السبت 31 كانون الأول (ديسمبر) 2011

عام 2011 : التاريخ يبدأ من هنا

السبت 31 كانون الأول (ديسمبر) 2011 par نصري الصايغ

عام، لا يشبه أعوام العرب.

هو زمن آخر مولود. حبله دائم. الميادين شهادته ومعموديته. هو عام لا يتوقف عند حدود نهايته. غداً، في مطلع العام الجديد، تتوالى ولاداته. العام الجديد، له موهبة التقليد والإبداع. يتصل بمبدئه ويبدع تقليد البدايات الدائمة.

العام 2011، لم نرَ شبيها له من قبل، سنشهد من يتشبه به من بعد.

هو عام القطيعة التامة مع قرن من الأعوام الخائبة. هو عام القطيعة المنجزة، مع زمن عربي، داوم على الإقامة في الكهف، بحراسة أنظمة أجيرة ومأجورة ومستأجرة وجائرة.. هو عام القطيعة المبرمة، مع تواريخ، هذه سيرتها :

عام 1920 : مذبحة التقسيم. سقوط الثورة العربية. اعتقال حكومة الدولة العربية الحديثة الأولى. نشوة غورو: «ها قد عدنا يا صلاح الدين». ولادة لبنان المقتطع والمتقطع. سيطرة الانتدابين.

عام 1920، ميسلون الأولى، وامتحان الهزيمة، ووشم الأمة بسايكس ـ بيكو.

عام 1925 : مذبحة الثورة السورية الكبرى. تدمير أحياء دمشقية. تبعثر الثوار: سلطان باشا الأطرش بلا نصير. والأمة تلجأ إلى المسالمة والمصافحة. التقاء الحاجة بالغدر.

عام 1936 : الثورة المغدورة في فلسطين. أطول إضراب ينتهي بفتح الأبواب للتنازل والتبادل. نهاية القائد عز الدين القسّام. فلسطين وحيدة، والغرب يتولى عن العرب عملية الوأد، إكراماً للوعد، الموقع باسم بلفور.

عام 1948 : النكبة المدبرة. التسليم بغصة بالاحتلال. الشتات الفلسطيني. سفر الخروج بلا عودة. الخيام المكدسة في صقيع «الأوطان الشقيقة». مذلة الأسماء. لاجئ منها. مخرب منها. ارهابي منها... هو عام التأسيس للهزائم، بعد ميسلون الأولى.

أعوام الانقلابات العسكرية. من على منصة فلسطين. سرقت الحريات، وافتتحت المعتقلات، وتبدى تواطؤ الاستبداد مع الاحتلال.

أعوام الناصرية، أضواؤها المشعة، خبت واعتمت.

عام 1958 : عام الوحدة المصرية السورية. عام النشيد العربي : «كل العرب أوطاني». عام الأمل بلباس عسكري. تجندل الأمل بالقمع. سقط في أقنية التعذيب. لم يبق زعيم سوري في سوريا. الدولتشه فيتا وطن الجالسين على الكراسي، بانتظار فنجان قهوة أو كاتم صوت. (فرج الحلو، غسان جديد واللائحة طويلة).

عام 1961 : عام الانفصال. ثلاثة أعوام من الحب والحقد، من الأمل والحزن... لا وحدة بعد الآن... هو عام الانفصالات القومية. عام القطريات والفطريات الكيانية والاتنية والطائفية... لا وحدة بين عرب. العسكر يفهم بالأمر. يخاف من الحرية. العسكري كرجل الدين، ضد التفكير، مع الاتباع، ضد الإبداع.

عام 1967 : عام «أم الهزائم». ليست نكسة. هذا اسم دلال، للفجيعة. ضياع فلسطين بكاملها، وسقوط القدس شبه الأبدي. «إسرائيل» الكبرى في فلسطين الكبرى. سقوط الجولان، ولا تزال. سقوط سيناء ولما تشفَ من فراغها... هو عام لبستنا الهزيمة. صرنا بشراً يهيمون في كل يأس. صرنا نبحث عن كسرة سلاح. عن «فتح» و«جبهة» وانها لثورة حتى النصر. فلا ظلت ثورة ولا نصر جاء.

