السبت 31 كانون الأول (ديسمبر) 2011

الثورة يفجرها المجانين ويقطفها الجبناء!

السبت 31 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par صقر أبو فخر

استبشر العرب بربيع سنة 2011، ولا سيما بعد الانتفاضة في تونس ومصر. لكن ربيع العرب تحوّل إلى أنهار من الدم في ليبيا، وها هو يتحول إلى أزمة دموية مستعصية في سوريا واليمن. ولعل ذلك مدعاة للإحباط بعد الوعد بالحرية والديموقراطية والتغيير والازدهار. وأكثر ما يخيفنا، ولا سيما في فلسطين، أن تعم النزاعات الأهلية معظم البلدان العربية، وحينذاك، ستضيع قضية فلسطين في معمعان الفوضى العربية الجديدة.

الآن، يحق لنا أن نتساءل، في خضم ما يجري حولنا في العالم العربي : هل دخلت المنطقة العربية في عصر التدخلات الخارجية مجدداً؟ هل ستمهد الفوضى العربية التي تلوح في الأفق للتدخل الأجنبي في بلادنا، الأمر الذي يعيدنا إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى؟ ما جدوى هذه الانتفاضات، مع مشروعيتها وضرورتها، إذا كانت ستعيدنا إلى عصر الانتداب الغربي، وإلى التحكم الأجنبي بإرادتنا السياسية وبقرارنا الاقتصادي؟ وأبعد من ذلك، وقبل ذلك كله، أين موقع فلسطين في الانتفاضات العربية الجارية الآن؟

[**الحرية أولاً وأخيراً*]

لا يستطيع الفلسطينيون، مهما يكن انتماؤهم السياسي أو الفكري، ان ينكروا على أشقائهم العرب سعيهم إلى الحرية وتطلعهم إلى الديموقراطية، لأنهم، بكل بساطة، هم المعنيون، قبل جميع العرب، بالحرية: حرية شعبهم وحرية وطنهم. فمن العار على مَن قدم آلاف الشهداء في سبيل الحرية أن يقف ضد طلب الحرية في العالم العربي. لكن الأمور لا تجري الآن على هذا النحو من البساطة. وبعض المجتمعات العربية، مثل سوريا، ينجرف نحو الحرب الأهلية المتمادية. وفي هذه الحال ستتمزق هذه المجتمعات تمزيقاً دموياً، وستتطاير الحرية فيها هباء منثوراً، لأن الحرية والحروب الأهلية والنزاعات المحلية أمور لا يمكن ان تلتقي في مكان واحد.

[**فلسطين والانتفاضات العربية*]

الراجح ان الانتفاضات العربية الحالية لا تمتلك حساسية قومية واضحة نحو فلسطين، وتكاد كلمة «فلسطين» لا ترد في مواقف معظم قادة هذه الانتفاضات إلا لماماً، وبصورة خجولة، أو في سياق الإجابة عن أسئلة الصحافيين. وعلى سبيل المثال، فإن السفارة «الإسرائيلية» في القاهرة لم تتعرض لحجر واحد طوال أيام الانتفاضة المصرية. لكن، بعد مقتل الجنود المصريين الستة في سيناء تحركت الوطنية المصرية، وهاجمت الجموع مقر السفارة «الإسرائيلية». ونقل الصهيوني الفرنسي برنار هنري ليفي إلى نتنياهو، على لسان مصطفى عبد الجليل انه وعده بعلاقات وطيدة بين ليبيا و«إسرائيل» في ما بعد. وبرنار هنري ليفي نفسه الذي أيد علناً قصف المدنيين في غزة في سنة 2008 وفي سنة 2009، عقد في باريس ندوة «قواعد اللعبة» في 4/7/2011 حضرتها مجموعة من أصدقاء «إسرائيل» ومن المعارضة السورية. ولم يتورع السوري ملهم الدروبي (من الإخوان المسلمين) ومعه لمى الأتاسي عن حضور هذه الندوة. فكيف يطالب هذا السوري بوقف القصف عن شعبه وهو يلتقي من ينادي بقصف الفلسطينيين؟ وحتى «وثيقة الأزهر» الصادرة في تشرين الثاني 2011 لم تذكر فلسطين البتة.

