الأربعاء 15 شباط (فبراير) 2012

أيام للكلام عن الثورات العربية

الأربعاء 15 شباط (فبراير) 2012 par جميل مطر

قضينا أربعة أيام نتكلم. لم نفعل شيئا غير أن نتكلم. الثورات العربية كانت الموضوع، ولكنه لم يكن السبب الوحيد الذي منعنا من أن نفعل شيئا آخر غير أن نتكلم. فقد اختاروا لنا مكانا نائيا في منتجع يبعد عن عاصمة البلاد سبعين كيلو مترا، واختاروا موسم الشتاء حين يندر وجود السياح الأوروبيين، وعلى كل حال كانت الثورة التونسية حائلا أقوى من الشتاء لمنع السياح من الحضور. ولم تبخل السماء بأمطارها ولا الطقس ببرودته. اكتملت العناصر التي تضمن لمنظمي المؤتمر حضورا مستمرا ومتواصلا من جانب المشتركين وكلاما لا يتوقف.

حذروني قبل السفر من الملل، فالثورات وإن كانت فعلا مثيرا وموضوعا شيقا، إلا أن أربعة أيام مدة طويلة ليقضيها الإنسان في الكلام مع أشخاص مهما بلغ الشوق لرؤيتهم وتبادل الرأي والمعلومات معهم، وفي مكان منعزل مهما بلغ جمال طبيعته ونقاء هوائه. هي أيضا مدة طويلة إذا أخذنا في الحسبان أنها المرة الثانية خلال عشرة أيام التي أسافر فيها إلى البلد الذي انبعثت فيه أول حلقة في مسلسل الثورات العربية. انقضت الأيام الأربعة ولم أشعر بملل ولم أندم.

لن أكون عادلا أو منصفا إن حاولت تلخيص ما دار من نقاش وما ورد في أوراق بحثية تجاوز حجمها ستمائة صفحة. إنما أستطيع أن أنقل انطباعات وقليل من التفاصيل والحقائق. وأعترف أنني عدت بناء على هذه الانطباعات وما سمعت من حقائق ومعلومات وقد ازددت اقتناعا بآراء ومواقف سبق أن عبرت عنها خلال شهور الثورة وتسربت شكوك في قناعات أخرى.

أعود، مثلا، واثقا من أن المشكلة الأعظم في الثورة المصرية وكذلك في الثورات العربية الأخرى هي، وستظل لسنوات عديدة قادمة، التوصل إلى توافق بين الديمقراطية من جهة والإسلام السياسي، حاكما كان أم مشاركا في الحكم، من جهة أخرى، وبينها من جهة وبين القوميين وغلاة الوطنية من جهة أخرى، وبينها من جهة وبين قطاعا في التيار الليبرالي من جهة أخرى وهو قطاع مستعد للتنازل عن ليبراليته وتمسكه بالديمقراطية في سبيل منع التيار الديني من الوصول للسلطة أو النجاح في الحكم واستمراره فيه. بمعنى آخر تعززت قناعتي بأن الديمقراطية، التي ثارت الشعوب من أجلها وبدأ بعضها كما في تونس ومصر يمارس درجة منها، تقع تحت الحصار وأخشى من أنها ستتعرض لأزمات عنيفة في الشهور أو السنوات القليلة القادمة قبل أن تتوافق مع خصومها وتستقر.

تكلم الكثيرون المنتمون لتيارات سياسية متعددة عن التطور الذي تشهده الثورات العربية الخمس، وبدا الميل الواضح إلى الديمقراطية كهدف أسمى، ولكن بدا أيضا ميل أشد إلى التمسك بعقائدهم الأسبق أو الكامنة، مثل عقيدة الدين السياسي والعقيدة القومية والعقيدة الليبرالية الرافضة لهاتين العقيدتين.

الشيخ راشد الغنوشى الذي قضى يوما وبعض يوم في المؤتمر دافع عن حركة النهضة التي تقود حكومة الثورة في تونس. قال إن حركة النهضة ليست حزبا دينيا كما يردد خصومها، وأن الحكومة التي تقودها ليست حكومة إسلامية، بل حكومة ديمقراطية تعددية تضم وزراء من التيارات القومية الليبرالية واليسارية، وقال إن نجاح حركة النهضة في تشكيل هذه الحكومة التعددية الوسطية لأكبر دليل على أن الفصل بين الإسلاميين والعلمانيين مصطنع وبعيد تماما عن الواقع.

كان وجود الغنوشي في المؤتمر مستمعا ومتحدثا ومناقشا، حافزا لتوجيه العديد من الاستفسارات والأسئلة الدقيقة والصريحة إلى حد إثارة الحرج، وأظن أن بعض الأسئلة كان حافزا لإجابات أخذ إعدادها وقتا وجاءت بعد استمزاج وتفكير عميقين خاصة أن الأجواء في تونس كانت في ذلك اليوم مشحونة بسبب السرعة التي اتخذ بها رئيس الجمهورية قراره بطرد السفير السوري في تونس “احتجاجا على وحشية نظام الأسد في التعامل مع شعب حمص”. جاءت الانتقادات للقرار من القيادات «القومية»، وبعضها مشارك في الحكم ومن تيارات سياسية أخرى وانتظمت مظاهرات أحاطت بوزارة الخارجية.

