الأربعاء 22 شباط (فبراير) 2012

فى رثاء جامعة الدول العربية

الأربعاء 22 شباط (فبراير) 2012 par طلال سلمان

أعلنت جامعة الدول العربية، خبر وفاتها من فوق أعلى منبر دولى فى العالم:
مجلس الأمن، بشهادة أعضائه جميعا، الخمسة دائمى العضوية من «الكبار» أصحاب حق الفيتو، والعشرة المتبدلين بتبدل المواقف والأدوار وفى حين وقف الأمين العام لهذه الجامعة العريقة يتقبل التعازى فقد بادر رئيس الدورة ــ بالإعارة أو بالإيجار ــ يعلن اسم الوريث الشرعى: مجلس التعاون الخليجى القادر بذهبه الأسود أو بغازه الأبيض على تعويض غياب المؤسسة التى كانت، ذات يوم، معقد آمال العرب فى الحد الأدنى من التضامن والتكاتف من أجل الحق فى مستقبل أفضل لشعوب هذه الأمة التى فرض على أقطارها التقسيم ثم اقتطعت منها فلسطين« للإسرائيليين» ليقيموا عليها دولة يهود العالم.

والحق أن إعلان وفاة الجامعة العربية لم يكن مفاجئا تماما للمجتمع الدولى.. فقبل بضعة شهور ذهب الأمين العام السابق لها يعلن دخولها فى غيبوبة تمنعها من أن تقرر، ويطلب من مجلس الأمن ان يتولى، باسمها، تفويض الحلف الأطلسى بتحرير ليبيا من حاكمها المتجبر، حتى لو أدى الأمر إلى تمزيق هذه البلاد مترامية الأطراف، الغنية بنفطها والفقيرة بتجربتها السياسية مما قد يأخذها إلى حرب أهلية تمزق وحدتها وتجدد الاشتباكات التى لما تنطفئ نيرانها تماما بين قبائلها وأعراقها، تحت الشعار الإسلامى وفوق الأرض الغنية بنفطها الخفيف وغازها الثقيل.

فى وقت لاحق، ستعلن عودة «الاتحاد المغربى» إلى الحياة بجرعات من نسمات الربيع العربى الذى اسقط الهوية الجامعة عن الدول التى كانت تنضوى تحت لواء الجامعة العربية، بأمل أن تقودها الشراكة فى وحدة المصير، فضلا عن وحدة المصالح، إلى نوع من التكامل الاقتصادى ــ الاجتماعى ــ الثقافى، تشبها بالاتحاد الأوروبى أو بالتجمعات التى قادت اليها المصالح دول كانت مختلفة جدا فتقاربت بدافع الضرورة، ومن فوق الخلافات السياسية.

هكذا تعزل ــ بداية ــ مصر، الدولة - الأم، وصاحبة الحق الشرعى بالقيادة، وتترك لفقرها وما ينتج من اضطرابات اجتماعية واقتصادية تؤثر على الدور فتضعفه، خصوصا أنه قد يضطرها إلى تنازلات موجعة، يجبرها على طلب العون ممن شروطه ثقيلة بحيث يصعب على الكرامة أن تقبلها.

هل من الضرورى التذكير بأن انفصال جنوب السودان عن شماله إنما كان يشكل ضربة قوية لموقع مصر ودورها، وفضلا عن شطبه السودان كدولة مؤثرة، وكشعب لم يقصر يوما فى نصرة القضايا العربية قبل ان يتولى حكمه عسكر الإسلام السياسى فيضيع وحدته ودوره، وما زالت مخاطر انفصالية إضافية تتهدده، وتهدد معه الأمن القومى لمصر بانعكاسها على شريان حياتها: النيل!

طبعا اختفت او غيبت تماما حقيقة وحدة وادى النيل، وصار النيل بذاته سلاحا قد يستخدم لتطويع مصر او لجرها إلى حروب مع شركاء المصير فى قارتها السمراء.

أما فى المشرق فقد أقامت دول مجلس التعاون الخليجى سورا مصفحا من حولها، بذريعة حماية ذهبيها الأسود والأبيض، من طمع أشقائها، أو من جبروت الجار الكبير، الإيرانى، فى حين فتحت أرضها وأجواءها، ومياهها للقواعد والأساطيل العسكرية الامريكية اساسا والغربية عموما.

