الأحد 15 كانون الثاني (يناير) 2012

تركيا : «تسعير» المشاكل بدل تصفيرها

الأحد 15 كانون الثاني (يناير) 2012 par عريب الرنتاوي

ما من نظرية ذاع صيتها في «الشرق الأوسط» خلال العقد الفائت مثل نظرية «تصفير المشاكل» لصاحبها أحمد داود أوغلو، مهندس السياسة الخارجية التركية في طبعتها الأردوغانية.. وما من نظرية تعرضت للاهتزاز السريع والهبوط المتسارع مثل هذه النظرية، حتى إنها تكاد تنقلب إلى نقيضها بالكامل، ولهذا استحقت أن توصف بنظرية «تسعير» المشاكل بدل تصفيرها.

اليوم، وبعد سنوات قلائل على إطلاق هذه النظرية والتبشير بها، تجد الدبلوماسية التركية نفسها في حالة اشتباك ساخن، مع قوس من الأزمات الممتدة من أرمينيا التي يتنقل ملفها من الكونجرس إلى «الكنيست»، مروراً بإيران والعراق وسوريا والعراق، وانتهاء بقبرص بأزماتها القديمة والجديدة، والتي باتت الاستكشافات الهيدروكربونية في مياهها ومن حولها، مصدراً إضافياً لتعقيدها، وسبباً إضافياً لإدخال لاعبين جدد على خطوطها المعطلة وخيوطها الشائكة.

وبدل أن يكون «العمق الاستراتيجي» وفقاً لأوغلو، فضاءً مفتوحاً للعبة السياسة والمصالح والتحالفات، العابرة للقوميات والمذاهب والأقوام، وميداناً رحباً لاختبار «القوة الناعمة»، وحقلاً غنياً للتعاون والتعاضد بين دول المنطقة وشعوبها، يبدو أن هذا العمق، قد أخذ يتقلص مع تفاقم «المسألة السورية» ويتموضع وفقاً لجغرافيا الانقسام المذهبي الذي يشق المنطقة برمتها، ويكاد يشطرها إلى معسكرين مصطرعين، لكأن في أنقرة من بدأ يفكر جدياً هذه الأيام، القيام بدور «الناطق باسم الإسلام السني»، والساعي لزعامة هذا العالم في غياب زعامته التقليدية وتفاقم شيخوختها.

وثمة ما يشي بأن هذا التحوّل في إدارة السياسة الخارجية التركية، قد أتى منسجماً مع جملة من التبدلات والانتقالات في مواقف أنقرة ومواقعها على خريطة التحالفات الإقليمية والدولية، والتي بدأت باستعادة دفء العلاقة مع واشنطن بعد قمة أوباما - أردوغان الأخيرة، ومرت بتفعيل «البعد الأطلسي» في سياسة أنقرة حيال الدرع الصاروخي، وتزامنت مع انفتاح غربي واسع على «الإسلام السني» المقرب من النموذج التركي، الإخواني بخاصة، ولم تنته بتهدئة ملفات الخلاف مع «إسرائيل» وتجميدها، أو على أقل تقدير دفعها للخلف.

ولقد انعكست هذه التطورات بشكل واضح في زيارة أوغلو الأخيرة لطهران، حيث وصفت مهمته هناك بأنها «أطلسية» بامتياز، لعب خلالها الرجل دور «ناقل الرسائل».. وبعدها بأيام قليلة تصريحاته اللافتة للانتباه، والداعية إلى «التغيير» في العراق ولبنان، حيث تتولى حكومة الغالبية الشيعية مقاليد الحكم في الأولى، فيما الائتلاف المُشَكِّل للحكومة في الثانية، يستند إلى تحالف «أمل» و«حزب الله» وحليفها العوني المسيحي (الأكثري).

لقد أثارت هذه التصريحات غضباً شديداً في بغداد وبيروت، بالطبع في أوساط القوى السنيّة، والتي لم تصل في صراعها مع حكومات بلادها إلى ما وصلت إليه دعوات أوغلو للتغيير.. لكأن الرجل أراد أن يكون سنيّاً في هذه الدول، أكثر من السنة أنفسهم، فكان ما كان من ردات فعل حادة، صدرت عن قوى الثامن من آذار في لبنان، وحكومة المالكي في العراق، لا سيما أن دعوة أوغلو للتغيير في هذين البلدين، تزامنت مع تصريحات له، حَمّل فيها إيران مسؤولية الصراع المذهبي الذي يشتعل في المنطقة، وأعقبت دعوات تركية رسمية متكررة برحيل الأسد وإسقاط نظامه، ودعم تركي غير مسبوق للمعارضة السورية، بما فيها ذراعها العسكري، ممثلة بما يسمى «جيش سوريا الحر».

أفضت هذه التطورات في السياسة الخارجية التركية، إلى تحويل أنقرة من مشروع «حكم» و«وسيط» إلى «طرف» في كثير من صراعات المنطقة ونزاعاتها، وأفقدتها القدرة على القيام بدور «إطفائي الأزمات والحرائق» فيها، بعد أن كانت الجهة المؤهلة أكثر من غيرها، لمثل هذه الأدوار. لقد فقدت أنقرة قدرتها على بذل «مساعٍ حميدة» بين سوريا و«إسرائيل»، بداية لتدهور علاقتها مع «تل أبيب»، ولاحقاً لتدهور علاقتها بدمشق، ولا أظن أن أحمد داود أوغلو بات مرحباً به من قبل نصف اللبنانيين وأكثر من نصف العراقيين، وربما بما يتجاوز ثلثي السوريين وثلاثة أرباع الإيرانيين، فكيف لدبلوماسية مشتبكة مع كل هؤلاء أن تزعم بأنها نجحت في تصفير مشاكلها مع جوارها القريب والبعيد؟!. كيف لها أن تمارس أنماطاً من «القوة الناعمة» و«دبلوماسية النموذج»، كيف لها أن تكون «جسراً» بين الأفرقاء، وكلمة جسر هي من الكلمات غير المحببة لدى أوغلو ولم يرغب في استخدامها لوصف موقع بلاده ومكانتها، مستعيضاً بحديث «العمق الاستراتيجي» وتركيا كمركز إقليمي دولي ناشط ومتفاعل ومبدع للأفكار والمبادرات.

بعد سنوات عشر سمان من حكم العدالة والتنمية، يبدو أن تركيا في علاقاتها الخارجية، وبعد سلسلة الأرقام القياسية التي سجلها وزير خارجية تركيا في زياراته لعواصم المنطقة ولقاءاته مع قادتها، يبدو أن أنقرة في طريقها لاستعادة بعض صور أزمنة العزلة والانكفاء في علاقاتها مع محيطها الإقليمي، ما لم تُجرِ السياسة التركية مراجعة ثانية، عميقة وشاملة، لمقارباتها لملفات الإقليم، لا تقل عمقاً وشمولاً عن تلك المراجعة التي أجراها أوغلو لسياسات أنقرة في السنوات والعقود الماضية.

وإذا كان ربيع العرب قد وفّر لأنقرة مساحات واسعة من حرية الحركة والمصالح والنفوذ في عدد من الدول والعواصم العربية، وهو أمر لا تستطيع تركيا أن تدّعي الفضل فيه، فإن هذا الربيع المُحمّل بالفرص، يبدو محمّلاً بالتحديات كذلك، ولعل الطريقة التي أدارت بها أنقرة وتدير، سياساتها السورية، هي أكبر وأخطر محك لامتحان مجمل فرضيات السياسة التركية ونظرياتها، بدءاً بـ «تصفير المشاكل»، ومن يعش ير.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165842

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2165842 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010