الخميس 16 شباط (فبراير) 2012

روسيا بين أمجاد الماضي وتحديات المستقبل

الخميس 16 شباط (فبراير) 2012 par محمد نجيب السعد

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي أصبحت روسيا الوريث الشرعي للعملاق الشيوعي فحصلت على مقعده في مجلس الأمن لأنها كبرى الجمهوريات المستقلة من حيث المساحة والسكان والناتج القومي والقوة العسكرية. ويجد الكثير من المختصين بالشأن الروسي ان تلك الدولة التي كانت في يوم من الأيام قلبا للاتحاد السوفيتي باتت على أعتاب استعادة هيبتها المنزوعة واسترداد أمجادها على أكثر من صعيد، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، سيما بعد التحسن الاقتصادي الكبير الذي شهدته روسيا، وإعادة ترميم الصناعة العسكرية الروسية بشكل يضاهي السابق، صناعة وتصديرا.

اعتقد بوريس يلتسن، أول رئيس للاتحاد الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أن السير صوب الرأسماليه هو الحل الأمثل الذي سينقذ اقتصاد روسيا ويدفعه الى الأمام. يومها أختار يلتسن كلا من إيجور جيدار وأناتولي تشوبايس لهذه المهمة المعقدة، وبدأ جيدار وتشوبايس بتطبيق نظريات اقتصادية تقوم على تحرير التجارة وإزالة نظام تسعير السلع وخفض الإنفاق الحكومي بشكل كبير وخصخصة مؤسسات الدولة والانضمام إلى المؤسسات الماليه والاقتصادية الدولية من أجل الحصول على المساعدات اللازمة لنجاح عملية التحول, وقد انضمت روسيا إلى صندوق النقد الدولي في يونيو 1992 بعد تبنيها الفعلي لاقتصاد السوق. ان هذه النقلة السريعة من الاقتصاد الاشتراكي الى سياسة الخصخصة وتبني الاقتصاد الرأسمالي سببت الكثير من الفوضى للاقتصاد الروسي وأدخلته في مرحلة الأزمة الاقتصادية، مما جعل روسيا تطلب المساعدة من الولايات المتحدة, واستغلت الولايات المتحدة الوضع وربطت المساعدات الاقتصادية بتطبيق برنامج الخصخصة. وبسبب الفساد الذي كان مستشريا في جسد الدولة الروسية فقد بيعت مؤسسات الدولة وبأثمان بخسة لمجموعة من البيرقراطيين والمافيات والشركات الأجنبية، على سبيل المثال بيعت خمسمائة مؤسسة حكومية كبيرة بسعر سبعة مليارات ومئتين مليون دولار في حين قدرت قيمتها الفعلية بمئتين وعشرين مليار دولار, وهناك تقديرات تقول أن قيمتها تتجاوز تسعمائة مليار دولار وتم بيع مصنع ليختشوف والذي يعتبر من أكبر المصانع في موسكو بسعر أربعة وأربعين مليون دولار, في حين قدرت قيمته الحقيقية بأكثر من مليار دولار, وتم بيع مصنع أورال ماش من أكبر المصانع في الاتحاد السوفيتي بحوالي ثلاثة ملايين دولار وتم بيع مجمع الحديد والصلب في مدينة تشيلابينسك لقاء مبلغ مشابه ومصنع للجرارات في نفس المدينة تم بيعه بمبلغ أكثر من مليوني دولار بقليل وهي مبالغ تقل كثيراَ عن قيمتها الحقيقية. بلا شك أن تراجع الدور الاقتصادي للدولة الروسية أثر بشكل كبير على دورها السياسي، خاصة على الساحة الدولية.

ولم يصب التدهور الاقتصاد وحده بل ان الدور الروسي على صعيد السياسة الدولية في بداية حكم يلتسن قد تراجع كثيرا وقد بدى للكثير أن الدولة الروسية أصبحت تابعة أو ملحقة بالسياسة الأميركية وما يعزز ذلك توسع حلف شمال الأطلسي (النيتو). يؤكد كثير من الباحثين ان يلتسن وطاقمة القيادي أعتقدوا أن موالاتهم للغرب هو السبيل الأمثل لتخليص روسيا من الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية وذلك من خلال حصولهم على القروض والمساعدات الاقتصادية، وأول تطبيق لهذا التوجه هو زيارة يلتسن للولايات المتحدة الأميركية في فبراير 1992 التي أسفرت عن وثيقة التعاون الأميركي ـ الروسي التي وقعها في كامب ديفيد مع جورج بوش الأب, وقد أتت الوثيقة على أسس التحالف بين الدولتين. تطبيقاَ لهذا التوجه سعت روسيا إلى طمأنة الغرب إلى نواياها خلال سياسة تقديم التنازلات المنفردة, لقد فشلت هذه السياسة في تحقيق أهدافها لأن الغرب سعى بكل جهده لأضعاف روسيا ونهب ثرواتها, وقد قدر الدارسون إنه خلال تلك الحقبة اليلتسينية تم نهب 350 بليون دولار من ثروات الشعب الروسي من خلال المافيات الروسية الغربية. وهذا مايؤكد أن روسيا بقيادة يلتسن في تلك الحقبة قد قبلت بالتفرد والزعامة للدورالأميركي في العلاقات الدولية ويرى كثير من الباحثين ان تبني السياسة الليبراليه هي وراء تراجع الدور الروسي في السياسية الخارجية وتقديم تنازلات من طرف واحد. وكان موقف يلتسن يمثّل ذروة المفهوم القديم السائد في التفكير السياسي الروسي القائل بأنّ روسيا تنتمي إلى الغرب، ويجب أن تكون جزءاً من الغرب، وأنّ عليها أن تقلّد قدر المستطاع الغرب في تطوّره الحالي. وكان يلتسن صريحاً في تنصّله من الإرث الإمبراطوري الروسي ولا سيما في خطابه الشهير الذي ألقاه في نوفمبر 1995. وقد بدا الإزدراء الأميركي والغربي لروسيا واضحاً لا سيما عندما كانت روسيا تستجدي المساعدات الماليه الغربية إثر الفقر الكبير الذّي طرأ عليها وعلى شعبها في تلك الفترة. وفقدت روسيا في هذه المرحلة قوّتها السياسيّة الدولية ونفوذها الإقليمي والدولي، وقد بدا ذلك واضحاً إثر وقوفها مكتوفة الأيدي تنظر إلى حليفها ميلوزوفيتش وهو يزاح من السلطة في الحرب الأميركية على يوغوسلافيا عام .1997 وقد عملت أميركا حينها على احتواء روسيا من خلال إيجاد رأي عام بأنّ روسيا كالاتحاد السوفيتي تمثّل تهديداً لأوروبا الشرقية، وحوّلت الأمر من فوبيا الاتحاد السوفيتي إلى فوبيا روسيا، كحجة لتوسّع حلف النيتو جهة الشرق. كما عملت الولايات المتحدة على جسّ نبض روسيا وذلك من خلال توجيه ضربات موجعة لحليفتها التقليدية صربيا في مارس من عام 1999. كما وحثّت الولايات المتحدة حلف النيتو بشدة على تقبّل الاستراتيجية الجديدة خلال قمة واشنطن في أبريل من عام 1999، والتي ترتكز على أساسين:

أولهما: زيادة القدرة على انتزاع حزام الفراغ العسكري الذى ظهر في دول شرق ووسط أوروبا ودول البلقان في أعقاب تفكّك الاتحاد السوفيتي، وذلك عن طريق توسّع حلف النيتو شرقاً. وثانيهما: سحب الغطاء الدفاعي من حلف النيتو تماماً وتحويله لمجرد أداة في يد الولايات المتحدة لاستعراض هيمنتها وتدخلها السافر في الشؤون الداخلية لدول تقع خارج المنطقة الدفاعية للناتو. وإصرار الولايات المتحدة الأميركية على تمزيق معاهدة الصواريخ الباليستية التى وقّعتها مع روسيا عام 1972، على الرغم من المعأرضة المتكررة لروسيا لذلك الإجراء. وقامت الولايات المتحدة علناً بإجراء التجارب والبحث وتطوير تكنولوجيا الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية ونشر أسلحتها عندما يحين الوقت، وذلك من أجل هدف مستقبلي وهو إضعاف قدرة روسيا عسكرياً. وكذلك قامت الولايات المتحدة بالتدخل في شؤون روسيا الداخلية.

بعد تسلمه السلطة في انتخابات عام 2000 أعلن بوتين أن روسيا لا يمكنها استعادة مكانتها كقوة كبرى والحفاظ على استقلاليه قرارها الداخلي والخارجي طالما ظلت معتمدة على ما تتلقاه من مساعدات خارجية, وبامكانها الأعتماد على مواردها الذاتية وان تتوقف تماماَ عن طلب أي مساعدات من الولايات المتحدة وباقي دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى. وبالفعل تحسن أداء الاقتصاد الروسي كثيراَ منذ عام 2000 بل إنه حقق نمواَ 6.9% خلال الفترة إلى أغسطس 2003 وأعلنت روسيا بألتزاماتها في دفع الدين الخارجي المستحق عليها عن عام 2002 والذي يقدر بـ17.3 مليار دولار, كما أعلنت روسيا إلغاء 35 مليار دولار من الديون المستحقة على الدول الأفريقية, وقد كان لهذا تأثيره المباشر في قبول العضوية الكاملة لروسيا في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى لتتحول بذلك إلى مجموعة الثمانية في يونيو 2002. وقدم بوتين عدة مبادئ جديدة لسياسة روسيا الخارجية تدور حول تطوير دور روسيا في عالم متعدد الأقطاب لا يخضع لهيمنة قوة عظمى واحدة, مع العمل على استعادة دور روسيا في آسيا والشرق الأوسط وعدم السماح للغرب بتهميش الدور الروسي في العلاقات الدولية وظهر ذلك بشكل خاص في إثر توقيعه لعقيدة الأمن الوطني لروسيا ثمّ الوثيقة اللاحقة التي أقرّها الرئيس في 20 يونيو من العام نفسه والمتعلقة بالعقيدة الخارجيّة الروسيّة, وقد أضاف بوتين ثلاث عناصر جديدة لمبدأ السياسة الخارجية الروسية:

أولها: أنه إذا استمر توسع حلف الأطلنطي شرقاَ فروسيا ستسعى إلى دعم الترابط بين دول الاتحاد السوفيتي السابق لحماية منطقة دفاعها الأول. وثانيها: أن روسيا تعأرض نظام القطبية الأحادية ولكنها ستعمل مع الولايات المتحدة في عدة قضايا مثل الحد من التسلح وحقوق الإنسان وغيرها, وأخيرا:َ فأن روسيا ستعمل على دعم بيئتها الأمنية في الشرق عن طريق تقوية علاقاتها مع الصين والهند واليابان.