ولقد ظل هذا المجلس مجرد إطار للتلاقى بالاضطرار بين دول لم تكن ــ بمعظمها ــ موجودة عند قيام جامعة الدول العربية، بل كانت، فى ما عدا السعودية وسلطنة عمان، مجموعة مشيخات صحراوية يحكمها ــ مجتمعة ــ ضابط بريطانى.

.. وكان أن تفجرت إيران بالثورة التى رفعت الراية الإسلامية شعارا وجعلت فلسطين قبلتها، فقصد الملوك والأمراء والمشايخ صدام حسين مستنجدين بقوة العراق لوقف المد الإيرانى الثورى، فكانت «حرب الخليج» التى أنهكت العراق وإيران معا، وكان هذا بالضبط هو المطلوب، وأن استدعى رد فعل أحمق لاحقا من طرف صدام حسين إذ أقدم على غزو الكويت، وهو ما مكن الامريكيين من شن «حرب تحرير الكويت» بمشاركة عربية فعالة أدت إلى شق جامعة الدول العربية وتلاشى دورها بوصفها الضحية الأولى لتلك الحرب التى مهدت للغزو الامريكى واحتلال العراق وإعدام صدام حسين.

ولقد يسرت تلك الحروب المتواصلة أمر إعادة تحريك الفتنة بين السنة والشيعة للتغطية على النتائج السياسية المتمثلة بعودة القواعد الاستعمارية إلى تلك المنطقة.

تدريجيا، صار مجلس التعاون الخليجى الذى بقى لسنوات طويلة مجرد إطار شكلى لتقارب بلا أفق بين أطرافه، مؤسسة خطيرة، لها تحالفاتها مع أقوى قوة فى العالم، وتملك امكانات هائلة تيسر لها شراء أساطيل من الطائرات الحربية والمدنية التى لن تحتاجها، ولكنها تحمى استمرار تدفق النفط إلى دول الغرب، وتدفق عائداته إلى الخزانة الامريكية حيث تتوه عن طريق الخروج عائدة إلى أصحابها فى الجزيرة والخليج.

وعندما تفجر غضب الشعوب العربية فى وجه أنظمة القمع التى حكمته دهورا صار مجلس التعاون الخليجى، بقدرة قادر، حاضنة «الربيع العربى»، والمروج للثورات وقائد الحملة السياسية، ومن ثم العسكرية، ضد بعض تلك الأنظمة التى لم تستوعب ــ بالسرعة اللازمة ــ الدور الجديد المكلف به الأمراء والمشايخ الذين منحوا دورا فى الشئون العربية فى عواصم القرار الكونى، خصوصا وأنهم مستعدون لأن يلعبوا دور القناع او دور الممهد وبالطبع دور الممول، أو حتى دور المزود بالسلاح، كما دلت التجربة فى ليبيا علنا، وكما تدل الوقائع الميدانية فى سوريا، وإنْ بطريقة مموهة، لاختلاف الظروف.

لقد سقطت جامعة الدول العربية بالضربة القاضية.. فالدول المؤسسة مشغولة بأوضاعها الداخلية: مصر تبحث عن طريقها إلى الدولة القوية والمنيعة بعد الثورة الشعبية الرائعة التى صودرت قبل ان تبلغ غايتها، والعراق متروك لمخاطر الحرب الأهلية والتمزق بين «مكوناته» الطائفية والعرقية والاثنية، وسوريا متروكة لمصيرها فى ظل انشقاق خطير بين السلطة والمجتمع ينذر بالأسوأ.. حتى إن رئيسها بشار الأسد اخذ يتحدث، مؤخرا وبعد طول مكابرة، عن خطر التقسيم الذى يتهدد هذه الدولة التى كان لها دور متميز ومؤثر فى خدمة القضايا العربية جميعا، وفى الطليعة منها قضية فلسطين.

وتبقى اليمن التى رفض أهل الثروة من أركان مجلس التعاون الخليجى ضمها بملايين الفقراء إلى هذا التكتل المذهب.. وواضح أن هذه الدولة التى أعادتها إلى الحياة الثورة، ثم أجبرت الإرادة الشعبية قياداتها فى شمالى البلاد كما فى جنوبها على التقدم نحو الوحدة، تبدو الآن مهددة فى وجودها وليس فى وحدة كيانها السياسى فحسب.

