الأربعاء 25 كانون الثاني (يناير) 2012

(سنة أولى ميدان): من مصر إلى تونس عبر ليبيا

الأربعاء 25 كانون الثاني (يناير) 2012 par طلال سلمان

تغيب البهجة عن الاحتفال بالذكرى الأولى لانفجار مصر بالثورة، بعد أسابيع محدودة من احتراق النظام التونسى بالنيران التى التهمت جسد محمد البوعزيزى فى بلدته الجنوبية.

لقد جاء زمن الهموم والقلق ومواجهة المسئوليات الجسام وأخطرها الجواب على السؤال المقلق: إلى أين من هنا؟

ثم إن «الميدان» قد فقد وهجه بعدما انقسم حشده حول السلطة ومن اجلها، وانفرطت وحدته موفرة مساحات فراغ سرعان ما شغلها «الدين» أو احتلتها «الدول» أو سارع إلى «شرائها» من يملك المال أو يقدر على استحضاره أو يقبل به مددا يفيد منه فى عملية التغيير.

أما فى تونس حيث انتصرت الانتفاضة بأسرع مما توقع أهلها فقد حكم الاستعجال إعادة بناء السلطة مما استولد «جمهورية ثالثة» تحاول القطع مع طغيان بن على فإذا هى تصطدم مع الدولة المهجنة التى لا تزال تحمل ملامح الحبيب بورقيبة.

أما ليبيا التى كانت انتفاضتها اضعف من أن تسقط نظامها الأبدى الذى أشاده القذافى فى غيبة شعبها الذى ألغى وجوده تماما فقد وجدت نفسها تعود بالحنين إلى زمن الملكية السنوسية، وبقوة نيران الحلف الأطلسى إلى الحقبة الاستعمارية ولو مموهة بأن «محرريها» الجدد لا يطلبون منها الا نفطها وموقعها الاستراتيجى تاركين لقبائلها وعناصرها التى لا يكفى الشعار الإسلامى لتوحيدها أن تندفع نحو الحرب الأهلية التى تتخذ من بنغازى منطلق الانتفاضة، صاعق التفجير.

ومع أن الشعار الإسلامى يرفرف عاليا فى هذه الجمهوريات الثلاث إلا أن ارتفاعه فى العواصم وفى خطب القيادات الجديدة لا يعنى أن الأمر قد حسم وان الغد هو مجرد امتداد فى الزمن للانتصار السياسى الذى تدعمه صناديق الانتخابات أو التفاهمات العشائرية كما فى ليبيا.

وباختصار فقد خبأ إشعاع الأحلام والآمال التى أطلقتها الانتفاضات العربية بأسرع من التوقعات التى افترضت أن زمن التغيير الثورى الشامل قد جاء فعلا منهيا «زمن الردة» وحالة التبعثر والتهافت وافتقاد المعنى التى عاشتها، وأطول مما يجب، الأمة العربية التى فككت أنظمة الطغيان فى أقطارها عرى القربى ووحدة المصالح والمصير.

وبعد الفرح الغامر ونشوة الإحساس بالانتصار ــ شعبيا ــ على أنظمة الطغيان بدأ يتسلل شعور بالخيبة لأن كل انتفاضة أقفلت أبواب «قطرها» أو «دولتها» على ذاتها وغرقت فى همومها الداخلية مرجئة الالتفات إلى خارجها، وتحديدا إلى المحيط العربى بضرورة تنظيف البيت وإصلاحه أولا.

ولان الانتفاضات الشعبية بدأت ــ بمجملهاــ عصيانا مدنيا شاركت فيه الجماهير التى قد تتباين مطالبها وان هى أجمعت على التغيير، فسرعان ما تبين أن «القوى المنظمة» وسط بحر الهياج العام هى وحدها القادرة على القفز إلى موقع القرار.

وهكذا فقد وصل إلى السلطة، أو هو فى الطريق إلى تسلمها قريبا، من كان مستعدا للوثوب إليها، وليس كل تلك الملايين التى تحركت بقوة الرغبة فى التغيير، بل والحاجة الملحة إليه.

