الجمعة 6 كانون الثاني (يناير) 2012

تونس : حكاية الصفعة التي أشعلت الثورات

الجمعة 6 كانون الثاني (يناير) 2012 par د. سمير التنير

«يا أيها البطل العربي فينا.. تمهل. عش ليلة أخرى لنبلغ آخر العمل المكلّل. عش ساعة أخرى لنبدأ رقصة النصر المُنزّل» [**(محمود درويش)*]

ماذا كان الناس يقولون عن محمد بوعزيزي الذي استشهد في مثل هذه الأيام من العام الماضي؟ تقول أمه إنه كان متفائلاً ومرحاً. يقول آخرون إنه كان حزيناً. أما بعد استشهاده فقال الناس عنه إنه أصبح أيقونة. أصبح قديساً. أصبح رمزاً. لم يعد بشراً.

من الصعب إعادة الكتابة عن التجربة الفاجعة التي حدثت في بلدة سيدي بوزيد يوم 17 كانون الأول عام 2010. هل تلقى محمد بوعزيزي صفعات الشرطية فايدة حمدي، أم لا؟ تختلف الحكايات. ما هو مؤكد أن الرجل وقف أمام سلطة باغية تنتزع منه كرامته الإنسانية. أما الحريق الذي حدث بعد ذلك فقد أصبح أسطورة عمت العالم بأسره.

يروي فوزي حمدي، شقيق فايدة، حكاية أخرى. كان في منزله القريب من الساحة الرئيسية في البلدة عندما أتت أخته وهي تبكي: «لقد أحرق محمد نفسه». وروت له الحادثة كما وقعت ولكنها لم تقل شيئاً عن الصفعة. كان فوزي حمدي يعمل مدرساً للجغرافيا والتاريخ في ثانوية البلدة، كان من عائلة وقفت دائماً إلى جانب النظام الاستبدادي. وكان والده مفوضاً في الشرطة، يخدم الدولة بإخلاص مثل أخته فايدة. ولكن فوزي كان نقابياً. وعُد من ضمن المعارضة في البلدة، وكان يشارك في التظاهرات المطالبة بزيادة التقديمات الاجتماعية، وغالباً ما كان يتلقى إهانات الشرطة وضرباتهم. وعندما أتت أخته إلى منزله باكية، قرر فوراً الذهاب إلى ساحة البلدة كي يرى ما الذي حدث. وفاجأته جموع تحاول الدخول إلى بناية البلدية. قالوا له إن أخته فعلت ما فعلت ونصحه شرطي بالعودة إلى منزله.

عندما عاد سأل أخته عما فعلته، ولكنها حلفت انها لم تصفع محمد بوعزيزي. أخذها بعد ذلك إلى منزل والديه الذي يبعد 30 كيلومتراً عن البلدة. وعاد هو إلى الاشتراك بالتظاهرات.

بدأت المصادمات بين الآلاف من شبان سيدي بوزيد وبين الشرطة. وقد استعمل الشبان الحجارة أما الشرطة فاستعملت الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع. وبعد ان توسعت التظاهرات وامتدت، كان بن علي يرسل كل يوم فرقاً جديدة من الشرطة إلى بلدة سيدي بو زيد.

قام بن علي في يوم 28 كانون الأول بزيارة محمد بوعزيزي في المستشفى. ودعا أمه لمقابلته في القصر الرئاسي. كان يريد تهدئة الناس. وأمر بإجراء تحقيق مع فايدة حمدي. ثم وضعت في سجن قفصة. بعد أيام قليلة يفارق محمد بوعزيزي الحياة. وبعد عشرة أيام يهرب بن علي إلى مدينة جدة في المملكة العربية السعودية.

كان البطل يرقد في قبره. أما فايدة فكانت تجلس في سجنها في مدينة قفصة.

انتشر خبر إحراق محمد بوعزيزي لنفسه بسرعة مذهلة في كافة أرجاء البلاد. وسارع علي بوعزيزي، أحد أقربائه الذي يملك محلاً للبقالة في البلدة، ويعد كذلك من الناشطين السياسيين في صفوف المعارضة، إلى مكان الحدث ومعه جهازه الخلوي من طراز «سامسونغ» وبدأ يصور فيلماً يظهر جسد محمد بوعزيزي المحترق وهو ينقل إلى سيارة الإسعاف.

