الجمعة 10 شباط (فبراير) 2012

الأبطال الخلفيون للثورات

الجمعة 10 شباط (فبراير) 2012 par د. عبد الاله بلقزيز

ليس من سبيل إلى الظن أن المصادفة ما قَرَنَ بين مطلبي الحرية والعدالة الاجتماعية في شعارات حملها المتظاهرون، وصدح بها آلاف الناس، بل ملايين منهم، في الميادين والساحات العامة، في ما أطلق عليه - غربياً- اسم “الربيع العربي”، إنما الضرورة الموضوعية هي ما قضى بذلك، وحمل عليه حملاً.

على أنه إذا كان في الاقتران بينهما “أسباب نزول”، فإن من صدعوا بالمطلبين مقترنين، ما كانوا ليأتوا الأمر إلا من باب استيعاء للتلازم بينهما. ومع أننا لسنا نستبعد أن يكون المطالبون بالحرية والعدالة الاجتماعية جمهورين مفترقين، أو حتى متمايزين: على حدود التمايز بين الطبقات، والمصالح، والأفكار، والأولويات، فإن الذي لا مِرْية فيه أن الاتصال بين المطلبين ظل مفتوحاً، في الانتفاضات والتظاهرات، ولم نعثر في يومياتها على قرينة صراع أو تنافر، ولا على أي مظهر من مظاهر الوقيعة بين فكرتين وجمهورين، على ما قد يكون بينهما من تنافر. والملاحظة هذه إنما تشجع على الاعتقاد بأن التلازم بينهما، في الوعي الجمعي للمنتفضين، تلازم ماهَوِيّ، أو هو هكذا - على الأقل- عند الأغلب الأعم منهم.

وسواء صح عندنا أن التلازم والاقتران، بين مطلبي الحرية “الديمقراطية” والعدالة الاجتماعية، قائم، ثابت، في حكم المؤكد، أو محض افتراض يتزيد في طلب المرغوب، وينزله منزلة الكينوني المتعين، فإن الأمرين سيان إن وقفنا على “أسباب نزول” المطلبين/ الشعارين، أو تبينّا أي تلك الأسباب كان حاملاً متظاهرة الانتفاضات على تمييز شعارين من كثير غيرهما يحمله الحملة، رسماً بالحروف على لافتات، أو يصدح به الهتيفة راجلين ومحمولين على الاكتاف، إذ لا تتسع مساحة الفارق، هنا، بين أن يتلازم المطلبان فينعقد جمعهما عند نقطة تقاطع: تركيبية أو تجاورية، وبين أن يتمايزا فيتخذا معاً وجهتين لهما، مختلفتين، عند مفترق فاصل وحاسم. إنها لا تتسع في حال الاشتراك في العلة، أعني في السبب الذي أسس لهما معاً: مجتمعين أو منفصلين.

ولد هلال شعار الحرية في سماء الاستبداد، في الهزيع الأخير من دورته الزمنية المديدة، شأنه شأن هلال العدالة الاجتماعية الذي ولد في سماء الفساد بعد أن بلغ من العمر عتيّا، وقضى ربك وشعبك بأن يحتسب عليه الناس في يوم الناس. وإذا كان ثمة من بطل خفي نفخ في الصور، وأخرج ملايين الناس إلى الشوارع، ومهر نص الثورة بتوقيعه، فأجازها وأمضى أمرها، فهو الاستبداد، وهو الفساد. الحاكم العربي المستبد، وآل بيته، وصحابته، والتابعون، والبطانة والأخذان، هم الأبطال الخلفيون غير المعلنين للثورة ولشعار الحرية والديمقراطية. والفساد الذي في حضنهم نشأ، وربي، واشتد عوده، وتوزع أفقياً وعمودياً في النسيج المجتمعي، وأعيد توزيعه أنصبةً ومراتب، على الطبقات والفئات والعصبيات والمناطق، هو هو قابلة الثورة وسبيلها السالك إلى شعار العدالة الاجتماعية. الشعب حصد، في الشوارع والساحات، ما ازدرعه الطغاة والبغاة والفسدة، ممن ربضوا على صدره أربعين حولاً. الجميل في المشهد كله أنه كان، هذه المرة، قاصراً في الحقل ليحصد ما فاته، في العقود الماضية، حصاده ودراسه من فلح الطغم والأوليغارشيات ونبتها.