لقد اختلف الوضع في عهد بوتين خاصة في السياسة الخارجيّة وإثر توقيعه لعقيدة الأمن الوطني لروسيا ثمّ الوثيقة اللاحقة التي أقرّها في يونيو من العام نفسه والمتعلقة بالعقيدة الخارجيّة الروسيّة. وبدأت روسيا تسعى لاستعادة مجد الاتحاد السوفيتي الضائع محاولة تحقيق توازن بين المعأرضة التدريجيّة الليّنة إزاء التوسّع الظاهر لحلف شمال الأطلسي في مناطق نفوذها السابقة، وبين المحافظة على علاقتها الحسنة بالولايات المتّحدة وكل من ألمانيا وفرنسا. وقد توافقت في تلك الفترة سياسة بوتين الهادفة إلى تحديث الجيش وخفض نفقاته عبر التخلّص من الأسلحة النووية المكلفة ومن الصواريخ البالستيّة، مع توجّهات الإدارة الأميركية لتجريد روسيا من قوّتها النووية التي تعتبر خطرا من المنظور الأميركي، سواء بقيت في خدمة الروس أم انتقلت إلى أيدي منظّمات إرهابية ودول أخرى نتيجة لتدهور الوضع الاقتصادي وحاجة روسيا المّاسة إلى المال. وفي هذا الإطار وقّعت روسيا والولايات المتّحدة معاهدة تخفيض الأسلحة الاستراتيجيّة الهجوميّة في موسكو في مايو 2002، ولم تكن روسيا قادرة على إتلاف عدد كبير من الرؤوس من دون المساعدة الماليه الأميركية، ممّا اضطرّها للمحافظة على علاقة جيّدة بالولايات المتّحدة. واختارت روسيا التعاون مع الولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية في نظام ثلاثي الأطراف، كخطوة سابقة على محاولة تعبئة المجتمع الدولي للحصول على التمويل. وكانت مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى من بين المشجعين لمبادرة التعاون الدولي في هذا المجال، خصوصاً منذ قمة موسكو في عام 1996، وتوّج التعاون الروسي الغربي في نهاية المطاف بالتحالف الدولي ضدّ الإرهاب إبّان أحداث سبتمبر، حيث وقفت روسيا جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وقدّمت جميع المساعدات اللازمة لها في إطار مكافحة الإرهاب. لقد ادركت القيادة الروسية أنّ أمامها فرصة سياسية لا تعوّض من أجل إعادة ترتيب العديد من الملفات وفقا لمصالحها. وكان الأمر يتطّلب منها وبكل بساطة، إظهار التضامن الكامل مع الولايات المتحدة وإبداء الرغبة في التعاون معها لمكافحة الإرهاب الذي كانت موسكو تشكو منه دائماً، خاصة في الشيشان, كما كان عليها مساعدة واشنطن في الحصول على تسهيلات في دول آسيا الوسطى، لاسيما في أوزبكستان وطاجيكستان، تمكّن قواتها من المشاركة الفعّالة في الحملة العسكرية على أفغانستان. وقد ذكر المستشار السياسي لمجلس الشيوخ الروسي فلاديمير شوبين أنّ الاقتراب الروسي من الولايات المتّحدة بعد سبتمبر لا يعني تخلّي روسيا عن إقامة عالم متعدد الأقطاب ولا عن سياسة متشعّبة المهام والأهداف للسياسة الخارجيّة. وقد أكد بوتين أن استخدام وسائل القوة بتجاوز الاليه الشرعية الدولية الراهنة سيؤدي إلى تخريب أسس القانون الدولي والنظام وينبغي أن تبقى الأمم المتحدة المركز الرئيسي لتنظيم العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين وستبقى روسيا الاتحادية تقاوم بحزم المحاولات الهادفة لتقليل دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن في الشؤون الدولية.

هل تمتلك روسيا القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والإعلامية والدبلوماسية والاستقرار السياسي الذي يمكنها من استراد الدور الذي كان يقوم به الاتحاد السوفيتي السابق، أي قطب يواجه أحادية الولايات المتحدة في الساحة الدولية؟
تبنت روسيا توجهاَ جديداَ في سياستها الخارجية يستند على رفضها لهيمنة القطب الواحد, مع تبني نهج الأنفتاح في تلك السياسة على جميع دول العالم، وتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية معها للعمل باتجاه بناء عالم متعدد الأقطاب. وعملت روسيا على مواقف تخالف الموقف الأميركي في أكثر من مناسبة على سبيل المثال:

الموقف الروسي من احتلال العراق في عام 2003. كانت الولايات المتحدة وبعد احتلالها للعراق قررت معاقبة روسيا اقتصادياَ جراء موقفها المعأرض للحرب, حيث كان لدى روسيا عقود نفطية ضخمة في العراق, وكانت شركاتها تقوم باستكشاف وإنتاج النفط في جنوب العراق. الأميركيون قرروا ألغاء هذه العقود كإجراء عقابي لها لموقفها من الحرب كذلك. وجاء الرد الروسي سريعاَ جداَ فقد تم إعتقال الملياردير الروسي خدروفسكي في نوفمبر 2003 بتهمة التهرب من دفع الضرائب وأممت الدولة مجموعته النفطية العملاقة يوكوس وجرى اعتقاله بعد لقاء سري بين خدروفسكي ونائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في يوليو 2003 وبدأ خدروفسكي بعد لقائه بديك تشيني محادثات مع شركات أكسون وشفرون حول توليهم موقع القيادة في يوكوس والمشاركة في مستوى ما بين 25% و40% من الأسهم بهدف إعطاء خدروفسكي حق الحصانة الفعلية ضد إمكانية تدخل حكومة بوتين نتيجة ارتباط يوكوس بالاحتكارات النفطية الأميركية العملاقة وبالتالي بواشنطن. لقد أرادت روسيا أن توجه رسالة قوية مفادها أن الحكومة الروسية ما زالت تمسك بزمام الأمور وان لديها معلومات كافية عما يجري في الداخل والخارج. وكان بوتين يدرك أنّ قيمة التبادل التجاري بين روسيا والولايات المتّحدة في عام 2001 بلغ 10 مليارات يورو في حينّ أنها بلغ بين روسيا وأوروبا 75 ملياراً أي سبعة أضعاف ونصف الضعف، وهو ما يعني أنّ بوسع روسيا الاستغناء عن الولايات المتّحدة، ولكنّها لا تستطيع الاستغناء عن أوروبا، لذلك اقترح بصورة ضمنيّة على أوروبا أن يعوّض لها النفوذ العسكري الأميركي، ويؤمّن لها إمداداتها من الطاقة، حتى يكسب الطرف الأوروبي في مواجهة أميركا.