هو عام سقوط الأنظمة كلها. عام لم يتبق منه للعرب، غير لاءات الخرطوم الثلاث... ان بحثتم عنها فلن تجدوها اليوم ولا من زمان.

عام 1973 : عام تشرين وأكتوبر والعبور. اكتمل نصابه الجلل، في الخيمة كيلو 101. ثم التوقيع في كامب ديفيد. غرّدت مصر في السرب الغربي. ضاع العرب بين العواصم، فاختاروا القتال بالمزايدة، أو بالمناقصة. ولم تطلق منذ ذلك الحين طلقة.

عام 1975 : هو عام البوسطة. عام الدخول اللبناني الواسع في المجزرة. الطوائف تقاتل بأسنانها وأسلحتها. المقاومة الفلسطينية تغرق في الرمال الدامية. العرب يتدافعون لينقذوا بلداً، فورطوه في محاورهم. فازت دمشق، خسر اللبنانيون. فاضت المقاومة عن الوطن. بات مطلوباً إخراجها نهائياً... وهاكم ما حدث :

عام 1982 : عام الاجتياح «الإسرائيلي» الثاني للبنان. بيروت لا تركع ولا ترفع الرايات. تقاتل وحيدة، وحيدة، وحيدة حتى الثمالة. اليمين اللبناني الطائفي يرتكب الخيانة كسياسة معلنة. دشن اليمين الطائفي عصر «شرعية التعامل مع الشيطان». صارت الشرعية منتشرة عربياً. من لا يعترف بها، تنزع عنه الشرعية الدولية... هو عام المجزرة. صبرا وشاتيلا علامة للازمنة السوداء. مقتلة بدم وحشي. إبادة صغرى، بحجم قضية كبرى. هو عام السقوط اللبناني في الدم، وخروج الفلسطيني إلى البحار الجافة... ولكم كانت الدموع بحجم «مديح الظل العالي».

أعوام الخليج : بارقة، الثورة الإيرانية، وفلسطين قبلتها، انطفأت في حرب مجنونة، قادها صدام حسين، باسم ملوك وأمراء الخليج، وبرعاية أميركية فرنسية. «العدو الفارسي»، تعويض عن تقصير في مواجهة العدو الصهيوني. غرق العراق في المذبحة. ما كان عراقـا، صار عراكاً... حرب من أجل تصفية الثـورة الايرانيـة، انتهت بتـصفية العـراق وركوعه ثم سجوده ثم سقوطه تحت الاحتلال... أي جنون هذا؟ أي أعوام هذه؟

وتوالت أعوام بأسماء كالحة. عام الفورة النفطية. قال القصيمي : «يا نفطنا، يا عارنا، يا ذلنا، يا كل شيء ضدنا». كان على صواب. نفط العرب للعرب، ترجمه الحكام العرب، نفط العرب ضد العرب. توالت أعوام في اليمن التعيس، في السودان المنقسم باسم الدين، «وتعالوا إلى حرب سواء كأعداء». أخذت ليبيا إلى حتفها الحيوي. أخذت الجزائر إلى موتها البشع بأيديها. العسكر يتبارى مع «الإنقاذ» و«الجهاد» في القتل والسحل. ولا يفوزان.
أعوام من الخوف والاغتيالات والدسائس والصراعات والبيع والشراء وتجارة القضايا كالرقيق الأبيض... أعوام مرت على شعوب تتمرس على إتقان الخوف، وممارسة الجنس كالبكاء، وتذوق المرارات كرغيف خبز. أعوام من الاستبداد الداخلي، حيث الإنسان أصغر من حيوان كائن. أحط من صرصور. أقل من حشرة. أعوام عربية، تسير خبط عشواء، وشعوب تفضل فضيلة الجبن وتقبيل الأيدي، وممارسة الانسحاق والتطوع للالغاء لقاء شيء وحيد فقط: النجاة من جزمة السلطة.