كان الرد الرسمي، بخاصة من جانب التيارات الدينية الحاكمة، هو أن قرار الطرد لم يتخذه الرئيس منفردا ولكن بالتشاور مع رئيس الحكومة حسبما ينص «الدستور الصغير». وتساءلت الحكومة إن كان يتعين عليها إجراء استفتاء على كل قرار تتخذه قبل إعلانه، أو التشاور بشأنه مع قوى الثورة الأخرى. جاء أيضا في دفاع الحكومة أنها باتخاذها هذا القرار لم تكن تحاول المزايدة على الثورة أو الثوار. الجدير بالذكر أن بعض تيارات المعارضة اتهمت الحكومة بأنها إنما اتخذت القرار بطرد السفير استجابة «لتوجيهات» من دولة قطر أو دول الخليج بشكل عام التي قررت في اليوم نفسه سحب سفرائها من سوريا. تصادف أيضا أنه كان اليوم الذي اتخذ فيه مجلس الشعب المصري توصيته بتجميد علاقاته بالبرلمان السوري.

كلاهما، الشيخ راشد الغنوشي والدكتور رفيق عبدالسلام وزير الخارجية، انتهزا فرصة وجود حوالي ستين من قادة الفكر والرأي في العالم العربي، ليعلنا أن حكومة حركة النهضة وحلفائها لن تعترف بإسرائيل ولن تطبع العلاقات معها.. وأسر الوزير التونسي إلى المؤتمر بأنه عائد لتوه من مقابلة مع مسئول ألماني كبير أراد مثل غيره من السياسيين الأوروبيين الذين اجتمع بهم التأكد من نوايا حكومة تونس الإسلامية تجاه إسرائيل، قال إنه أجابه بأن تونس لن تعترف بإسرائيل «رغم أننا ندرك جيدا ما يمثله هذا التصريح من تهديد لمصالحنا الاقتصادية في ألمانيا»، وقال إن بلاده نظامها جمهوري ولغتها العربية ودينها الإسلام، وأن أحدا «لا يستطيع إجبارنا على إعلان أننا علمانيون، فعلمانيتنا نابعة من فهمنا الصحيح للعلمانية، وهذه على كل حال نقطة تخصصي الأكاديمي وموضوع أطروحتي للدكتوراه». ليس خافيا على من يتابع سباق الخليجيين على النفوذ في شمال أفريقيا أن التنافس بين المملكة السعودية ودولة قطر صار حديث الوسط السياسي والحزبي في تونس ويتردد بقوة السؤال عن أسباب برود العلاقة السعودية التونسية ويبدو أنها بالفعل عديدة ومهددة بالتفاقم.

تعمد صديق سوداني ينتمي إلى تيار ليبرالي يساري أن يوجه عتابا صريحا إلى الشيخ الغنوشي، قال: «عتابي عليك يا شيخ، أنك دعمت ديكتاتور سوداني بينما كنت تأخذ موقف المعارضة من ديكتاتور تونسي. وأضاف مشككا في كفاءة الأداء السياسي للقيادات الإسلامية فقال، إن التجربة الإسلامية التي أعرفها جيدا هي التجربة السودانية، وهي المسئولة عن انفصال جنوب السودان وتشققات في جميع أنحائه والعديد من المعتقلين السياسيين. جاء رد الغنوشي خجولا وإن وجد فيه الحاضرون مغزى ومعاني، إذ قال «لقد تصرفت وقتها وفق ما كان متاحا لي من معلومات، وعلى كل حال لم يطل أمر علاقتي بالسودان أكثر من ستة شهور إذ سرعان ما وصلتني موافقة بريطانيا على طلب اللجوء السياسي».

كان الانقسام بين المشتركين في المؤتمر واضحا وصريحا على الموقف من الثورة السورية وأداء مجلس التعاون الخليجي وحق نظام بشار الأسد في استخدام العنف، كان الانقسام أقل وضوحا وصراحة عند مناقشة موضوع الثورة في البحرين والمعايير المزدوجة التي استخدمتها أنظمة حكم عربية عديدة ودول الغرب، وكاد الانقسام ينعدم أثناء الحوار الذي دام لمدة ساعة ونصف الساعة حول مستقبل الأوضاع في الجزيرة العربية بشكل عام واحتمالات نشوب الثورة فيها.

توقف الكلام واستأذن المتكلمون في العودة إلى بلادهم، بعد أن وعد مركز دراسات الوحدة العربية بعقد مؤتمر آخر قريب في القاهرة عاصمة الثورة الثانية، لدراسة قضية العلاقة بين الإسلام السياسي والديمقراطية، باعتبارها أهم قضايا مستقبل الثورة والاستقرار في المنطقة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165243

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165243 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010