ومن جانب أخر كانت روسيا تدرك ان توسع النيتو شرقاَ يستهدفها في المقام الأول وانها ستكون هدفاَ في هذا التوسع. فبدأت روسيا مع بوتين بمقاومة الاستراتيجية الأميركية في توسع النيتو فعملت على بقاء دول الكومنولث المستقلة بعيدة عن نفوذ النيتو ونفوذ السياسة الأميركية, وعززت روابطها مع دول الكومنولث المستقلة ووقعت معها اتفاقيات تعاون اقتصادي وأوصلت لها الغاز الروسي, وعملت على التأثير عليها لمنعها من الدخول في النيتو والوقوف بوجه توسع الحلف. وأدركت روسيا أهمية نفط منطقة قزوين, ولهذا تعتبر توسع النيتو أحد البؤر الخطيرة التي توتر الصراع بين النيتو وروسيا, وهذا ما أكدته أحداث الحرب في جورجيا التي كانت بمثابة رسالة مهمة للغرب بشكل عام ولاوكرانيا التي لديها خطط بالانضمام الى النيتو بشكل خاص أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي أزاء تمدد النيتو صوب الشرق وخاصة حدودها الغربية. وعلى صعيد متصل أثار موضوع الدرع الصاروخي الأميركي في بولندا وجمهورية التشيك, اثار مخاوف روسيا, لأنها رأت فيه استهدافا مباشر لها، لأنها تعتقد أن إيران لا تملك التقنية الصاروخية التي تستطيع من خلالها ضرب الدول الأوروبية كما تدعي الولايات المتحدة. لم تكترث الولايات المتحدة للاعتراضات الروسية حتى عام 2007 فقد حذرت وزارة الخارجية الروسية في أكتوبر من ذلك العام بأن روسيا ستتخذ الإجراءات الضرورية إذا نشرت بولونيا منظومة الدرع الصاروخي الأميركي الجديدة وقامت القوات الروسية في 25 ديسمبر بإجراء اختبار ناجح على صاروخ باليستي مدمر جديد أطلق من غواصة نووية (باسم ستينيفيا) وهو الصاروخ التي أكدت المصادر العسكرية الروسية انه قادر على اختراق الدرع الصاروخي الأميركي, كما أجرت روسيا اختبارات ناجحة على الأنظمة الصاروخية القادرة على اختراق وتجاوز جميع المنظومات الدفاعية المضادة للصواريخ, والتي ستنصب لاحقا في شمال القوقاز في كالينينجراد التي ستغطي تلك الأنظمة مناطق جميع جنوب القوقاز وبولندا لمواجهة الدرع الصاروخية الأميركية. ان الموقف الروسي القوي أجبر الإدارة الأميركية للتفاوض مع روسيا حول نصب الدرع الصاروخي, فبعد تسلم الرئيس الأميركي اوباما مهامه كرئيس قام بزيارة الى روسيا في يوليو 2009, واجرى مفاوضات مع الرئيس الروسي مدفيديف في قضايا إقليمية ودولية عدة منها نصب الدرع الصاروخي, ومن خلال ما ذكرته وكالات الأنباء ان الإدارة الأميركية تعهدت بتأجيل نصب الدرع الصاروخي والتفاوض حوله لاحقاَ. ويستمر الخلاف الجيوسياسي بين الجانبين من خلال عدة قضايا ومن أبرزها البرنامج النووي الإيراني. فروسيا لا تؤيد عزل إيران سياسيا أو محاصرتها اقتصاديا، وتسعى الولايات المتحدة وبسبب ضغط اللوبي الصهيوني لممارسة المزيد من الضغط على روسيا من جانب وتسعى لمساومتها في ملفات اخرى من جانب آخر, لأجل ان توقف روسيا تزويد طهران بالتكنولوجيا النووية.

وعلى صعيد متصل انعكس أرتفاع سعر النفط ايجابا على الاقتصاد الروسي, ولهذا بدأت روسيا تستعيد دورها في المناطق التي تراجع عنها هذا الدور ومنها منطقة الشرق الأوسط, خاصة اذا أخذنا بنظر الاعتبار ما جرى ويجري في المنطقة مثل الحرب الأميركية على العراق وتحريكها لجيوش النيتو في اسقاط الأنظمة باسم الشرعية الدولية واحتلالها, والممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني وعدوانها على لبنان, والدعم الأميركي الأعمى لإسرائيل ومحاولة تغيير النظام الدولي وإقامة الشرق الأوسط الكبير الذي يعطي فيه دورا «لإسرائيل» وهو لا يخلو من التوجهات العسكرية وفي إقامة القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة, والذي ستكون فيه دول متاخمة لحدود روسيا والصين وهذا يعني في الواقع العملي محاصرة الدولتين بالقواعد العسكرية, وهذا هو جزء من الاستراتيجية الأميركية في مجال الهيمنة الكاملة وهذا ما ترفضة روسيا ويبقى مشروع الشرق الأوسط يحمل قضايا أشكال وصراع قائم بين الدولتين, وما موقف روسيا الاخير في مجلس الأمن باتخاذ قرار الفيتو ضد فرض عقوبات على سوريا الا تأكيدا على حيوية هذا الدور في السياسة الخارجية وعلى التأثير المباشر على الأحداث في الشرق الأوسط والعالم. وينطبق الحال على مناطق أخرى في العالم ومنها أميركا اللاتينية. فقد زار الرئيس الروسي مدفيديف في منتصف نوفمبر 2008 البيرو ثم البرازيل وفنزويلا وافتتح المناورات البحرية المشتركة فيها ثم قام بزيارة الى كوبا خلال جولته في المنطقة, وقد قدمت موسكو قرضا لكوبا قدره 20 مليون دولار لاستخدامه في مجالات النفط والمناجم والنقل. وما زال الصراع الروسي الأميركي حاميا في القوقاز, وذلك بسبب الموارد النفطية في بحر قزوين, كما وإنها تعتبر مناطق عبور لخط أنابيب بحر قزوين, وبسبب معأرضة روسيا إنتماء هذه الدول لحلف النيتو وإقامة قواعد عسكرية للحلف على أراضيها. فروسيا بلا شك ترفض التواجد العسكري الأميركي في المنطقة. وتعتقد موسكو ان جورجيا هي الطرف الذي يسهل هذا الحضور العسكري, وتعتقد جورجيا أن روسيا تعيق استعادة سيطرتها على أبخازيا وأوسيتا الجنوبية. كل هذه القضايا عقدت الوضع في القوقاز وحولته الى ساحة صراع أخرى بين روسيا والولايات المتحدة. كان المفكّر الروسي ورئيس خبراء الجيوبولتيكا التابع للمجلس الاستشاري المتخصص بشؤون الأمن القومي التابع لرئاسة مجلس النواب الروسي ألكساندر دوجي اقترح عدداً من الاستراتيجيّات الجيوبوليتيكيّة التي ينبغي على روسيا اتّباعها في حال أرادت الوقوف أمام الولايات المتّحدة واستعادة مجدها الإمبراطوري السابق. ومن بين هذه الاستراتيجيات إقامة محور موسكو برلين كمقدّمة لتحالف بين روسيا وأوروبا على اعتبار أنّ ألمانيا والشعب الألماني فقط (كما يقول الكاتب) يتمتّعان بجميع الخصائص اللازمة لتحقيق التكامل الفعّال لهذه المنطقة (الإرادة التاريخيّة، الاقتصاد المزدهر، الوضع الجغرافي ذو الأفضليّة، وعلى اعتبار أنّ ألمانيا في قلب أوروبا كانت تقف تقليديّاً في وجه إنجلترا مشبّهاً إيّاها بقاعدة أميركية بحريّة.

