السبت 25 شباط (فبراير) 2012

عندما يغازل أوباما المحافظين الجدد

السبت 25 شباط (فبراير) 2012 par رغيد الصلح

في خضم الصراع الانتخابي الذي يخوضه الرئيس الأمريكي أوباما، التقى قبل شهر تقريباً عدداً من الإعلاميين الأمريكيين الكبار لكي يبحث معهم المشاغل الرئيسة للرأي العام. وعندما وصل الحوار بين الجانبين إلى سياسة الولايات المتحدة الدولية ومكانتها العالمية، لفت الرئيس الأمريكي نظر محاوريه إلى مقال كتبه روبرت كاغان، الباحث، في مؤسسة بروكينغز، بعنوان، “أسطورة الانحدار الأمريكي”.

في هذا المقال، ناقش كاغان وجهة نظر “الانحداريين”، مثل المؤرخ البريطاني/الأمريكي، بول كنيدي الذين يتنبأون بأن الولايات المتحدة سوف تخسر مكانتها كقوة عظمى في المستقبل غير البعيد. أخذ كاغان على هؤلاء - وأيده أوباما في آرائه هذه - المآخذ الرئيسة الآتية:

المأخذ الأول الذي سجله كاغان على “الانحداريين” هو أنهم يطلقون التنبؤات وكأنها حتميات تاريخية لا مناص من وقوعها. ويعترض كاغان من حيث المبدأ على صواب المنهج التحتيمي ويرى أنه فشل في التنبؤ بالمستقبل وأخطأ أصحابه في عدد كبير من المقترحات التي تقدموا بها إلى أصحاب القرار. وفي تقدير كاغان أن هذه القوى لا تسير في خط مستقيم وحتمي، بل هي تتقدم حيناً وتتراجع حيناً آخر لكي تتقدم من جديد. هذا النوع من التغييرات طرأ على الولايات المتحدة نفسها، فقد تراجعت خلال الثلاثينات والسبعينات ولكن لكي تنهض مرة أخرى، كما يرى كاغان.

المأخذ الثاني، هو تجاهل القراءة الصحيحة لمؤشرات القوة الأمريكية ومجانبة الدقة في المقارنة بين الولايات المتحدة والقوى الدولية الأخرى. القوة الدولية التي تعقد معها المقارنات اليوم هي الصين. وعلى الصعيد الاقتصادي صحيح أن الصين تتقدم بسرعة وتصعد سلم التفوق الاقتصادي بثبات، ولكن هذا الأمر ليس غريباً على تاريخها، ففي مطلع القرن التاسع عشر كان الاقتصاد الصيني هو الأكبر حجماً في العالم، ولكن هذا لم يمكن الصين من أن تحتل مركز الزعامة التي تحتلها الولايات المتحدة اليوم. وحتى لو تمكنت الصين من الوصول إلى ذروة صعودها الاقتصادي راهنياً، فإن مستوى الناتج العام الاقتصادي فيها لن يضاهي ذاك الذي تتمتع به كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

أما المقارنات على الصعيد العسكري التي يعقدها “الانحداريون”، فإنها أكثر ابتعاداً، في رأي كاغان، عن الحقائق من المقارنات التي يعقدونها على الصعيد الاقتصادي. القوة العسكرية الأمريكية اليوم هي الأعظم في التاريخ وليس فقط في الواقع العالمي. الولايات المتحدة تنفق حالياً على الدفاع أكثر من مجموع ما تنفقه سائر القوى الكبرى في العالم. هذا سهّل لها أن تضمن تزويد قواتها الجوية والبرية بأحدث المعدات ولقواتها البحرية في الانتشار والسيطرة على سائر المناطق في العالم. وبالمقارنة مع الأوضاع السائدة أيام الحرب الباردة وخلال الصراع الأمريكي- السوفييتي، تتمتع الولايات المتحدة اليوم بميزات استراتيجية كبرى لا تتوافر للصين.