ومع عدم إغفال التضحيات التى قدمها الإخوان المسلمون بالذات، وفى أقطار عدة سجنا واضطهادا وإبعادا، فمن الضرورى التذكير بان «الشعب» بفئاته المختلفة سياسيا وفكريا واجتماعيا، قد دفع من حقه فى حياة كريمة فى دولة تحترمه كمواطن وتلبى تطلعاته مفيدة من قدراته، مثل ما دفع أى حزب سياسى وأكثر.. لا سيما وان هذا الشعب بمجموعه لم يكن يتطلع إلى الاستيلاء على السلطة بل كان يطالب بحقه فى أن يختار سلطته بإرادته الحرة ومن اجل تحقيق أهدافه فى الحرية والعدالة الاجتماعية والمكانة التى تليق بتاريخ نضاله وبقدراته الفعلية.

لا بد طبعا من التنويه بالقدرات والخبرات التنظيمية التى يتمتع بها التنظيم العريق للإخوان المسلمين، ومعهم شريكهم المضارب من السلفيين، والتى مكنتهم من أن يحصدوا نتائج غير مسبوقة فى الانتخابات النيابية، مما يؤهلهم لان يكونوا شركاء أساسيين فى القرار فى «دولة ما بعد الانتفاضة» سواء فى تونس، كما تم فعلا، أو فى مصر كما تدل نتائج الانتخابات النيابية.

لكن نتائج «الصناديق «لا تعكس فعليا الحجم الشعبى لهذين التنظيمين الإسلاميين اللذين تطاردهما اتهامات كثيرة، وان ظلت تؤشر على إتقانهم اللعبة الانتخابية وخبراتهم المتراكمة فى التكتيك والمناورة والتحالفات، متى ومع من وكيف تقوم.

بالمقابل فإن هذه النتائج قد كشفت افتقار شباب الميدان إلى حسن التنظيم وتأطير العمل الشعبى، والى الخبرات والى التواصل المباشر مع الجماهير التى لبت نداءهم فجاءت إلى الميدان بمئات الألوف وربما بالملايين لتعلن رفضها للنظام القائم، ثم لم تجد عندهم الجواب عندما سألت عن النظام البديل.

فى أى حال، فإن السلطة الجديدة القائمة فى تونس، والتى ستقوم فى مصر ليست هى التجسيد الكامل لشعارات الثورة ومطامح الميدان.

وليس هذا طعنا فى وطنية هؤلاء الذين أوصلتهم الانتخابات إلى مواقعهم فى السلطة الآن، فبينهم ــ ولا شك ــ مناضلون تحملوا السجن والنفى والاضطهاد وهم يستحقون كل التقدير.

لكن السؤال عن برنامجهم فى الحكم، عن توجهاتهم الفعلية وسياساتهم التى سوف تعتمد سواء فى الداخل، أو مع الخارج.

فلم يكن هدف الثورة إسقاط رأس النظام، وكفى الله الميدان شر القتال..

لم تكن المشكلة مع الحكام الذين أسقطهم الميدان أنهم كانوا فاسدين ومفسدين فحسب، بل أنهم قد خانوا الأمانة فزوروا هوية البلاد واخذوا الوطن إلى مهاوى العجز وافتقاد المكانة والدور وحق القرار فى شئونه، ورهنوه للخارج فى السياسة كما فى الاقتصاد، فى التربية والتعليم كما فى الاقتصاد والاجتماع.. ثم إنهم خرجوا من معركة الأمة جميعا فى فلسطين، بلا تبرير!

كانت تونس بلا هوية وبلا دور: اختطفها الدكتاتور وقدم قرارها رهينة لدى المهيمن الأمريكى مستبقيا حصة للمستعمر القديم، الفرنسى، وسمح لإسرائيل بأن تتحرك فيها ومنها وكأنها «حليف»، فإذا ما تطرف عرض نفسه «وسيطا» مع صاحب القضية: الفلسطيني!