ويضيف أنّ أوروبا لا تملك بمفردها المقدرة السياسية والعسكرية الكافية لتصل إلى الاستقلاليه الحقيقية عن الهيمنة الأطلسية للولايات المتحدة، كما أنّ الإمبراطورية الأوروبيّة بدون روسيا ليست عاجزة فقط عن أن تنظّم بصورة كاملة مداها الاستراتيجي إزاء نقص قدراتها العسكريّة ومبادرتها السياسيّة ومواردها الطبيعيّة، بل انّها لا تملك بالمعنى الحضاري المثل والتوجّهات الواضحة لمقاومة الهيمنة الأميركية. ولذلك فإنّ إقامة محور موسكو برلين يمكن له أن يحلّ مجموعة كاملة من المشاكل البالغة الأهميّة. وبمثل هذا المحور تحقّق روسيا الوصول المباشر إلى التقنيّات العاليه النوعيّة، وإلى التوظيفات الهائلة في التصنيع، وتحصل على المشاركة المضمونة لأوروبا في الصعود الاقتصادي بالأراضي الروسيّة. ومقابل هذه الشراكة تتلقّى ألمانيا تغطية استراتيجيّة من موسكو تضمن لها التحرّر السياسي من هيمنة الولايات المتّحدة، واستقلالاً في الموارد الطبيعيّة عن احتياطات الطاقة في العالم الثالث والتي تسيطر عليها الكتلة الأطلسية بحيث لا تترك لألمانيا فرصة البقاء عملاقاً اقتصاديّاً من جهة، وقزماً سياسياً من جهة أخرى، فيما تتخلّص روسيا من كونها عملاقاً سياسياً فقط وقزماً اقتصادياً. وعلى المتتبع للشأن الروسي أن لا ينسى النجاحات التي حققتها الدبلوماسية الروسية انطلاقا من مثل هذه المبادىء, فقد حرصت روسيا على تعزيز حضورها وترسيخ وجودها ومكانتها الإقليمية والعالمية, فقد توجهت الدبلوماسية الروسية إلى إقامة تحالفات دولية وإقليمية جديدة من خلال التوجة للدول المرشحة لكي تكون قوى عظمى على الساحة الدولية, مثل الصين والهند والبرازيل مع تعزيز تواجدها في أميركا اللاتينية وكذلك في المنطقة العربية. وتطويرعلاقتها مع دول الاتحاد الأوروبي وفي محيطها الإقليمي وعززت علاقاتها الاقتصادية والتجارية والسياسية مع هذه الأطراف جميعاَ.
وساعدها هذا الانفتاح في السياسة الخارجية على حضورها الفاعل في الساحة الدولية ومكنها من مواجهة التفرد الأميركي. وتمكنت روسيا من صياغة سياسة خارجية متقدمة مع الهند عبر توقيع اتفاقية استراتيجية في مجال التكنولوجيا المتطورة لا سيما النووية منها الأمر الذي أدى إلى تقارب واضح واستراتيجي بين البلدين, وقد حسنت روسيا علاقاتها وتعاونها مع الصين. كما دعت موسكو لإقامة نظام دولي جديد قائم على التعددية القطبية, واتخذت خطوات عملية بهذا الاتجاه وذلك لإيجاد واقع جديد في العلاقات الدولية, حيث تمكنت روسيا من تشكيل قطب واعد جديد في السياسة الدولية من أربعة بلدان كبرى, تمتلك هذه البلدان قوة اقتصادية ناهضة في العالم ستكون لها كلمتها في السياسة الدولية خلال السنين القادمة وعرف هذا القطب الواعد بتجمع بريك BRIC ( الأحرف الأولى للبلدان وهي البرازيل وروسيا والهند والصين باللغة الإنجليزية). واول قمة لرؤساء البلدان الاربعة عقدت في روسيا حسب ما نشرته بعض وكالات الأنباء آنذاك وذلك في منتصف يوليو عام 2009 ومن الأهداف التي حددتها القمة هو إدخال إصلاح على النظامين الاقتصادي والنقدي العالمي. وَتوسع هذا الاتفاق اوالتحالف وانضمت اليه جنوب أفريقيا واصبح مكون من خمسة دول ويعرف باسم BRICS. وما يمييز هذه البلدان إنها دول كبيرة من حيث سعة المساحة وعدد السكان والناتج القومي وارتفاع معدلات النمو السنوية, فهذه الدول ستكون جديرة بتكريس واقع جديد في النظام الدولي العالمي سيؤدي إلى كسر التفرد في صنع القرار الدولي وبوسائل غير عسكرية وسيكون هذا التجمع هو القوة الاقتصادية الأولى في العالم وسيلعب دوراَ مؤثراَ في السياسة الدولية والمشاركة في صنع القرار الدولي. على اثر تحسن العلاقات بين روسيا والصين, تم إقامة اتفاق جديد بينهما وسمي باسم (معاهدة شنجهاي للتعاون) وذلك في العام 2001 وانضمت اليه أربع جمهوريات سوفيتية سابقة في آسيا الوسطى هي كازاخستان وأوزبكستان وطاجكستان وقيرغيزيا. وفي قمة شنجهاي للعام 2005 إتخذ قرار بطرد القواعد الأميركية من وسط آسيا, وكان العام 2005 قد شهد في شهر أغسطس مناورات عسكرية مشتركة بين روسيا والصين الأولى في تأريخهما وكان حدثاَ مثيراَ للدهشة والأهتمام البالغ لأنه لم يسبق لهاتين الدولتين الكبيرتين أن أجريا أية نشاطات عسكرية مشتركة في الفترة السابقة بسبب العديد من الخلافات بينهما. نجحت الدبلوماسية الروسية في إقامة تحالف او تفاهم مشترك بين الدول الثلاث وهي روسيا والهند والصين. ففي عام 2005 قد تحقق لقاء بين وزراء خارجية الدول الثلاث في موسكو وقد أكد اللقاء على شحن التحالف الثلاثي بنبض جديد ليس موجهاَ ضد أحد وأن القاسم المشترك بينهما هو مواقفهما المتقاربة تجاة بنية النظام العالمي الجديد وتوسيع دور المجتمع الدولي وبشكل خاص محورية دور الأمم المتحدة في مواجهة تحديات العصر. ان هذا التحالف يعد حدثاَ بالغ الأهمية في السياسة الدولية, وله تأثير سواء على الولايات المتحدة الأميركية أو اليابان أرتباطاَ بالخلاف الروسي الياباني على جزر كوريل. وعملت روسيا على تعميق التوجه الاورو آسيوي في سياستها الخارجية في اطار محيطها الإقليمي والذي يتمثل في دول الاتحاد السوفيتي السابق دول الكومنولث المستقلة, والتي تعتبر روسيا هذه الدول تمثل خط دفاعها الأول, لا سيما وان روسيا تعمل بكل الطرق على ابقاء هذه الدول خارج حلف النيتو.
كما أن هذه الدول أصبحت ساحة مفتوحة للمنافسة الدولية بحكم ما تملكة من موارد الطاقة. مما جعل هذه المنطقة ذات أهمية استراتيجية وروسيا بدأت في تهيئة إمكانياتها لهذه المنافسة الدولية وفي إملاء الفراغ وتعزيز روابطها مع دول الكومنولث المستقلة. وعقدت اتفاقيات اقتصادية وتجارية معها ومعاهدات استراتيجية ومن هذه المعاهدات هي معاهدة الأمن الجماعي التي تربط روسيا مع بعض هذه الدول. وتعأرض روسيا ايضاَ دخول دول البلطيق في حلف النيتو وهي لاتفيا وأستونيا وليتوانيا, هذا التوجه في سياستها الخارجية مكنها من تعزيز تواجدها في محيطها الإقليمي. ويجب التأكيد في هذا الأطار على جهود روسيا بالتقرب من الأوروبيين، للتقليل من أعتمادها على الأميركيين، أدّى النشاط الروسي في هذا المجال إلى قيام محور روسي فرنسي ألماني معأرض للحرب على العراق، تأكّد في توقيع الإعلان الثلاثي الروسي، الفرنسي، الألماني ضدّ الحرب في 10/2/2003. عرقلت الدول الثلاث حصول الولايات المتحدة على الشرعية الدولية للحرب، وذلك بالتأكيد على أنّ قرارات مجلس الأمن السابقة بشأن العراق لا تعطي أميركا تفويضاً تلقائياً باستخدام القوّة، وانّه إذا أرادت ذلك فعليها استصدار قرار جديد. وأضطرت الولايات المتّحدة الى تعديل مشروع القرار 1441 وجعله خالٍ من أي إشارة صريحة كتفويض لأميركا باستخدام القوّة. وسعت موسكو إلى تشكيل تحالف من نوع آخر مع العالم الإسلامي لضمان ما تبقّى من مصالحها ونفوذها في محاولة لإعادة فرز وتشكيل مختلف القوى والتحالفات، ولا سيما في ظل مشروع الشرق الأوسط الكبير. لذا أعلنت روسيا عن رغبتها بالانضمام إلى منظّمة المؤتمر الإسلامي بصفة مراقب في أغسطس من العام 2003 خلال زيارة بوتين لماليزيا، وأعقب ذلك زيارة هامة لوليّ العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز إلى روسيا، حيث كانت الأخيرة تحاول إقناع السعوديين بعدم الاعتماد كليّاً على التسلّح الأميركي على الصعيد العسكري، وذلك لمواجهة التحدّيات المقبلة في ظلّ الحملات الأميركية الإعلامية الشديدة في تلك الفترة إزاء المملكة العربية السعودية، كما تمّ الاتّفاق بين الطرفين على موضوع النفط بشكل موحّد. وكانت روسيا رفضت طلباً أميركيّاً يقضي بإيقاف تعاونها النووي مع إيران، واعتبر بوتين، في اتّجاه تعزيز هذا التحالف مع العالم الإسلامي، إنّ حصار الرئيس الفلسطيني عرفات يعتبر خطأ يجب التراجع عنه. و أكّد على ضرورة حلّ القضيّة الفلسطينيّة بشكل عادل وعلى جعل خارطة الطريق قراراً دولياً صادراً عن مجلس الأمن، في محاولة من روسيا لكسر التفرّد الأميركي بالقضيّة والتخفيف من الدعم الأميركي لإسرائيل في هذا المجال. وسعت روسيا للتقرب من تركيا حيث قام الرئيس الروسي بوتين في 6/12/2004 بزيارة أكثر من تاريخيّة إلى تركيا (التي طالما اعتبرت روسيا خطراً عليها وفق النظام الدولي السابق) هي الأولى على الإطلاق لزعيم روسي حقيقي منذ أن أقامت موسكو علاقات دبلوماسية رسمية مع الدولة العثمانية في العام 1492 وقد بدا واضحاً أنّ روسيا تريد أن تظهر لواشنطن أنّ بمقدورها اجتذاب حلفاء سابقين لها ومن ضمنهم الأتراك الذين لطالما لعبوا دور الجدار الفاصل بين روسيا وحلف شمال الأطلسي على مدى نصف قرن. كما أنّ هذه الزيارة عمدت إلى تعزيز التعاون في المجالات كافة لا سيما السياسية والاقتصادية مع إمكانية تعاون من أجل بناء محطّات للطاقة النووية في تركيا. وتعتقد روسيا أن هكذا تعاون مع أهم دولة في المنطقة هي صلة الوصل بين آسيا وأوروبا من شأنه إحياء تحالف روسي إسلامي في مواجهة الغرب (أميركا) خصوصاً أنّ هكذا تحالف كان قد دعا إليه منذ القدم جمال الدين الأفغاني الذي كاد أن يقنع السلطان عبدالحميد به، إلا انّه لم يلبث أن دفع حياته ثمناً لذلك عندما اغتاله الإنجليز.

