الجمعة 27 كانون الثاني (يناير) 2012

الميدان نسف النموذج التركي

الجمعة 27 كانون الثاني (يناير) 2012 par الفضل شلق

في 25 يناير 2012، عادت جماهير مصر إلى الميدان، فيما بدا أنه ثورة أخرى، أو استعادة الثورة، في وجه الأخوان المسلمين والعسكر.

بعد أن وضع الإسلام السياسي نفسه في تحالف مع العسكر وفاز في الانتخابات النيابية، بدا وكأن الأمور تتجه نحو تحقيق تمنيات البعض في أن يكون انتصار الأخوان الانتخابي صعوداً لما سُمّي بالإسلام المعتدل على غرار تركيا. ظن الكثيرون أن النموذج التركي يطبق هنا أيضاً.

بعض النخب الثقافية والسياسية عند العرب ترى في تطبيق النموذج التركي مطلباً، وترى في هذا المطلب أمراً طبيعياً نظراً للتشابه الظاهر في المذهب عند الأكثرية التركية والأكثرية العربية عموماً، والمصرية خصوصاً. يراد اعتماد نموذج واحد متنقل بين بلد وآخر بغض النظر عن الاختلافات. ويتم التجاهل أن نقل تجربة إلى بلد آخر، ومحاولة فرضها على شعب آخر، هو بمثابة تأسيس جديد للاستبداد، هو إلغاء للثورة ومفاعيلها، هو ثورة مضادة؛ هو إحكام سلطة خارجية، هو عودة التحكم الخارجي، هو أمبريالية أخرى تسترجع الاستعمار الغربي والحكم العثماني بطربوش الإسلام التركي المعتدل. وقد عبّر داوود أوغلو منذ زمن عن سروره بذلك، عندما اعتبر المنطقة العربية مجالاً حيوياً للمصالح التركية في كتابه الشهير «العمق الاستراتيجي» المترجم إلى العربية.

لا اعتراض على إسلام معتدل أو غير معتدل، ومن حق أي تنظيم أن يخوض الانتخابات، وأن يفوز بها أو لا يفوز؛ ومن يفز يحكم؛ هذا مع العلم أن مسيرة الانتخابات النيابية غير مسيرة الثورة. الثورة تعبر عن نبض الناس؛ تأتي من تحت. الانتخابات النيابية تخاض بين النخب؛ تأتي من فوق. وقد كثر الكلام في الانتخابات المصرية عن تدفق الأموال الانتخابية.

في مصر شرعيتان: شرعية الميدان وشرعية البرلمان؛ وقد برهنت الذكرى الأولى للثورة المصرية أن النزول إلى الميدان لم يكن من أجل الاحتفال وحسب، كما أراد الأخوان المسلمون والعسكر، بل كان من أجل تأكيد شرعية الميدان. شرعية الميدان تؤكد أموراً عديدة يحاول التحالف الإسلامي العسكري طمسها: من الحرية إلى العدالة الاجتماعية، إلى الكرامة والعيش الكريم، إلى مطالب محددة هي خروج العسكر من الحياة العسكرية وتحديد موعد للانتخابات الرئاسية، وإخراج المعتقلين السياسيين. نجح المصريون في وضع الميدان فوق البرلمان والمؤسسة العسكرية. في تركيا وُضع الجيش، تحت سلطة المدنيين، وهم الإسلام السياسي. في مصر وُضِعَ الإسلام السياسي والعسكر تحت سلطة الميدان برغم أن الانتخابات النيابية لم تكد تنتهي بعد. خاف المصريون على ثورتهم، ورأوا خطورة الاكتفاء بالانتخابات، أو رأوا في اعتماد مسار واحد، هو مسار الانتخابات، خذلاناً لمطالبهم، فأكدوا مساراً ثانياً، هو مسار الثورة، على أن لا يلغي واحدهما الآخر.

رأى المصريون خبث الشعار المرفوع لاعتبار النموذج التركي مطلباً مصرياً، أو عربياً، والأمر لا يتعلق بالأتراك والموقف منهم، بل يتعلق بالنخب العربية السياسية وموقفها من شعوبها. شاركت هذه النخب، أو بعضها، في الثورة المصرية، ومن شارك من الطبقات العليا التي تخاف استمرارية الثورة، أو التي لا تريد أكثر من ثورة محدودة تكتفي بإسقاط رأس النظام مع الإبقاء على مؤسسات الاستبداد؛ هؤلاء رفعوا شعار النموذج التركي من أجل اكتفاء الثورة بالانتخابات النيابية الديموقراطية وإلغاء الميدان. ربما كان معظم الذين شاركوا في ميدان التحرير، لم يسمعوا بالشعار التركي، لكنهم شاركوا خوفاً على ثورتهم، ومنعاً لمصادرتها، وشعوراً منهم بأنه قد جرى اختطافها.

يبدو التظاهر في الشارع عملاً خارج القانون. تبدو الانتخابات الديموقراطية هي العمل السياسي القانوني الوحيد. لكن الانتخابات تكاد تلغي السياسة إذا جرى الاقتصار عليها

واعتبارها النهاية لا البداية. تميل النخب المنتخبة إلى الاعتقاد بأنها أخذت تفويضاً انتخابياً يجعلها بمنأى عن المراقبة والمحاسبة، ويخوّلها اتباع أية سياسة تريد. من دون الضغط الشعبي تميل النخب المنتخبة إلى انتهاج سياسات تعبر عن مصالح طبقتها الضيقة، وحسب. لا بديل عن الانتخابات النيابية والبرلمان. لكن الديموقراطية تنبع من الميدان. يوسّع «الميدان» أفق السياسة ويفتحها للطبقات الدنيا التي تنتخب ولا تنتخَب. الميدان هو ما يؤكد ديموقراطية الانتخابات، وليس فقط صندوق الاقتراع.

تحكم مصر الآن مؤسسة عسكرية مغلقة، تسيطر على أكثر من 30% من الاقتصاد المصري. وتكاد تشكل طبقة مستقلة؛ وهي منذ اتفاقية كامب دايفيد محاطة بالأسرار التي لا يُعلَمُ مضمونها إلا بمعرفة الاتفاقيات الجانبية والسرية المعقودة مع الأميركيين وإسرائيل. لذلك كان الجدل في المجال العام حول الميزانية العسكرية. رُفِضَ أن تبقى بنداً واحداً في موازنة الدولة. هو تعبير عن رفض استمرارية الأسرار «الأميركية الإسرائيلية» في الدولة المصرية. هو جدل حول استقلال مصر أو تبعيتها. وعلى الأخوان المسلمين الذين يستعدون للعب دور رسمي كبير أن يتخذوا موقفاً من هذه الأسرار ومفاعيلها، من اتفاقية كامب دايفيد ومفاعيلها، من تبعية مصر واستمراريتها فيها وراء واجهة «أخوانية إسلامية».

لا يُحسم هذا الجدل إلا في الميدان. الميدان هو ما يبين من جبل الثلج، لكنه يُفصح عمّا فيه. الخروج من السرّ إلى العلن هو مطلب الميدان. وهو مطلب يتعلق بكل شيء آخر؛ يتعلق بمصير الشعب المصري. يتعلق أيضاً بالمصير العربي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 50 / 2180815

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2180815 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40