أما مصر فقد ألغى رئيسها المخلوع دورها، وأهان موقعها الحاسم فى القرار العربى كما فى القرار الأفريقى ومن ثم فى القرار الدولى، وجعلها «تابعا» بعدما كانت «قائدا» مسلما له بمرجعيته سياسيا وفكريا وثقافيا..

بل انه قد جعلها شاهد زور فى القضية الفلسطينية، وذهب ابعد من ذلك حين ساند فى حالات مشهودة، العدو الإسرائيلى ضد الشقيق الفلسطينى بذريعة استرضاء الصديق الكبير فى واشنطن وطمأنة العدو السابق، إسرائيل، إلى التزام حكمه بمعاهدة الصلح وموجباتها وفيها الغاز والكهرباء والاتفاقات التجارية والفراغ فى سيناء.. ما عدا شرفة شرم الشيخ التى جعلها ارض اللقاءات الحميمة مع العدو الذى كان وما زال وسيبقى العدو، كما تدل سياساته العقائدية التى بلغت ذروتها باعتبار فلسطين التاريخية دولة يهود العالم وانتزاعه اعترافا دوليا بهذا القرار العنصرى.

المسألة، إذن، تتصل بالهوية والدور، أكثر مما تتصل باحترام الصناديق الانتخابية وما قررته بالنسبة لشاغلى مواقع القرار فى مرحلة ما بعد الانتفاضة.

لم تكن لتونس سياسة عربية، فى زمن طغيانها الهارب من العدالة، بل هى قد ابتعدت ــ عملياــ عن مختلف القضايا العربية، وكانت تلك خسارة للعرب، بقدر ما هى خسارة لتونس.. وخدمة مجانية لإسرائيل.

والحقيقة أن «وجود» فلسطين فى الميدان، أى ميدان وكل ميدان، هو الشهادة بثورية المتلاقين فى افيائه، والتوكيد العملى لهويتهم وبالتالى لمبادئهم الهادفة إلى تغيير الواقع المرفوض والمهين.

ليس الإسلام هوية سياسية، وهو أعظم وأجل من أن يكون شعارا لدولة. انه الدين الحنيف لمليار وثلاثمائة مليون مؤمن تتراوح عقائدهم ومواقفهم السياسية بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.

بل إن الإسلام السياسى قد يتحول إلى عامل تقسيم بين أبناء الوطن الوحيد، وسواء أكانوا من المسلمين من أتباع مذاهب مختلفة، أو من أتباع دين أو أديان أخرى.

وليست تجربة تركيا تحت حكم الإخوان المسلمين (العدالة والتنمية) نموذجا باهرا للدول العربية.

فحكم الإخوان فى تركيا لم يؤثر على السياسات الخارجية والدفاعية التى كانت معتمدة من قبل.. فما زالت تركيا عضوا فى الحلف الأطلسى، ولا تزال مرفوضة من دخول الاتحاد الأوروبى برغم إلحاحها الذى بلغ فى بعض الحالات حدا يسىء إلى كرامتها، كما أن علاقتها بالعدو الإسرائيلى لا تزال الأوثق حتى تكاد تكون «تحالفا متينا» بدليل أن قتل تسعة متطوعين أتراك عزل على ظهر باخرة «الحرية» لم تهزه.

وإذا كان العذر فى ذلك أن تركيا ليست دولة عربية، وليس بينها وبين إسرائيل حالة عداء، فيمكن التساؤل عندئذ عن موقع فلسطين فى الحكم الإسلامى التركى، لا سيما بالمقارنة مع موقع إسرائيل.

ليست الانتفاضات العربية بلا هوية قومية..

فأعلام فلسطين والدول العربية الأخرى كانت تخفق على امتداد أيام الاحتشاد فى ميادين رفض حكم الطغيان بمختلف ممارساته فى الداخل، وعلى المستوى العربى، أساسا وإزاء إسرائيل تحديدا، ثم على المستوى الدولى.

ولا يمكن أن تنتهى الانتفاضات بتجريد البلاد من هويتها، بذريعة الانشغال بالداخل.. فالداخل يشمل المنطقة العربية جميعا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 42 / 2165277

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165277 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010