وشهدت المحافل الدولية ووسائل الإعلام والرأي العام العالمي, تصعيداَ في لهجة الخطاب والهجوم الدبلوماسي من جانب روسيا في علاقاتها مع الولايات المتحدة, ففي الخطاب الذي ألقاه بوتين أمام مؤتمر الأمن الذي عقد في ميونخ في فبراير 2007 شن هجوماَ حاداَ على السياسة الأميركية وإتهمها بجر العالم إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار, وحملها المسؤولية عن تفجير الأزمات الإقليمية وأكد أن سياسة القطب الواحد أثبتت عجزها وفشلها وخطرها على العالم. وفي العام نفسه أجرت دول معاهدة شنجهاي مناورات عسكرية ضخمة الأولى من نوعها أقيمت المناورات على الأراضي الروسية، وطلبت الولايات المتحدة حضورها كمراقب ورفض طلبها بينما حضرها مراقبون من الهند وإيران. أثارت المناورات قلق ومخاوف الولايات المتحدة الأميركية. وفي العام ذاته قررت القيادة الروسية في أغسطس السماح للطيران الاستراتيجي الروسي من نوع (تو160) معاودة نشاطة والقيام بدوريات خارج الأجواء الروسية بعد فترة توقف دامت خمسة عشر عاماَ حتى أن طائرتان روسيتان قد أقتربتا ليلة 25-12-2007 من الأجواء الدانماركية بشكل غير مسبوق. ثم أقدمت موسكو على خطوة عملية اخرى إبتداءَ من 13-12-2007 من جانب واحد على تعليق العمل بمعاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا بينها وبين النيتو وقد صرح الرئيس الروسي بوتين أن المعاهدة فقدت مغزاها بعد اختفاء حف وارسو.