قبل ذلك، قدمت الثورة الفلسطينية دعماً معروفاً للثورة الأرتيرية، وما إن استقلت هذه الدولة عن الحبشة حتى بادرت إلى افتتاح سفارة لـ «إسرائيل» في عاصمتها أسمرة. وكان أول ما قامت به دولة جنوب السودان هو إقامة علاقات فورية مع «إسرائيل» وزار رئيسها سيلفا كير «إسرائيل» قبل أن يزور الخرطوم. والرئيس العراقي جلال الطالباني الذي طالما تلقى الدعم من القادة الفلسطينيين (ومن الشهيد وديع حداد) لم يتورع عن التصريح بالموافقة على عودة اليهود الأكراد إلى شمال العراق. ومع أن هذا الموقف ربما يُفسر بالموقف الإنساني البسيط، إلا انه لم يطلب عودة الفلسطينيين إلى ديارهم. وبعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين تقاطر، في الوقت نفسه، على «إسرائيل» كثير من العراقيين أمثال كنعان مكية ونجم والي وعبد القادر الجنابي، ومثال الألوسي الذي صار نائباً في البرلمان العراقي، ولم يقل لهم أحد لماذا فعلتم ما فعلتم، حتى أن كنعان مكية (أو «سمير الخليل» صاحب كتاب «جمهورية الخوف») قال، لمزيد من المهازل، إنه لم يرَ مشهداً أجمل ولا صوتاً أبهى من صوت القصف حين بدأت الطائرات الأميركية تلقي بحممها النارية على العراق في شباط 2003. وعلى هذا الغرار تجرأ برهان غليون في مقابلة مع «وول ستريت جورنال» على بيع أوراقه مجاناً فقال : «إن سوريا ستقطع علاقاتها بإيران و«حزب الله» و«حماس» فور وصول المجلس الوطني إلى الحكم في سوريا». وأضاف : «إن استعادة هضبة الجولان تكون بالمفاوضات وليس بالصراع المسلح» (السفير، 3/12/2011). وعقد راشد الغنوشي زعيم «حزب النهضة الإسلامي» ندوة في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» شدد فيها على التنسيق مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وامتدح الموقف الأميركي من الحراك الثوري العربي، وقال : «إن حل الصراع الفلسطيني ـ «الإسرائيلي» يعود إلى الطرفين (...). أنا مهتم بتونس فيما الآخرون مهتمون بفلسطين وليبيا. الجميع مهتم بمصلحته الخاصة، ومصلحتي هي تونس». ونفى الغنوشي وجود أي نص في الدستور التونسي الجديد يحظر إقامة علاقات مع «إسرائيل» (السفير، 3/12/2011). أما يسري حماد المتحدث باسم «حزب النور» السلفي المصري الذي يرأسه عماد عبد الغفور، فقد أعلن في مقابلة مع إذاعة الجيش «الإسرائيلي» في 21/12/2011 ان حزبه سيحترم اتفاقية السلام المصرية ـ «الإسرائيلية»، وهو لا يعارض هذه الاتفاقية على الإطلاق.

[**ما السر؟*]

من الصعب الإحاطة، على وجه الدقة، بالأسباب الجوهرية لانحسار حضور قضية فلسطين في خطاب الانتفاضات العربية. ربما لأن القضية الفلسطينية نفسها تعاني انحطاط فصائلها وتشرذم الفلسطينيين، وانقسام المجتمع على نفسه، ولا سيما بعد الانقلاب الدموي في غزة في سنة 2006. إلا أنّ من الممكن وضع بعض الخطوط العامة كمحاولة أولية للإجابة عن ذلك. وفي هذا الميدان يمكن ان نرصد الظاهرة التالية : إن معدل العداء لـ «إسرائيل» والصهيونية يتفاوت كثيراً بين جماعات الإسلام السياسي في هذا البلد العربي أو ذاك. فبينما نجد في فلسطين عداء كاملاً لـ «إسرائيل» لدى المجموعات الإسلامية السياسية، نرى أن البعض أمثال المفكر الإسلامي محمد قطب كان يرفض اعتبار فلسطين قضية العرب الأولى، وكان يرى أن قضية فلسطين مجرد واحدة من قضايا المسلمين الأخرى مثل قضية الشيشان وجنوب الفلبين وقبرص وتايلاند وغيرها. ومهما يكن الأمر، فإن الحركة الإسلامية في فلسطين لم يكن لها شأن يُذكر في النضال الوطني، وكانت ذريعة «الإخوان المسلمين» ان الأولوية هي لإصلاح الفرد وبناء المجتمع الإسلامي الصحيح قبل إعلان الجهاد. وهذا كان يعني، عملياً، تأجيل ثورة التحرر الوطني إلى أحوال وشروط ربما لن تتحقق. وبناء على هذا التصور أو الاعتقاد استنكف الإسلاميون، طوال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، عن المشاركة في النضال الوطني. والمعروف أن عدد المتطوعين الذين أرسلتهم جماعة الإخوان المسلمين إلى فلسطين في حرب 1948، وهم من مصر وسوريا والأردن وأقطار أخرى، بلغ 417 متطوعاً فقط. وهذا يُعتبر عدداً ضئيلاً لحركة فاق عدد أعضائها المليون في تلك الفترة. وبعد نكبة 1948، برز تيار القومية العربية وتيار اليسار، لكن معظم الجماعات الإسلامية السياسية وقف مع السعودية والأردن آنذاك ضد مصر وجمال عبد الناصر. وعند إعلان قيام حركة «فتح» عارضها الإسلاميون لأنها دعت إلى تأسيس دولة ديموقراطية في فلسطين، وكذلك عارضوا منظمة التحرير الفلسطينية لأنها ـ بحسب دعايتهم ـ منظمة علمانية، ورفضوا الانضمام إليها، مع أنهم لم يجدوا حرجاً في العمل في إطار النظام الأردني والنظام المصري اللذين وقعا معاهدتي سلام مع «إسرائيل».

■ ■ ■

لا ريب في أن التيار الإسلامي يمتلك حضوراً قوياً في الانتفاضات العربية، وهذا ما بات واضحاً في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا. غير ان الواضح تماماً أن حضور قضية فلسطين ليس قوياً في الأدبيات السياسية لهذه الانتفاضات. فهل ان وهن علاقة الإسلاميين العرب بقضية فلسطين هو السبب في ذلك، أم ان هناك أسباباً أبعد من ذلك؟ والجواب يحتاج إلى مزيد من التأمل.

كان يُقال إن الثورات التاريخية الكبرى كالثورة الفرنسية والثورة الروسية خطط لها العقلاء والمفكرون، وفجّرها المجانين، وقطف ثمارها الجبناء. أما اليوم، في عصر الثورات العربية الجديدة، فقد صرنا في سديم محيّر لا نعرف تماماً من يفجرها، لكننا نعرف أن العملاء يتدافعون اليوم إلى قطف أزهار الرمان عن شجيراتها الجميلة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 56 / 2178500

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2178500 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40