أعوام شاهقة من الظلم. لا قياس لهذا الاستبداد. قرن كامل من الاستعباد الداخلي والاحتلال الخارجي... وجاء من قال: كفى، وأزف العام الحالي، ممتشقاً قامته كقبضة، متوهجا كلهب، متنبئاً كالرسل: «هذا صوت صارخ بالحرية، أعدوا الطريق للمسار الطويل». لم يكن يوحنا المعمدان، حامل هذه البشارة بالمسيح. كانت الأمة كمريم العذراء، تهز النخلة من المحيط إلى الخليج... هزي النخلة يا مريم لقد جاء المخاض بالخلاص والمخلص.

ومن تونس، كانت الآية الأولى، واكتمل النص بكلمة واحدة: «ارحل». خاف ورحل. والتتمة معروفة، أما ما لم يحدث بعد، فمعروف أنه تأخر قليلا، لكنه لن ينتظر طويلاً.

عام 2011 : عام الأعوام القادمة. مثله، العام 2000: حيث كان الانتصار الأول الحاسم في لبنان على الاحتلال «الإسرائيلي» : «لقد ولى عصر الهزائم»، قال السيّد. وبالفعل، لقد ولّى. عدوان تموز برهان. رصيدنا الآن كبير: أمام «إسرائيل» أنظمة لا تخشاها، تود بقاءها، تتمنى تأبيدها. وأمامها أيضا، مقاومة، تحرّض الأمم والدول والعالم عليها... و«لا يقوى عليها أحد».

العام 2000، دشن عصر الانتصار على الاحتلال الخارجي.

العام 2011، دشن عصر الانتصارات على الاستبداد الداخلي. لقد سقط من سقط، وسيسقط من يجب ان يسقط. لن يتوقف العام 2011 عن الحضور، حتى تنتصر الحرية، ويعاقب الاستبداد، بالالغاء التام.

العام 2011، هو عام عربي لا شبيه له، وهو عام عالمي. هو «وحي» حيّ يوصى بواسطة وسائط التواصل الاجتماعي، بواسطة رسل «الفايسبوك» و«التويتر»، بواسطة جيل يحمل جسده سلاحاً. قبضته قنبلته. دمه ترسانته. شهامته تضخ بسالة. ضعفه ووهنه نفحتان من غضب وثورة. جيل، بناته ونساؤه (من تونس إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن والبحرين) في مواقع الجدارة والمواجهة. لا يهبن سحلاً. لا يخفن شرطياً. لا يردعهن متسلط.

العام 2011 : هو عام الطلاق التام مع أعوام الهزائم والمرارات، والشعوب التي لاكت حياتها كعلكة فاسدة مرة الطعم. هو عام يتدفق ويتدفق ويتدفق، لا تتسع له أيام وأسابيع وشهور وفصول. عام بكل اللغات. عابر لأزمنة القسمة. عام عبر جبل طارق إلى أوروبا، من اسبانيا تدحرج صعوداً حتى روسيا. عبر الأطلسي، حتى بلغ مغارة اللصوص الدولية المحروسة بحراب البورصة وأسلحة التدمير المالية. بلغ وول ستريت، ولم يتوقف بعد.

العام 2011، بدء التاريخ من هنا. قبله، كان التاريخ ليس عربياً، وليس ديموقراطياً، وليس حراً. قبله، كان يقال: الجثة العربية، التخلف العربي. الانحدار العربي. القاع العربي. أما ما بعد 2011، وما بعد بعد هذا الزمن، فليس لنا أن نقول سوى: التاريخ الجديد، يبدأ من هنا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165420

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165420 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010