المأخذ الثالث، هو أن “الانحداريين” يروجون لمفاهيم لا تخدم مناهضي الزعامة الأمريكية فحسب، ولكنها في رأي كاغان، تهدد النظام العالمي بالخطر. فالنظام العالمي هو أساساً من صنع الولايات المتحدة، وبسقوط الزعامة الأمريكية يسقط النظام الدولي. وبذلك، تخسر شعوب العالم كلها، وليس الولايات المتحدة فقط، كما يقول كاغان “حرياتها ورخاءها والاستقرار الذي تتمتع به بسبب غياب الصراع بين القوى الكبرى”. وإذا سقطت الزعامة الأمريكية في العالم، ومعها النظام الدولي الحالي، فإن البديل سوف يكون نظاماً دولياً جديداً “يعكس رغبات وخصائص القوى الدولية الأخرى”.

قد لا تكون في المأخذين الأول والثاني معلومات وآراء أو ملاحظات جديدة على المدافعين عن الزعامة الأمريكية، وليس من الصعب على الإطلاق أن يعرف المرء أن أمريكا تتفوق من حيث الإنفاق على تنمية قوتها العسكرية أكثر من أية قوة أخرى عالمية. ولكن هذا الأمر هو بالذات ما يعدّه “الانحداريون” السبب الأهم لانحدار الولايات المتحدة، حينما يقولون إن القدرات الاقتصادية الأمريكية لم تعد كافية لتحمل البنية العسكرية.

أما المأخذ الثالث، فهو الجدير باهتمام متابعي السياسة الأمريكية الخارجية، ذلك أن كاغان، المحافظ الجديد الذي لا يزال يحتفظ بعلاقة جيدة مع إدارة أوباما، يريد إحياء النظريات الأحادية المتطرفة التي سعى المحافظون الجدد إلى الترويج لها. غير أن كاغان يذهب في محاولته إلى أبعد ما ذهب إليه البوشيون المتطرفون، إذ إنهم لم يتجرأوا على القول إن النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية هو من صنع الولايات المتحدة وحدها وكأنها تمتلكه بعد أن دفعت ثمنه بالدولارات. فهذا الادعاء يتناقض مع حقائق التاريخ ومع الدور الذي لعبته شعوب العالم ودوله في محاربة النازية والفاشية وفي محاربة النظريات العنصرية التي أدت إلى قيام النظامين في ألمانيا وإيطاليا. إن العلمين لم تقع في صحراء نيفادا، وستالينغراد ليست مدينة أمريكية، والذين قاوموا دول المحور لمدة عامين وحدهم كانوا البريطانيين وليسوا الأمريكان.

ثم إنه ولو افترضنا أن النظام الدولي القائم هو منتوج أمريكي خالص، فهل هذا دليل قاطع على صلاحه كما يفترض كاغان؟ إن هذا النظام قد يخدم مصالح قوى ضغط معينة في الولايات المتحدة منها جماعات الضغط الصهيونية التي ينتمي إليها كاغان، ولكنه لا يخدم مصالح أكثرية شعوب العالم. وفي الوقت الذي يرى فيه كاغان والمحافظون الجدد أن قيام نظام دولي جديد على حساب النظام الحالي هو أمر مضر، فإن هناك أسباباً كثيرة للعمل على استبدال النظام القائم بآخر يقوم على التعددية الأممية والمساواة بين الدول والسلام العالمي الذي يقوم على العدل ونشر الرخاء الحقيقي في سائر المجتمعات وبين سائر الطبقات والفئات الاجتماعية وتطبيق الشرائع الدولية تطبيقاً منصفاً، فهنا تكمن مصلحة الأكثرية الساحقة من شعوب الأرض. وعندما يسهم باراك أوباما في الترويج للنظريات المعاكسة لتطلعات هذه الشعوب والمجتمعات، فإنه قد يدخل البيت الأبيض مرة أخرى، ولكنه يتخلى عن كل دعوات التغيير التي قادته إليه في المرة الأولى.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2166017

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2166017 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 25


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010