استمر علي في تصوير تظاهرات الاحتجاج الشبابية حتى المساء. ثم أخرج الفيديو وأدخل الموسيقى المناسبة ثم بعثه إلى شبكة «فايسبوك»، واتصل من ثم بقناة «الجزيرة» التي بثته كاملاً في المساء. ثم تكلم مع القناة شارحاً ظروف المأساة. كان يتكلم باسمه الحقيقي. وقال إن الشرطية فايدة صفعته وامتهنت كرامته. قال إن محمد بوعزيزي خريج جامعات. قال إن متخرجي الجامعات لا يجدون عملاً. وفي اليوم التالي خرج الشبان إلى الشوارع في مدن أخرى. وأدى التظاهر الصاخب إلى وقوع قتلى، مما أشعل البلد بكامله.

وضعت صور محمد بوعزيزي الكبيرة على الجدران. واحتفل به كشهيد، وحمل الشبان صورته كأيقونة للحرية، وهم يجوبون شوارع المدن التونسية. ووصلت التظاهرات إلى جادة الحبيب بورقيبة في العاصمة.

راج بعد ذلك التفكير في الأسباب التي أدت إلى الفاجعة.

وهل كان محمد بوعزيزي ينوي حقيقة إحراق نفسه. هل كان يريد التهديد بذلك فقط؟ هل ثمة أسباب أخرى لا يعرفها أهله وأصدقاؤه؟ هل حدث ذلك فجأة؟ ولماذا لم يتدارك الناس الأمر قبل ان يلقي بعود الثقاب على جسده المبلل بالبنزين؟ لا.. كل ما في الأمر انه أراد استعادة كرامته المهدورة.

بعد ثلاثة أشهر أحيلت القضية إلى قاض أراد معرفة ما حدث بالضبط. وعند التحقيق سحب بعض الشهود أقوالهم السابقة بشأن حادثة الصفعة، وأبطلت شهادة الآخرين باعتبارهم أقرباء للبوعزيزي.

عندما ظهرت فايدة حمدي في المحكمة قوبلت بتجمع أخذ يهتف : «الحرية لفايدة» ثم حكمت المحكمة ببراءتها. إن الصفعة لم تحدث. وفي يوم 19 نيسان عام 2011 خرجت فايدة من سجنها.

لاحقت الشائعات منوبية والدة البوعزيزي. قالوا إن بن علي أعطاها تعويضاً يبلغ 20 ألف دينار. كما أعطاها الصحافيون ومحطات التلفزة مبالغ كبيرة من المال، وأرسل لها بعض أثرياء الخليج شيكات وتحويلات مالية. وقد ظهرت منوبية بوعزيزي في احتفالات بلدة سيدي بوزيد في 17 كانون الأول الماضي من دون ان تظهر عليها بعض علامات الثراء المزعوم. الشهادة ليست للبيع.

ما الذي يحدث في بلدة سيدي بوزيد بعد عام على المأساة؟ لا يزال الناس يتجمعون أمام بناية حاكمية الولاية، في المكان الذي أحرق البوعزيزي نفسه. هم يتكلمون عن المستقبل الذي فُتحت أبوابه. كما يدفع بائعو الخضار الجوالون عرباتهم بحرية بعد ان اختفى جلاوزة بن علي المكروهون.

يدفع رضا عم البوعزيزي عربته الحاملة لكافة أنواع الخضار والفواكه. وهو يستعين بعكاز كي يستطيع دفع عربته إلى الأمام. وعندما يصل الى بيته المتواضع المؤلف من غرفة فيها سريران وجهاز تلفزيون. كان البوعزيزي يجلس بقربه، بعد ان يضعا العكاز على السرير الآخر. يجلس رضا الآن وحيداً من دون ابن أخيه المحترق، ودموعه تنهار من عينيه، إلى العكاز الذي يحمله بين يديه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2181141

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2181141 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40