الأحد 1 كانون الثاني (يناير) 2012

مشروعيات ومحرمات

الأحد 1 كانون الثاني (يناير) 2012 par د. حياة الحويك عطية

رسالة الكترونية تلقيتها من طالب شاب ملتزم بأحد التيارات القومية النضالية يكتب لي، من فرنسا، معلقاً على مقالاتي الأخيرة حول الوضع في سورية، معلقاً على ما كتبته حول حريق دار العلوم في مصر ومقارنته بحريق مكتبة المخطوطات في العراق، ليوجه لي سؤالاً استنكارياً : ألا تعتقدين أن الأنظمة العربية هي المسؤولة عن تربية مواطنين يقدمون على إحراق وتدمير تاريخهم وتراث أمتهم؟.

اشكر قارئي على ملاحظته وأؤيده تماماً، بل أضيف إليها أن الكبت والحقد إزاء السلطة الحاكمة هو أمر قديم مترسخ في الذاكرة الجمعية لشعبنا، منذ المرحلة العثمانية، وخاصة أيام سفربرلك، حتى مرحلة الاستعمار الأوروبي : فرنسي، بريطاني، ايطالي، وأخيراً مرحلة الأنظمة العربية المونارشية او الشمولية، والأمنية في الحالين. حيث أصبح انعدام إحساس المواطن بحقوقه كانسان، بحقوقه كمواطن، بكرامته الإنسانية وكرامته الوطنية هو ما يشحنه كبتاً وحقداً قد يجعلانه مستعداً للإقدام على كل الجرائم. غير أن هذا الاستعداد لا يتحقق إلا في حالتين : حالة الجهل وانعدام الوعي الاجتماعي السياسي، وحالة الانهيار الأخلاقي، وكلتاهما مرتبطة بالأخرى. وهنا أيضاً لا يمكن إنكار مسؤولية الأنظمة عن إغلاق مجالات الصراع الفكري الحقيقي، والحريات العامة، التي تشكل الوعي، وعن عدم توفير مجالات الثقافة والمعرفة التي ترتقي به.

من هنا يكون مطلب التغيير والسعي إليه، واجباً وطنياً مقدساً على كل من يعتقد انه يمتلك وعياً وطنياً، ويسعى الى تعميمه. واجب لا يمكن القول بان المجتمعات العربية لم تمارسه خلال العقود الماضية، وان الوطنيين العرب لم يقدموا التضحيات الجلية في سبيله.

لكن الإقرار بكل ذلك يجب ألا يجرنا الى ثلاثة أمور :

الأول أن مطلب الإصلاح لا يجوز أن يصبح غطاء يستغله الأجنبي الطامع في الهيمنة على بلادنا وتدمير قدراتها، - غطاء للعودة بقواته العسكرية وشركاته متعددة الجنسيات وشركاته الأمنية الحامية لهذه الشركات، لمصادرة ثرواتنا وإفقار شعوبنا وإذلال مواطنينا والحؤول دون تشكل الدولة الحديثة، ودون أي التزام بأية قضية عربية وبأي توجه وحدوي أياً يكن شكله.

الثاني أن لدى شعوبنا قدرات ذاتية وموروثاً تاريخياً نضالياً قادرين، وبحراك شعبي داخلي على إحداث التغيير وفرض الإصلاحات الحقيقية، حتى ولو استغرق بها الأمر وقتاً.

ولعل أبرز دليل تاريخي على ذلك، هو أن أول برلمان عربي مثل سورية الطبيعية كلها هو ذاك الذي اقره المؤتمر السوري الأول عام 1920، وتمت الانتخابات في كل المناطق وفق قانون «المبعوثان» حيث كان مطبقا خلال المرحلة العثمانية، ووفق قانون الشورى العشائرية حيث لم يكن، وفي دمشق عقد البرلمان الأول ممثلاً لكل المناطق وكل المواطنين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم واتنياتهم. لكن الفرنسيين دفنوا هذه الديمقراطية الوليدة كما دفنوا يوسف العظمة وزير الدفاع الذي قاد مقاومة الجيش السوري ضدهم. ويتوازى هذا الإرث الديمقراطي السياسي بمثيله في مصر، مما يثبت أن الشعوب قادرة على أن تعيد هذه التجربة بصبر نضالي ووحدة بعيدة عن الشرخ الطائفي والمذهبي المدمرين، وبعيدة عن التدخل الفرنسي، التركي، الوكيلين عن التدخل الأمريكي، ولا يمثل الثلاثة إلا عناوين لثلاث أحقاب استعمارية دمرت بلادنا واحدة تلو الأخرى.

الثالث ، انه إذا كان المتفق عليه أن الديمقراطية قوة، فهل يعتقد ساذج أن الدول الغربية بما تمثله من مصلحة أمريكية في الحفاظ على هيمنة الإمبراطورية على العالم، عبر تحقيق الهيمنة على «الشرق الأوسط الجديد»، ومن مصالح أوروبية اقتصادية، ومن ارتباط الجميع بالحفاظ على مصلحة «إسرائيل»، تريد للدول العربية وخاصة سورية أن تصبح أقوى؟ سؤال يطرح أيضاً فيما يخص تركيا التي لم يعد أمامها إلا الهيمنة على العرب، لكي تكون قوة إقليمية، تعوض فرصة الالتحاق بالمجموعة الأوروبية، وتأخذ حصتها في اقتسام المنطقة العربية بعد انهيارها. هيمنة لا تتحقق بسورية قوية وندية.

الرابع أن مناقشة أكثر تدقيقاً وتخصيصاً لا بد وان تمر بقصة الغاز، بمقولة كيسنجر حول النفط : «انه النفط ياغبي !!» التي تحولت اليوم الى انه الغاز. ومن هنا صراع خطي نوبوكو وخط السيل الجنوبي، ودور قطر وليبيا وسورية، وغاز المتوسط كله في هذا الصراع المصيري لأوروبا، أمريكا، روسيا، والجميع بالتالي.

الحل؟ الحل إذن هو السعي لأجل الإصلاح والتغيير بالوسائل الشعبية السلمية، بعناد وإصرار، وبروح وطنية ترفض العنف وترفض الطائفية وترفض التدخل الأجنبي، وترفض التنازل عن ثوابتها.

أما وقد غطى الدم الأرض، فان الحوار يصبح أكثر صعوبة، لكنه يصبح أكثر ضرورة وحتمية لمن لا يريد له أن يتحول الى سيل يجرف سورية الدولة وسورية الوطن، ومن ورائها المشرق العربي كله. فالأحقاد لا تبني مهما كانت مشروعة، والانتقام لا يبرر مهما كان مفهوماً، لكن الانتقام من الوطن ومن الذات لا يندرج إلا في واحد من سياقين : الجهل او العمالة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2166056

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2166056 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 25


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010