ولقد دأب مجلس التعاون الخليجى على رفض انضمام هذه الدولة الفقيرة إلى نادى أغنيائه متذرعا بحجج واهية، لكن الحقيقة انه لا يريد إشراك ملايين الفقراء من أبنائها الذين أسهموا اسهاما عظيما فى بناء حواضره وفى إنعاش اقتصاده وفى نعيم رخائه..

بالمقابل فإن مجلس التعاون الخليجى قد دفع ببعض من قواته المسلحة إلى دخول البحرين لمواجهة الانتفاضة الشعبية السلمية فيها التى لا تطالب الا بحق المواطنة لأهلها وهم ــ للمناسبة ــ من السباقين إلى طلب العلم بل وإلى التفوق فيه، وكانوا دائما الطليعة المثقفة والواعية من بين أبناء تلك المنطقة، ولم يعرفوا الطائفية إلا حين قرر النظام ــ ومن خلفه مجلس التعاون ــ استخدام هذا السلاح القذر لاتهام شباب الحركة الوطنية فى البحرين بأنهم «عملاء» للإيرانيين، او بأنهم «مذهبيون» يسعون إلى الفتنة بين السنة والشيعة.

أين تصير قضية فلسطين وماذا سيصيبها بعد الإعلان عن وفاة جامعة الدول العربية وانطفاء دورها؟!

بين سخريات القدر أن المهمات الأخيرة التى سخر للقيام بها مجلس الجامعة بقيادة الشيخ القطرى حمد بن جاسم آل خليفة، إنما تمت بعدما تنازلت فلسطين عن رئاسة الدورة لهذا الشيخ متعدد المواهب والذى يتحلى بروح رياضية عالية تمكنه من إنشاء علاقات حميمة مع بعض القادة الإسرائيليين، وهو كان من تولى الاتصالات الرسمية الأولى مع إسرائيل، برعاية مباشرة من واشنطن، والتى انتهت إلى إقامة مكتب تمثيل تجارى لدولة العدو فى الإمارة التى تعوم فوق بحر من الغاز فى الخليج العربى... وبديهى ان مثل هذا المكتب ما كان ليقوم ويبقى لولا مجاورته لقاعدة العيديد، وهى أكبر قاعدة عسكرية أمريكية خارج الأراضى الأمريكية.

يبدو السؤال عن فلسطين وكأنه من خارج السياق.. فقد غدت هذه القضية العربية المقدسة من مسئولية هيئات دولية أبرزها «الرباعية»، خصوصا بعدما انشغل أهلها عنها، سواء «سلطتها» التى لم تعرف بعد كيف تتوحد، أو الدول العربية التى كانت تظهر الاهتمام إما لأسباب داخلية وإما لاستدراج عروض خارجية، ثم انصرفت عنها لتغرق فى محلياتها، لا سيما بعد تفجر الميادين بالغضب والضياع بين موجبات الثورة والخوف من الفوضى بعد سقوط الأنظمة ولا بديل.

ومن موجبات الأمانة الاعتراف بأن التعرض للقضية الفلسطينية فى هذه اللحظة أمر يفوق طاقة الأنظمة على احتماله.

وهكذا تبدو القضية متروكة للمقادير... فقيادات الداخل فى الأسر، وقيادات الخارج مسترهنة ومستضعفة سواء بخلافاتها التى لا تنتهى.

الخلاصة ان جامعة الدول العربية قد اغتالها أهلها، ولكنها لا تجد من يقيم لها حفل التأبين اللائق، لأن أحدا لا يريد ان يتحمل المسئولية عن اغتيالها.

وليست مصادفة أن يغدو مجلس التعاون الخليجى المرجعية العربية المعتمدة دوليا.. وأن تنتبه دول المغرب العربى، من ليبيا وحتى موريتانيا، إلى ضرورة النأى بنفسها عن أولئك «العرب» الذين يخلطون بين الدولة والثورة فيخسرون مرتين.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2165631

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165631 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010