يعتقد بعض الخبراء أن العالم يشهد بوادر إقامة نظام دولي جديد ينتهي معه نظام الأحادية القطبية الذي هيمنت فيه على العالم لمدة عقدين الولايات المتحدة الأميركية وسيطرة فيها على صنع القرار الدولي. أن روسيا بدأت تفرض واقعا جديدا في العلاقات الدولية, بأتجاه إقامة نظام التعددية القطبية, وهناك قوى دولية أخرى صاعدة كالصين والهند واليابان إضافة للاتحاد الأوروبي وهذه القوى ستفرض إرادتها في المشاركة في صنع القرار الدولي وتعمل باتجاه إقامة نظام التعددية القطبية. لقد أصبحت روسيا مؤهلة أكثر من ذي قبل لأن تلعب دورا في السياسة الدولية بعدما شهدت روسيا الكثير من الاستقرار السياسي الداخلي وفي تطورها الاقتصادي, يعود لنهج الأبتعاد عن اشتراطات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ويؤكد ذلك على أهمية تحكم الدولة بالاقتصاد والإنتاج والتوزيع بما فيها توزيع الثروة. وعلينا ان لا ننسى أن 60% من حاجة أوروبا للغاز يأتي من روسيا وتستطيع موسكو أن أرادت أن تمنعه عن أي دولة فتهز اقتصادها بعنف وتمتلك روسيا أكبر إحتياطي للغاز في العالم. كما ان أوروبا تعتمد على النفط الروسي ايضاَ, وروسيا تمتلك موارد طبيعية أخرى فتعد روسيا من أكبر الدول الغنية بالثروات الطبيعية, فحاجة اقتصاديات العالم الى روسيا اليوم هي كبيرة. ولقد إزداد حجم التجارة الخارجية لروسيا في عام 2007 بنسبة 24% وبلغ 580 مليار دولار, وعادل قسط الصادرات في التجارة الخارجية 60% والاستيراد 40%. وتوقفت الحكومة الروسية تماماَ عن طلب أي مساعدات من الولايات المتحدة وباقي دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى وبالفعل تحسن أداء الاقتصاد الروسي كثيراَ منذ عام 2000 بل إنه حقق نمواَ 6.9% خلال الفترة إلى أغسطس 2003 وأعلنت روسيا بالتزاماتها في سداد الدين الخارجي المستحق عليها عن عام 2002 والذي قدرب17.3 مليار دولار, كما أعلنت روسيا إلغاء 35 مليار دولار من الديون المستحقة على الدول الأفريقية, وقد كان لهذا تأثيره المباشر في قبول العضوية الكاملة لروسيا في مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى لتتحول بذلك إلى مجموعة الثمانية في يونيو 2002 .

