير لما بعد الاستخلاصات بتقديم لإطار لمشروع مشترك يصلح لأن تقدمه هذه الامة على الأقل حتى يقال أنها حاولت أن تجد لها باباُ تلج منه ليوم مثل هذا، فناهيك عن أشهر المحاولات الفردية منذ كتب بعينها من نمط «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» للندوي أبي الحسن الهندي إلى دراسات الوحدة العربية قومياً وتناول أسباب فشل محاولاتها ومشاريعها، لم تولد يوما وثيقة مشتركة حقيقية تلتقي عند تقديم خلاصة مشتركة تصلح برنامج عمل مشترك بل بقيت القصة حبيسة النظر الأكاديمي أحياناً، والفكري الترفي أحياناً أخرى، أما المحاولات العملانية من جهة أخرى والتي كانت على الأغلب مشاريع طموحة لتلمس الخطى على باب الحظوظ في المشاركة بلحظة تاريخية قادمة لا محالة يعلمنا التاريخ أنها قادمة «لأن الأيام دول»، فقد ظلت إما محاربة وإما موءودة منذ مشروع الزعيم الراحل عبد الناصر في مصر قوميا وصولاً إلى مشروع أربكان في تركيا إسلاميا وديناره الإسلامي.

عندما يرث الخوجا في تركيا ثنائي أردوغان وغل للهاث خلف أوروبا الذاهبة إلى انتكاستها بعيداُ عن المركز، ويقوم الاثنان بجهد خرافي في سبيل بيع الثقل التركي المسلم لصفقة خائبة من هذا النوع، بينما لا زالت ثمة دول إسلامية أخرى مثل الجمهورية الإيرانية وماليزيا تجتهدان كل بمجال براعته في الابقاء على الأقل لمقاعد في جزء من الأطراف قريب من المركز القادم، عندما فاتت لحظة أن يكون العالم الاسلامي بثقل أنواعه الأخرى، ممثلاً بجدارة في هذا المركز وبتصليب وجوده أساساً من البؤرة العربية التي كانت ستكون لو تمت بالتركيبة المصرية-السورية-الجزائرية-السعودية ستعني ربحاً مؤكداً، تلهث تركيا للتشبث بحظوظ الراحلين عن المركز إلى الأطراف ويسير معظم العالم العربي عن الهامش الملحق بالبؤرة إلى هامش الأطراف الراحلة، عندما تتشكل هذه الصورة لا يبقى كثير إلا من الحزن واليأس المتسرب إلى وجدان كل غيور على هذه الأمة، ويزيد من الأسى أن تكون دولة مثل سوريا تصمد في مواجهة آخر ذيول الحرب المعلنة من الآفل على القادم من ساحتها، تواجه قدرها منفردة باستثناء بعض المؤاساة وبعض التفهم هنا وهناك.

في العناوين السياسية المعلنة الواضحة لا يلزم الكثير لمعرفة أن مواجهة من هذا النوع تقبع اليوم في مجال سياسي أولاً وآخراً بالنسبة للرمحين الصيني والروسي، وأن المفردة الاقتصادية التي تعني مكثفة العبارة السياسية كما درج الفهم الماركسي تحديداً على توظيفها أصبحت اليوم مؤجلة أو مرحلة لقادم، فالعبارة السياسية اليوم من روسيا والصين في مسألة سوريا والساحات القادمة كمخاض لهذا التحول الدراماتيكي التاريخي ستظل سياسية بامتياز حتى حسمها، لتأتي لاحقا لحظة الحصاد الاقتصادي المنظور إذ أن الفارق اليوم في الصورة هو التالي:

الوفورات الاقتصادية القائمة عند القادم تجعله في غنى تام عن أخذ أية قيمة اقتصادية في حسابات مرحلة الازاحة والاستبدال حتى إتمام الرحلة التي قد تكتمل على مشارف العام 2030، بينما الأزمة الاقتصادية الكارثية الماحقة عند الآفل تجعله في وضع الشراسة والاستماتة على الاقتصادي الآني بأي ثمن لتأجيل أو تأخير هذا القدر المحتوم وهو يفقد من غطرسته وكرامته وإنسانيته على محيط هذا المضمار كل ساعة دون أن تكون لديه القدرة على تغيير ذلك، وهل تعبير توماس فريدمان عن جرح الكرامة هذا مؤخراً إلا واحدة من شواهد هذا الواقع؟ بالقطع فإن القوة الأخيرة المتبقية قد تستخدم نفسها في لحظة طيش أو يأس، لكن الثمن عندها سيكون كبيراً ومخيفاً عبّرت عنه تصريحات رئيس هيئة الأركان الروسية في لحظة نادرة من تاريخ هذه الدولة وهذه الامبراطورية، بالقول «أن الاستعداد موجود حتى لاستخدام الأسلحة النووية إن تطلب الأمر!»،وقد تكون الصهيونية تحديدا هي المرشح الأكثر احتمالا لإشعال الحريق من بوابة إيران أكثر من الغرب في البوابة السورية، لأن حتمية استنقاذ فلسطين قائمة وتحتل أول متغيرات ما بعد هذا الانقلاب بغض النظر عن الأدوار.

أعجب ما في الصورة القائمة خلف المشهد الحالي أن تكون مراهنة كتل الحركة الاسلامية الواسعة، وفي بؤرتها «الأخوان المسلمون» والسلفيات هي في الحصول على كعكة باهتة والتخلي عن الدور الأهم والهدف الأغلى، هذا في الجناح «السني» لهذه الحركة مع الكراهة في استخدام هذا المصطلح حامل أصابع تهمته، بل والأعجب منه أن فوضى تقافز هذا المركب العجيب المتداخل مع حركات من نمط «القاعدة» يأخذ مجاله في التقاطع مع أهداف الآفل باقتراض أو حتى السطو على فرصة من بوابتها في صراعه مع قدره المحتوم، وبدلاُ أن تكون في موقع عقد المستقبل لهذه الأمة تأخذ دورها في شراء عقد الماضي الكئيب وتكريسه، والأعجب من هذا أن تجد الأحزاب والحركات القومية العربية نفسها وخاصة في الجناح «الناصري» مع المودة في استخدام هذا المصطلح الحميم، فاقدة لأوزانها في هذا الخضم دون بوصلة أو محاولة لاستدراك الفائت الذي بدا كأنه هزيمة مقبولة طالما أنها تقف عند حدود اللاحول واللاقوة.

هل لا زالت الفرصة متاحة ؟

هذا سؤال مقلق، ولكن إجابة حتمية عليه من منطلق التفاؤل تشي ببعض الرجحانية مع ما يلزم ذلك من جهد وسعي حثيث من كل الأطراف والمكوّنات لهذه الأمة تبدأ بإلجام الأفواه المفتية بغير أي منسوب من محاصيل استشعار الجرم الذي تجنيه، ويستتبع ذلك حوارات معمّقة وبرامج عملياتية لتحقيق فرصة، فقط فرصة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 57 / 2166006

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع مستشار التحرير   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2166006 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010