ليس على المرء، هنا، البينة، فهو لا يدعي لكي تكون عليه، وعلاماتها فوائض تفيض عن الإفادة والبيان. هل نحتاج إلى تذكير بأن الاستبداد بغى واشترس حتى بات في وسعه أن يهرق الدم، ويزهق الأرواح، ويرش الناس بالرصاص القاتل، كما ترش الحشرات ببخاخ المبيدات، من دون أ يرف لجلاوزته جفن، بعد أن يكون قد عاث فساداً في الأبدان والنفوس والأعراض، فخنق الحريات، وصادرها منعاً أو سجناً، وأغلق الأفواه والصحف، وأخرس الألسنة، وأهان القضاء، وزوّر الانتخابات، وصمم الدستور على مقاسه، وتزوج السلطة والولايات الرئاسية مثنى وثلاث ورباع وما ملكت الأيمان، وورّث السلطة - أو كاد- كما تورث الأملاك الخاصة، وحقر المرأة وأهان كرامتها بحرمانها من حقوقها الإنسانية البدائية، وأخرجها - ومعها نصف المجتمع- من الحياة العامة؟

ثم هل نحتاج إلى تذكير بأن الفساد طغى واستكبر، وخرج من السر إلى العلن، وبات فجوراً بواحاً لا يخشى في الباطل لومة لائم، وأنه وزع الغنى الفاحش على أقل القليل، على أقل القليل، والفقر والإملاق على أكثر الكثير، وسرق الثروة والحقوق العامة، وارتضع من أثداء الدولة والقطاع العام من غير حدود، وأثقل ظهر الدولة والمجتمع بديون ينوءان بحملها، وكرس المحسوبية والاستزلام وعلاقات الولاء، وأنجب جيشاً عرمرماً من أخذان السوء والمصطنعين والمرتزقة والانتهازيين: قوة احتياطية وذخيرة حية في حرب السلطان على الشعب؟

هل ننسى أن الفساد آل إلى نظام كامل: له جيشه، وأمنه، ودركه، وجمركيّوه، وموظفوه، وإعلامه، ومثقفوه، وإعلاميّوه، وفقهاؤه أو حاخامته، وقضاته، ووزراؤه، ونوابه في البرلمان. وبات له نظام - قيمي ينتشر ويفشو، ويجد له من يتعهده بالرعاية والصيانة وكأنه من المواريث أو شيء بهذه المنزلة؟

كيف، إذن، لا تندلع هذه الثورات وقد تهيأت لها هذه الأسباب كافة؟

هل وضعت الثورة - حيث اندلعت وقامت- حداً للاستبداد والفساد، فحكّمت الاقتراع، والدستور، والقانون، والرقابة، والشفافية، قواعد حاكمة وكابحة، وضامنة لكفالة الحرية والعدالة الاجتماعية؟ لن نقول مثل غيرنا: لننتظر حتى نقشع الصورة أوضح، بعد زوال العجاج. وإنما نقول صادقين: إن المعركة ضد الاستبداد والفساد ستظل مستمرة وممتدة، فليس الاقتراع النزيه مدفنها، وإنما تكسب - فقط- حين تستأصل من الرؤوس والنفوس، أعني من الثقافة: وليس ذلك مما هو - اليوم- في حكم الإمكان. لابد، إذن، مما ليس منه بد: لا بد لثورة بدأت من أن تستمر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2177628

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

27 من الزوار الآن

2177628 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 26


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40