وبهذا نستنتج أن المتغيرات الاقتصادية التي حصلت في روسيا نتيجة تطورها الاقتصادي وارتفاع معدلات النمو بعد فترة حكم الرئيس الأسبق يلتسن كانت أحد العوامل التي ساعدت لعودة روسيا لدورها في السياسة الخارجية. والحقيقة الأكثر قوة أن قوة روسيا تكمن في إمتلاكها للتكنولوجيا العسكرية المتطورة وللسلاح النووي ومخزونها من هذا السلاح كبير جداَ حيث انها قد ورثت القوة العسكرية والنووية للاتحاد السوفيتي. وهي تواصل تطوير التكنولوجيا العسكرية من خلال تخصيص مزيد من النفقات العسكرية وتضع الخطط للمحافظة على تفوقها النووي فقد أعلن الرئيس الروسي مدفيديف في اجتماع هيئة وزارة الدفاع أن عملية إعادة تسليح الجيش والأسطول الروسيين على نطاق واسع ستبدأ في عام 2011, وأعلن خططاَ لبناء نظام ردع نووي فعال بحلول عام 2020, وكذلك نظام للدفاع الفضائي, وكشف وزير الدفاع الروسي أن الترسانة النووية الروسية ستمتلك قريباَ صواريخ بعيدة المدى لا يمكن لأي نظام دفاعي في العالم التصدي لها الآن, وحتى في المستقبل المرئي، بلا شك ان تحديث القوة العسكرية الروسية, وما وصلت له روسيا من تطور في مجال التكنولوجيا العسكرية سيثير اهتمام ليس فقط الولايات المتحدة الأميركية, وانما دول عديدة هي بحاجة للمساعدات العسكرية الروسية. لا سيما وان منظومة الصواريخ الروسية من طراز S-300 أرض جو و S-400 هي الأكثر قوة والأكثر فعالية من منظومة صواريخ باتريوت الأميركية الصنع, وتحقق قوات الدفاع الجوي - الفضائي التي تم انشائها في عام 2001 مهامها بواسطة صواريخ مضادة من طراز400 S في هذه المرحلة. وسيتم تسليحها بصواريخ متطورة من طرازS500 في المرحلة القادمة. ويستطيع صاروخ 500 S ضرب الأهداف الأسرع من الصوت في الفضاء القريب من على بعد 600 كيلومتر. وتم تحديث طائرة سوخوي 30 المقاتلة الى سو-35 أس وقال عسكريون روس إن الاختبارات أظهرت ان كفائتها تفوق مثيلاتها الأجنبية رافال ويوروفايتر 2000 وأف-15 وأف-16 وأف-18وميراج 2000، وتستطيع مقارعة أف-22, وأف-35. يُذكر أن مقاتلة سو-35 أس تستطيع اكتشاف الأهداف الجوية المطلوب ضربها من على بعد يزيد عن 400 كيلومتر. وتحتل روسيا الآن المرتبة الثانية عالمياَ بعد الولايات المتحدة الأميركية في تصدير التكنولوجيا العسكرية. كما أن أن روسيا هي دولة رائدة في مجال الفضاء وإطلاق المركبات والأجهزة الفضائية ولديها تقنيات حديثة ومنظومات متطورة قادرة على مواكبة التطور الغربي في هذا المضمار. وروسيا دولة متطورة في مجال امتلاك تكنولوجيات الطاقة الذرية, وقد أنشأت محطات ذرية في مختلف دول العالم ومنها على سبيل المثال الصين والهند وإيران وتركيا وفي أميركا اللاتينية ودول عدة, وتتمتع بطلب متزابد في السوق العالمية في هذا المجال. فقد عهد الرئيس الأسبق بوتين للنائب الأول لرئيس الوزراء سيرجي ايفانوف بالاشراف على مجال تطوير التكنولوجيا وفي تصريح لايفانوف عقب اجتماع عقده بتأريخ 20-4-2007 قال أن لروسيا طموحات كبيره في قطاع الطاقة الذرية وروسيا تخطط لزيادة بناء المحطات الكهروذرية فيها، وفي الخارج وأشار أن روسيا ستواصل الأحتفاظ بحصتها التي تبلغ 40% من السوق العالمية لتصنيع أجهزة الطرد المركزي اللازمة لتخصيب اليورانيوم وأشار أن الدولة ستولي اهتماماَ خاصاَ بتطوير المحطات الكهروذرية العائمة وتصنيع كاسحات الجليد الذرية والتقنيات العسكرية النووية.
أن ظهور القطب الروسي قد يعيد الاستقرار إلى العالم حيث سيعود معها دور الأمم المتحدة وميثاقها الدولي في حفظ السلم والأمن الدوليين وسيعود معها دور البلدان النامية في السياسة الدولية, بما يوجد التكافؤ في العلاقات الدولية بين دول العالم إنطلاقاَ من مبدأ سيادة الدول، خاصة وان حقبة العقدين الماضية التي مر بها العالم في ظل نظام القطب الواحد أكدت على عدم عدالة هذا النظام, يؤكد ذلك ما مر به العالم من أحداث من إخلال في التوازن الدولي, مع استخدام القوة في العلاقات الدولية، وإضعاف دور الأمم المتحدة كمنظمة دولية, واضعاف الشرعية الدولية وتلاشى دور الدول النامية في هذا النظام والتدخل في شؤونها الداخلية, وانتهاك سياداتها الوطنية وتعرضها للحروب الأهلية والإرهاب والاحتلال. إضافة الى أن خطورة هذا النظام الدولي انه مشوب بالغموض والمفاجئات في الأحداث وأن هذا بحد ذاته يؤشر إلى عدم الاستقرار في مناطق عديدة من العالم بحكم استراتيجية الولايات المتحدة وأهدافها البعيدة المدى. وفي ظل نظام القطب الواحد إتسعت مظاهر الفجوة بين اقتصاديات البلدان النامية واقتصاديات الولايات المتحدة وحلفائها الغربيون وشركاتها الاحتكارية الدولية. وما زيادة أعداد الباحثين عن عمل وإتساع دائرة الفقر والمهمشين على الصعيد العالمي وعلى صعيد كل بلد سوى بعض مظاهر هذه الفجوة وهذا التناقض بين اقتصاديات البلدان الغنية ودول العالم الثالث.

لقد أكدت التجارب خاصة في العراق وأفغانستان أن المفاهيم والشعارات الأميركية التي تبرر بها تدخلها في الشؤون الداخلية للبلدان, من هذه المفاهيم او الشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان, ان هذه الشعارات الأميركية هي مجرد شعارات تسويقية تستهوي المضللين السياسين الذين يعولون على المشروع الأميركي, فأنها من حيث الواقع مضللة ولا تحقق الديمقراطية التي تريدها الشعوب ولا تضمن حقوق الإنسان. إن مصالح الولايات المتحدة الأميركية تلتقي مع تنامي التطرف والعنف لذلك تراها تشجع القتل والنهب والتفرقة في هذا البلد او ذاك، خاصة في الشرق الأوسط, حماية لإسرائيل في المقام الأول، ومما يؤسف له إنجرار الجامعة العربية وراء الأوهام الأميركية، فركض العرب الى مجلس الأمن لاستصدار قرار ضد سوريا يعرفون جيدا أنه قرار سيصب في صالح إسرائيل التي ستجلس مرتاحة قريرة العين وهي ترى العرب والمسلمين يتحاربون والقرآن الكريم شدد على الإصلاح (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، الا أن الجامعة أبت، وتناست أن إسرائيل تقتل الفلسطينين يوميا وأن الغرب لم يرفع ما يرفعه اليوم ضد سوريا، ولن يرفعه، ضد إسرائيل. وهي تريد تغيير النظام في دمشق كي ترى سوريا كما يحدث في العراق وبلدان عربية أخرى، بلدا مشرذما ضعيفا لا حول له ولا قوة.

يبدو أن العالم سيحتاج الى قطب جديد. وسواء ظهر محور أوروبي - روسي أو روسي صيني أو غيره, فان العالم سيبقى بحاجة ماسة الى التعددية القطبية, وسيكون الاتحاد الأوروبي إضافة الى الصين والهند واليابان المؤهلة كأقطاب دولية جديدة مع روسيا العائدة بقوة كقطب دولي, سيكون لهذه الأقطاب أو القوى وبالذات روسيا دور وتأثير فاعل وذات ابعاد دولية لتخليص العالم من الوحل الذي وقع فيه في ظل نظام القطب الواحد.

محمد نجيب السعد
باحث أكاديمي عراقي



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 215 / 2166078

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ملفات  متابعة نشاط الموقع فكرسياسي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2166078 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010